فضيلي جمّاع: في رثاء موسى جمّاع: الرزق أقسام ، وأعلاه مرتبة أن يحبك الناس.!!

191

الأستاذ فضيلي جماع

فضيلي جمّاع: في رثاء موسى جمّاع: الرزق أقسام ، وأعلاه مرتبة أن يحبك الناس.!!

لماذا تتحجر الدمعة في العين أحياناً ولا تسيل؟ عجبت أنّ سحابات الحزن غطت المسافة بينى وبين شمس الفرح مذ قرأت خبر نعيك بعد دقيقتين من رفعه في الفضاء الإسفيري، ورغم ذلك فقد أبت دمعتي ان تسيل. بقيت الدموع في محجر العين حارة وقاسية! هذه سنة كبيسة بالأحزان. حطت رحلها الثقيل على كل بيت في الوطن، حتى لو أنّ خبر الموت يؤلَفُ لكنّا تلقينا خبرَ موتِك دون جزَع ودون آهة ! الحمد لله أنك بقيت في المدينة التي ولدت وترعرعت بها ولم تغادرها طيلة عمرك القصير إلا لغرضٍ طارئ. ومتى عدْتَ لحضنها تلقتك ابتساماتُ أهلِها من كلِّ طائفةٍ وعمر. وأمس حين استردّ الله أمانته ، بكتك مدينة المجلد كبيرها وصغيرها. فقد جاءني صوت أخينا الراكز العمدة يحي جمّاع في رسالة صوتية عقب مواراتك الثرى : (صدقني المجلد كلها كانت ساعة الدفن في المقابر)!

إنّ محبّة الناس – أخي الراحل المقيم موسى جماع – بعضُ هباتِ الخالق لبعض عباده. تذكّرت لحظتها قول الرسول الكريم: (إذا أراد الله بالعبد خيراً حببه إلى قلوب العباد)!! أحبّتك المجلد وأهلها لأنّ الرزق أقسام. ومن بين أصناف الرزق التي يهبها الله بعض عباده محبة الناس له. وأنت – رغم عمرك الباكر – عرفت كيف تقف إلى جانب المستضعفين والعجزة والفقراء من الأهل. أوصيتك مرة بفلانة – من قريباتنا للفحص – عليها في معملك الطبي الصغير ، مصدر رزقك المحدود. أتاني ردّك بعد يوم واحد: (أطمئن يا أستاذنا. قمنا بالواجب. وزودتها بالأدوية اللازمة. وأوعك تقول لي أحول ليك كم؟)

لفراق مثلك أخي موسى جمّاع تتحجر الدمعة في العين وتأبى أن تسيل. وهذا شيء موجع! لكن لا اعتراض على حكم الله. ونقرأ قول الله لنبيه في محكم التنزيل: “إنك ميت وإنهم ميتون”- (سورة الزمر – الآية 30) ، فلا نقول إلا ما يرضي الله.

في حوار سخي بين البروفيسور الأديب عبد السلام نور الدين وصديقه علي جمّاع الخبير السابق بالأمم المتحدة استدعته مناسبة رحيلك ، يطرح أخوك علي جماع سؤالاً وجودياً: (كيف يكسب من يسمى (واحداً من غمار الناس ) قلوبهم وهو لا يملك شيئاً أو جاهاً أو مالاً أو سلطة..في الوقت الذي يفتقر لهذا الحب من يملكون كل متاع الدنيا؟) جاء الحوار بين الرجلين وهما يضعان المقارنة بينك وبين الراحل المقيم عبد الله نور الدين الذي رحل في هدوء بالقاهرة التي جاءها مستشفيا قبل رحيلك بثلاثة أشهر. فبكته حلالات وقرى مدينة اب زبد التي ظلّ مرابطاً بإحدى قراها – (أم دقايق) مسقط رأسه ومسقط رأس أبيه الفقيه والعالم الوقور نور الدين حماد ، يعطي مما أعطاه الله ، ويتوسط في حل مشكلات الناس. لم تغره أبداً أضواء النيون في المدن الكبرى ! يجيب البروف عبد السلام نور الدين على سؤال علي جماع ضمناً في حوارهما القصير والفلسفي: ( علينا أن نقف في مثل هذه اللحظات المريرة التي نحس فيها بعمق فقد من نعرف ونعز ونحب : موسى جماع وعبد الله نور الدين – أن نقف لنتأمل كيف تأتّى لهما اختراق وإزالة مأزق هؤلاء المساكين للتعرف عليهم من الباطن ، وذلك بالضرورة ليس التحلي بالصبر فحسب ولكن أيضاً التمتع بفضيلة حب المساكين والإنتقال إلى قلوبهم والتحاور بندية معها.)

