كادقلى: الملف الاسود .. ضحايا الطابور الخامس. -{1}

294

إيهاب مادبو يكتب ..

سلسلة حلقات توثيقية عن جرائم الانتهاكات الانسانية بجبال النوبة خلال الثلاثون عاما.

( الطابور الخامس ( Fifth column)‏ مصطلح متداول في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي نشبت عام 1936 واستمرت ثلاث سنوات وأول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال إميليو مولا أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة على مدريد وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار فقال حينها إن هناك طابورًا خامسًا يعمل مع الوطنيين لجيش الجنرال فرانكو ضد الحكومة التي كانت ذات ميول ماركسية يسارية من داخل مدريد ويقصد به مؤيدي فرانكو من الشعب، وبعدها ترسخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكى والراسمالى)

تحت هذا المصطلح كان يتم التعذيب والقتل والتنكيل للضحايا وسط صمت وتعتيم اعلامى …

لم تجرى ايا من المحاكمات لهؤلاء الضحايا الذين كانوا يحلمون بوطن تسود فيه قيم العدالة والمساواة قبل ان يشهد خور العفن جنوب كادقلى فصول المأساة الانسانية فى ابشع صور لتلك الانتهاكات ومصادرة الحق فى الحياة لمجرد الاختلاف السياسي الذى اصطلح عليه عسكريا فى منطقة يحكمها “البوت” ب”الطابور الخامس” وهو مصطلح فضفاض يكفى الاتهام به ان يحيلك الى عوالم كارثية …

خور العفن تكفل هو الآخر بستر الفضيحة بعد ان عجز السفاحون والقتلة فى مواراتها الثري …

احاديث المدينة “كادقلى ” التى كانت اشبح بغرفة مظلمة فى ليليلة مطرية حالكة الظلام تتحدث مجالسها سرا عن فظائع خور العفن وعن صور لجثث واخرى لجماجم واشلاء بشرية جرفتها مياه الامطار خارجا لتكون شاهدا على فصول تلك المأساة الانسانية فى ابشع صور الانتهاكات الانسانية …

ابرياء كانوا يحلمون بغدا افضل وحياة انسانية تحترم فيها كرامتهم قادتهم الاقدار الى اهوال الجحيم والموت السمبلة …

كان يتم الاعتقال من البيت او مكان العمل او فى السوق بواسطة عناصر الاستخبارات التى عادة ما ترتدى الزى المدنى ويتم اقتيادهم الى حيث المجهول حيث يقبعون هناك بداخل الزنزانات ايام من غير محاكمات او تحرى او حتى اتصال مع ذويهم الى ان يتم”تفسيحهم” وهو المصطلح الذى تعارف عليه ويعنى قتلهم …

اننا حينما نفتح هذا الملف الاسود من الجرائم ضد الانسانية فاننا نزيح الصديد عن الجرح الغائر فى انسانيتنا للبحث عن اجابات مشروعة للانتهاكات واسعة النطاق تمت ضد ابرياء فى ظل صمت المؤسسات السياسية والقانونية مثل القضاء والشرطة والنيابة … صمت تلك الاجهزة عن كل تلك الجرائم وهى بالتالى شريكا فيها ..

جهاز الاستخبارات فى تلك الفترة كان امبراطورية تحيط بها الاوهام “استيك” حيث ابسط شجار كفيل باحالتك الى عظام تحت مصطلح الطابور الخامس الذى كان عبارة عن غطاء عسكرى لعمل ممنهج ضد الانسانية بما يرتقي لجرائم الابادة الجماعية …

ولطالما ان العدالة الانتقالية تعنى بجملة من التدابير القضائية وغير القضائية من اجل معالجة الورثة المثقلة بالجراحات والانتهاكات ضد الانسانية والتى من ضمنها الملاحقة القضائية ولجان الحقيقة وبرامج جبر الضرر من اجل رد الحقوق لهؤلاء الضحايا وجبر ضرر اسرهم التى تضررت من تلك الجرائم …

فى السنة الاولى من انقلاب الانقاذ وتحديدا فى العام 1990م حضرت عربة لاندروفر على متنها افراد بالزى المدنى فى المساء حيث قاموا بإقتياد مساعد طبي اسنان محمد نوار اسو من عيادته بمستوصف شداد الطبي بكادقلى الى الحامية العسكرية وقد باءت محاولات اسرته لفك اسره بالفشل حيث منعت عنه الزيارة بل حتى السؤال عنه كانت جريمة …

جلست الى اسرته بعد ان استرجعت زكريات اعتقاله برائحة الدم وطعم الالم حيث ذكر ابنه المهندس السنوسي محمد نوار وهو شاب فى مقتبل العمر ان والده خرج فى ذلك اليوم كالمعتاد الى مكان عمله بالعيادة ولكنه لم يعود فى زمانه الذى تعودت عليه الاسرة وقد شهدت كادقلى فى تلك الفترة حملة اعتقالات شرسة ضد ابناء المنطقة وقد تخوفت الاسرة من المصير المجهول الا انها لم تكون تعلم ان مصير والدها هو ذات المصير الذى سبقه اليه اخرون حيث ان المقبوض لن يعود …

 

حملة الاعتقالات كانت ضد ابناء النوبة بشكل ممنهج بما يرتقي لجريمة الابادة الجماعية ضد هذا الشعب حيث شهدت كادقلى اسوء مجزرة انسانية فى تاريخها الانسانى اذ كان الموت “سمبلة” هو المشهد التى تشكل على اساسه مسرح العبث الايدولوجى لجماعة الاسلام السياسي وكانت عربات الاعلام الجماهيري تخرج بميكرفوناتها تحث المواطنين على الحضور لميدان الحرية لمشاهدة الجثث دون ادنى وزاع انسانى لكرامة الموتى ..

 

فى ظل هكذا احداث سلكت اسرة الشهيد محمد نوار اسو كل الطرق ولكنها باءت بالفشل تماما حيث تعثرت خطواتهم عند السؤال الاعتراضي

“القال ليكم هو معانا هنا منو!!!” ..

وكانت الاجابة هى ماتكفل بها خور العفن فى الكشف عن تلك الجرائم حيث ان الارض كانت اصدق من الجميع…

وكادقلى حينها كانت مدينة تتوسدها دموع الحسرة والندم والمصير المجهول حيث غادر جميع ابناؤها المدينة مرغمين الى مدن اخرى …

 

محمد نوار اسو بجانب انه نطاس بارع فى طب الاسنان الى انه كان انسانا يحمل قلبا طيبا يشهد له بذلك زملاؤه بمستشفي كادقلى التى شهدت موجة من الاعتقالات والتمييز القبلي والدينى .. كان ملاكا بجانب مهنته الملائكية التى لاتفرق بين المريض على اساس لونه او دينه ..

ذهب كالمعتاد الى عيادته للكشف عن حال المرضي ولكنه لم يكون يعلم انه المشوار الاخير فى حياته والى الابد فى رحلة مجهولة المصير … ذهب وكان يحمل معه مشرط وحقنة فقط…

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *