السودان بين أنياب القاهرة وطهران: لماذا يخشاه السلطويون رغم جراحه؟

الرئيس المصري، "السيسي" لدي استقباله بمطار القاهرة قائد الجيش الفريق "البرهان" بالقاهرة اليوم الخميس 29 فبراير 2024.
السودان بين أنياب القاهرة وطهران: لماذا يخشاه السلطويون رغم جراحه؟
د. احمد التيجاني سيد احمد
مقدمة: التقاطع العجيب بين خصمين ظاهريين
حين نتأمل في مواقف النظامين المصري والإيراني تجاه السودان، يبدو للوهلة الأولى أننا أمام خصمين لا يمكن أن يلتقيا: أحدهما عسكري قومي يدّعي العلمنة، والآخر ديني مذهبي يتحدث باسم “الثورة الإسلامية”. لكن ما إن ندقّق، حتى نجد تقاطعًا جوهريًا في الهدف: إبقاء السودان ضعيفًا، منقسمًا، بلا مشروع وطني مستقل.
هذا التقاء المصلحتين ليس عرضياً، بل هو انعكاس لحقيقة أعمق: أن السودان، في حال نهوضه، يُهدّد جوهر النظامين في مصر وإيران معاً. إنه البلد الوحيد في الإقليم الذي يمكن أن ينهض على قاعدة تنوّعه، لا قهره؛ وعلى أسس إنتاجية، لا ريعية؛ وعلى عقد اجتماعي جديد، لا على تراث الحروب والانقلابات.
١. لماذا يخشى النظام المصري من السودان؟
النظام المصري الحالي، الذي يختزل الدولة في مؤسسة عسكرية مسنودة بتحالف رأسمالي مغلق، لا يحتمل وجود نموذج ديمقراطي ناجح على حدوده الجنوبية. بل يرى في أي تجربة حقيقية للانتقال المدني خطرًا مباشراً على شرعيته.
في تصور هذا النظام، السودان إما أن يبقى ساحة خلفية تابعة، أو يتحول إلى فوضى تُدار من بعيد. أما أن ينهض بنموذج دستوري فدرالي يوزّع السلطة والثروة ويعترف بالتعدد، فذلك كابوس استراتيجي يفتح شهية الداخل المصري للمساءلة والمطالبة.
ناهيك عن ملف مياه النيل، حيث تتعامل القاهرة مع السودان لا كشريك، بل كمجرد تابع ينبغي إخضاعه لهيمنة فوقية تحول دون إعادة التفاوض العادل حول تقاسم الموارد.
٢. ولماذا تخشى إيران من السودان؟
على الضفة الأخرى، ترى إيران في السودان بوابة إستراتيجية للنفوذ في إفريقيا، عبر شبكات التشييع، التبشير الثوري، أو تجارة السلاح والمال السياسي. وقد حاولت منذ سنوات، خاصة عبر حقبة البشير، زرع خلايا ومراكز نفوذ ثقافي وعقائدي.
لكن الخطر من السودان لا يكمن فقط في “منعه” من هذا التمدد، بل في تحوّله إلى دولة مدنية ذات سيادة معرفية وفكرية، ترفض الاصطفافات الطائفية والإيديولوجية، وتبني تحالفاتها على أساس المصلحة الوطنية، لا على قواعد الولاء للمحاور الدولية.
والأهم: أن السودان، إن نهض، سيكون أول بلد في العالم الإسلامي المعاصر يقدّم تجربة فكرية واجتماعية تتجاوز الثنائية الزائفة بين العسكر والدعويين، وتستعيد روح الحرية من داخل الثقافة الإسلامية الإفريقية التعددية، لا عبر نماذج مستوردة من قم أو القاهرة أو أنقرة.
٣. السودان كنقطة توازن مفقودة
إذا نجح السودان في بلورة مشروع ديمقراطي اتحادي شامل، مبني على العدالة والمشاركة والشفافية، فسيغيّر ميزان القوى في المنطقة. لن يبقى تابعًا لمصر في ملفات الأمن والمياه، ولن يكون بوابة خلفية لإيران في إفريقيا. بل سيكون مركز ثقل بديلًا — إفريقيًا خالصًا.
وهذا المشروع لا يمكن تصوّره في عقل النظامين السلطويين. لأن جوهرهما قائم على مركزية القهر لا تعددية المشاركة، وعلى هندسة الطاعة لا تفكيك الاستبداد.
٤. أدوات الهيمنة الناعمة والخشنة
تدعم مصر علناً المؤسسة العسكرية السودانية وتحتضن بقايا نظام البشير، وتستخدم الإعلام والدبلوماسية كأدوات ضغط على القوى المدنية. في المقابل، تنشط إيران عبر التمويل غير الرسمي، وتغذية قنوات دينية وسياسية موازية، رغم تراجعها التكتيكي مؤخراً.
وفي كلتا الحالتين، لا يُراد للسودان أن يخرج من مأزقه، بل أن يظلّ ساحة صراع بالوكالة، ومختبرًا للفوضى المدروسة التي تعيق أي مشروع نهضة.
٥. “تأسيس” كنموذج لمشروع وطني جديد
في خضم هذا الحصار الإقليمي والدولي على إرادة السودانيين، برزت مبادرة “تأسيس” كإطار فكري وسياسي يسعى لصياغة مشروع وطني جامع، يعترف بالتعدد الإثني والثقافي والديني، دون أن يجعل منه مصدرًا للانقسام أو أداة للتوظيف السلطوي.
جوهر “تأسيس” ليس في إسقاط النخب فحسب، بل في تجاوز النموذج المركزي الذي فشل منذ الاستقلال، وبناء سودان جديد على أسس التعدد والعدالة والديمقراطية القاعدية. هذا النموذج لا يستنسخ تجارب الآخرين، ولا يرتهن لمحاور خارجية، بل ينبع من تجارب المقاومة الشعبية، ومن خريطة السودان الواقعية: متعددة، موزعة، مفعمة بالحيوية، لكنها تحتاج لمن يوحدها على أسس جديدة.
تُعدّ “تأسيس” — أو التحالف التأسيسي السوداني — واحدة من أبرز المبادرات السياسية والفكرية التي برزت في سياق الحرب، لا بوصفها تحالفًا سياسياً تقليدياً، بل كمحاولة لإعادة تعريف الشرعية الوطنية نفسها: شرعية تُبنى من القواعد، لا تُفرض من فوق؛ وشرعية تعبّر عن الإرادة الشعبية في الهامش والمركز على حدّ سواء، وليس عن إرث النخب الحاكمة.
ومنذ انطلاقها، أعلنت “تأسيس” موقفًا واضحًا ضد الحرب كأداة لحسم الصراع السياسي، مؤكدة أن بناء الدولة السودانية لا يتم عبر الدبابة ولا عبر العودة إلى الإسلامويين، بل عبر عقد اجتماعي جديد، يُنهي مركزية السلطة والثروة، ويضمن حقوق الأقاليم والمجتمعات التاريخية التي ظلت مقصاة لعقود.
بهذا المعنى، فإن “تأسيس” ليست فقط مبادرة لإنهاء الحرب، بل هي خريطة طريق نحو سودان مختلف: سودان لا يكون تابعًا لمشاريع القاهرة أو طهران، بل حراً، مستقلاً، وعادلاً في بنيته السياسية والاجتماعية.
خاتمة: السودان لن يسقط
الحرب على السودان ليست حربًا أهلية فقط، بل هي حرب على النموذج. ما يُراد دفنه ليس فقط الانتقال الديمقراطي، بل الفكرة ذاتها: أن بلدًا مثل السودان يمكن أن ينهض رغم الحرب، والتآمر، وتراكم الخيبات.
ومع ذلك، فإن الشعب السوداني، الذي أسقط الطغيان مرتين، قادر على توليد موجة ثالثة — أعمق وأصلب. وما نخافه نحن اليوم، تخشاه الأنظمة الاستبدادية أكثر.
نواصل،
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
١٢ أبريل ٢٠٢٥ -روما/ نيروبي