أذكر آخر لقاء لي معك – أخريات شهر نوفمبر 2019م. عدت للوطن من منفاي الإختياري بعد اندلاع ثورة ديسمبر 2018. كانت كردفان الوطن الأصغر في البال، وكانت المجلد آخر محطة في العالم أنوي التوقف عندها وتقبيل ترابها الطاهر النقي. جئتها ذات ضحى ومعي نفر من الإخوة والأخوات من قبيلة الصحافة والفنون والآداب. كنّا قد بدأنا زيارتنا الناجحة بلقاوة ثم الفولة وبابنوسة – المدن الكبرى لغرب كردفان. وعلينا أن نختمها بجنة تلك المنطقة المجلد أو (دينقا أم الديار) كما يحلو لأولادها وبناتها أن ينادوها. وقد أدهشتني وضيوفي حرارة الإستقبال في المجلد بالذات: سيارات وفرسان على ظهور الخيل. عرفت لاحقاً أنك على رأس اللجنة المنظمة للإستقبال. لا زلت أذكر ذات لحظة وقد سافر ضيوفنا .. قلت لي بأسلوبك المرح الساخر: ( لكين يا أستاذ دا استقبال ما حصل. وتستحق!) ولم تتركني استمتع بانتصاري الزائف ، أضفت : (لكن لو دخلت معاي دار الرياضة بخرطك !) وضحكنا للهزيمة التي أستحقها في حضرة جمهورك !

قمت رغم صغر سنك بالإنابة عنا في مجتمع يكبر قيم التواصل والتسامح. شغلتنا ظروف الحياة – نحن إخوتك الذين سبقناك في العمر – شغلتنا الوظيفة والمنافي القسرية. فبعدنا عن المجلد ، وطننا الأصغر ومسقط رأس الآباء والأجداد. وبعد رحيل الرجل الفارس الحكيم الوالد جماع عبد الله إلى الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل كان لابد لأحدنا أن يبقى في البيت. فالأسرة كعادة السودانيين تتشعب وتمتد فروعها في كل اتجاه. ويبقى بيت منها يفد إليه الغاشي والماشي. ولابد من مجالس فيه تربط وتحل. وقد قام أخونا العمدة – رجل القانون – بهذا الدور لحين من الدهر قبل أن تضطره الظروف للإنتقال بأسرته للخرطوم لتحل أنت محله. من يومها وأنت – رغم صغر سنك – تظهر مهارتك في إدارة التواصل بين الأهل. لا .. بل صرت أحد أبرز ركائز المجلد الإجتماعية ونجماً من نجومها في كل المحافل.

أعزي نفسي والأسرة والأهل قاطبة في رحيلك القاسي. وأعزي بصفة خاصة أصدقاءك وزملاءك في الحقل الطبي في فقدك الأليم. وعزائي الحار لرفيقة دربك المكلومة. أعانها الله وأعاننا في تربية الزغب الصغار وهم في حيرة اليوم لم غاب أبوهم؟ ولابد لي أن أشكر كل من اتصلوا معزين لنا في الفقد ، ومن رفعوا بوستات في الميديا ومن تداخلوا بكلماتهم الطيبة مخففين من حزننا المر في فقدك.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *