إسماعيل عبدالله يكتب: الغزو “المصري” للسودان.!!

56

الغزو “المصري” للسودان.!!

الاستاذ إسماعيل عبدالله.

 

ظل السودان ومنذ (استقلاله) رهين لمصر اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، ولم تكن الندية ماثلة في العلاقة بين الدولتين، ويمكن وصفها بعلاقة التابع بالمتبوع، وهذا الارتهان لعبت فيه النخبتان السياسية والعسكرية دوراً مفصلياً عبر جميع الحكومات المدنية منها والعسكرية، وأكبر دليل على تماهي هذه النخب مع المشروع المصري المهيمن والعامل على جعل السودان حديقة خلفية، تنازل السودان عن حصته في مياه النيل على الدوام، وانحناء الرئيس إبراهيم عبود وارتكابه لأعظم جريمة خيانة وطنية بتهجير أهالي مدينة حلفا الحدودية، والسماح لمصر ببناء السد العالي الذي بسببه غمرت المياه أرض النوبة بأكملها ومسحتها من الوجود، وطمرت حضارة عريقة من أفخم الحضارات الإنسانية الناهضة في العالم قبل عديد القرون، هذا غير الخضوع للغزو الثقافي والتدجين المعرفي واستلاب الوعي الذي بلغ ذروته إبان عهد الرئيس جعفر نميري، بتعديل السلم التعليمي ليواكب التطلعات المصرية، وكان وزير التعليم الأجدر بتمرير المشروع المصري هو محي الدين صابر – مصري الوجدان سوداني الأصل، فمنذ حكومة الاستقلال الأولى بزعامة إسماعيل الأزهري بدأ نزوح الوجدان السوداني شمالاً، وحدث الاستدبار للعمق الإفريقي، الذي نشطت بلدانه هذه الأيام بكل القوة لرأب الصدع بين الفرقاء السودانيين، فتحكم مصر بالسودان له مرجعية تاريخية حديثة مرتبطة باحتلال حاكم مصر محمد علي باشا وأتباعه من الأتراك للسودان لستين عاماً، إذ ما يزال أحفاد الغزاة الأوائل ينظرون لجغرافيا الأرض الخصبة الواقعة جنوبهم كمزرعة، ولقد قال أحد الناشطين المصريين ذات مرة أنه لا يعترف بدولة اسمها السودان، ما يؤكد الصورة الحقيقة للسودان في المخيلة المصرية، ومن مظاهر الوجود المصري المنتهك (للسيادة) الوطنية السودانية ذلك التغلغل الأمني المتمثل في ما يسمى بالري المصري.

بلغت التقاطعات السياسية ذروتها عند وصول الاخوان المسلمين – الجبهة الإسلامية القومية للسلطة في السودان، عبر الانقلاب العسكري الذي قاده العميد حينها عمر البشير المحسوب على تنظيم الاخوان، حيث تم خداع نظام حسني مبارك الرافض للإخوان في كلا البلدين، وذلك عندما أيّد مبارك الانقلاب ثم اكتشف بعد أيام أن الانقلابيين ليسوا سوى امتداد لذلك التنظيم الاخواني، الذي ظل يضيق عليه داخل مصر منذ اغتيال سلفه الرئيس المصري الداهية أنور السادات، وشابت العلاقة بين الدولتين الشد والجذب إلى أن ارتكب نظام الاخوان جريمة العصر، بالمحاولة الفاشلة لاغتيال حسني مبارك بالعاصمة الاثيوبية اديس أبابا، تلك النافذة العاصفة بالهواء البارد الصاعق (المكندش)، التي أصابت الاخوانيين بالبرد والسعال الحاد، حيث تم ابتزازهم بتلك الجريمة الإرهابية في الأوساط الدولية والمحلية، ما فتح شهية مصر لاحتلال حلايب واختها دون أن ينبس اخوان السودان ببنت شفة أو يقولوا (بغم)، تلك الحادثة أعادت اللجام لخياشيم الجماعة الإرهابية، فأسرجت مصر الفرس السوداني، واستمر ولاء النخب السياسية بما فيها النخبة الاسلامية التي حاولت فك اغلال العبودية دون جدوى، إلى أن ثار السودانيون في ديسمبر من العام 2018، فأسقطوا رأس النظام الذي خدم مصر تحت وطأة الابتزاز ثلاثين عاماً حسوما، فأصاب القلق والتوتر مصر الرسمية والشعبية، وركب العفريت رؤوس الفراعنة، وأصابتهم فوبيا فقدان الماء والكلأ بذهاب حارسهم الأمين، فطفقوا يعملون ليل نهار على تعطيل مسيرة الانتقال المدني، وقد قالها عباس كامل رئيس المخابرات المصري: (حمدوك لازم يمشي)، لقد ارتكب الدكتور عبد الله حمدوك رئيس وزراء حكومة الثورة السودانية المجيدة خطأ كبيراً، عندما أعلن عن مشروعه الاستقلالي الناشد للتعامل الندي مع مصر، في المؤتمر الذي أقيم بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية.

لم يهدأ بال مصر الرسمية بعد بزوغ فجر التغيير المؤدي لتأسيس دولة مدنية، ديمقراطية طاوية للسجلات السوداء للحكومات العسكرية والمدنية المدجنة، فاعتمدت على حصانها المروّض المبتز بجريمة محاولة اغتيال رئيسها، الساكت عن احتلال حلايب التي زأر بأحقيتها الدكتور حمدوك أمام المحتلين، وفي عقر دارهم، تلك الخطيئة التي لم ولن يتسامح معها المصريون مهما حاول السودانيون الانعتاق من ربقة الاستعباد، لأن انعتاق السودانيين يعني للمصريين زوال دولتهم المهددة بالانقراض، بعلة طموحات الدولة العبرية وآمال النجاشي في استغلال مياه النيل الأزرق النابعة من أرضه، وتضعضع دولة ليبيا بعد اجتياح حلف النيتو لها، فليس للفرعون ملجأ سوى التمكن أكثر من الحديقة الخلفية والمزرعة الوفيرة الإنتاج الغافل شعبها، فكان انقلاب عسكر الاخوان الثاني على الحكم الانتقالي المدني الذي يقوده حمدوك، وإعادة اللجام مرة أخرى لخياشيم وأفواه حفنة من جنرالات الاخوان المسلمين، ولما كان لقوات الدعم السريع رأي مغاير ومساند للحكم المدني، لم يجد فلول وبقايا نظام الاخوان بد من اشعال حرب تقضي على قوات الدعم السريع حسب زعمهم، لقد اندلعت الحرب ولكنها أتت بما لا تشتهي سفينة الإنقاذ الاخوانية، مما زاد الهلع المصري وزادت وتيرة الدعم الحربي للانقلابيين، والذي وصل لمرحلة الإسناد بواسطة الطيران المقاتل، ولكن لم يحدث طيران مصر فرقاً على أرض السودان التي تمددت فيها قوات الدعم السريع، والتي اسقطت أسراب الطائرات المحملة بكل أسباب الموت والتدمير، المرسلة من مصر لقتل المدنيين وتدمير المنشآت من مستشفيات ومدارس وأحياء سكنية يقطنها المواطنون.

عملت مصر بوجهين في هذه الحرب، وجه اعلامي ظاهره السعي لتحقيق السلام ووقف الحرب، ومؤيد لمنبر جدة صاحب السبق في طرح أول مبادرة تستهدف إيقاف الحرب، ووجه آخر قاس جدا يساند كتائب الاخوان المسلمين الإرهابية الباقرة لبطون الناس في الأزقة والحواري، وبعدما عجز الطيران الحربي عن إزاحة قوات الدعم السريع من المشهد العملياتي، وثبتت حقيقة وجودها في غالب عواصم ومدن ولايات السودان، فنبتت الفكرة الشيطانية بتصويب الضربات الجوية على المجتمعات التي يعتقد أن المورد البشري لقوات الدعم السريع يأتي منها، فانتفضت تلك الكيانات وأعلنت عن تحالفها للقتال علناً في صف قوات الدعم السريع، الأمر الذي يرجعنا بالذاكرة إلى زمان الثورة المهدية الهازمة لجيش الحكم التركي، فاليوم تنادت جميع القبائل المستهدفة بنار القنابل الجوية، لتدعم القوات التي أراد لها الاخوانيون الإبادة والمحو من الوجود، غير مستذكرين لدرس التاريخ الحاكي عن معارك توشكي والجزيرة أبا والأبيض، ودخول الخرطوم وتحريرها من سطوة الاستعمار، لقد أعاد التاريخ نفسه حينما ظن المستكبرون من عملاء مصر أنهم يقدرون على إنهاء وجود قوات الدعم السريع، حينما أشعلوا الحرب في أرض المعسكرات والمدينة الرياضية، وابادوا آلاف الشباب من القوات نفسها بمعسكر سركاب، لكن وثب الليث الأصفر وجندل كبار جنرالات القوات المعتدية المتدثرة برداء الدين، وبعد مرور سنة ونصف السنة أصبحت قيادة الدويلة الظالمة نازحة بميناء السودان، وفي خطابه التاريخي ليلة أمس وضع الأخ قائد قوات الدعم السريع النقاط على الحروف، وأعلن عن تدشين الخطة الثانية، وسوف تشهد سوح البلاد تحرير المزيد من الولايات من عملاء جارة السوء، وبحكم اشتعال النار حول هذه الجارة من جميع الجهات، سيؤول بها الحال إلى التفكك نتاج تحكم النجاشي على “بلف” شريان الحياة وصلابة مشروع أبناء اسحق.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *