الحزب الشيوعي السوداني بين مواقف قلة الحيلة وطوباوية الأحلام:

10
خالد كودي

الحزب الشيوعي السوداني بين مواقف قلة الحيلة وطوباوية الأحلام:

 

خالد كودي، بوسطن

 

مقدمة: ماركسية بلا ثورة؟

جاء بيان الحزب الشيوعي السوداني الصادر في 3 أبريل 2025، بعنوان “حول ميثاق الحكومة الموازية والتعديلات الدستورية لحكومة الأمر الواقع”، ليكشف بوضوح عن أزمة بنيوية مزدوجة يعيشها الحزب، تجمع بين الجمود النظري والعجز السياسي. فالبيان، بلغة مكرورة وتحليل مرتبك، لا يتعامل مع الواقع السوداني المتحوّل بوصفه لحظة تأسيس جديدة، بل كاستمرارية لتاريخ مأزوم، يجب الدفاع عن خطوطه العامة، حتى وإن ثبت فشلها.

جاءت مفرداته مثقلة بإشارات “أخلاقوية” لا تنتمي إلى منطق التحليل السياسي بقدر ما تنتمي إلى منطق التبرؤ والرفض الانفعالي، متجاهلاً أن البلاد تمرّ بمرحلة انهيار تام في بنية الدولة المركزية، تستدعي مقاربات تأسيسية لا تكرار أحكام مسبقة تشبه، في جوهرها، خطاب النخب الحاكمة التي طالما انتقدها الحزب الشيوعي نفسه!

في هذا الرد، نعيد مقاربة بيان الحزب من موقع ثوري واقعي، مستندين إلى أربعة مراجع رئيسية:

– ميثاق تأسيس (نيروبي، 22 فبراير 2025)، بوصفه وثيقة سياسية–تأسيسية تهدف إلى إعادة بناء الدولة من أسفل، على أساس التعدد، والعدالة، والوحدة الطوعية.

– وثيقة الدستور الانتقالي 2025، باعتبارها مقترحًا تعاقديًا ديمقراطيًا ينظم العلاقة بين مكونات السودان المختلفة بعيدًا عن منطق الهيمنة والمركزية.

– مفاهيم العدالة التاريخية، العلمانية، والحق في تقرير المصير، كمدخلات دستورية وسياسية تمثل الحد الأدنى لإعادة إنتاج الدولة على أسس المساواة والمواطنة.

– تجارب المراحل التأسيسية في الماركسية الثورية، لا بوصفها نصوصًا، بل خبرات عملية تجاوزت النقاء الأيديولوجي نحو التغيير البنيوي.

إن ما يقدّمه البيان من نقد لتحالف “تأسيس” لا ينبني على قراءة واقعية أو تحليل متماسك، بل على رفض مسبق لمجمل ما يخرج عن دائرة نفوذ الحزب أو تحالفاته التقليدية. وهو بذلك يعيد إنتاج موقف سياسي لطالما رفض الاعتراف بحقائق التعدد القومي والاجتماعي في السودان، ويستبطن في الوقت نفسه لغة تحذيرية جوفاء من “خطر التقسيم” و”الوصاية”، دون أن يعترف بأن هذه المخاطر نشأت من فشل النخب المركزية – بما فيها الحزب الشيوعي السوداني نفسه – في تقديم مشروع وطني جديد بعد الاستقلال، والا لما وصلنا الي هذا الواقع، فعلام التضليل؟

أما التحالفات التي يعرضها الحزب كنماذج (مثل التجمع الوطني الديمقراطي، قوى الإجماع الوطني، وقوى التغيير الجذري)، فقد أثبتت، تاريخيًا، محدوديتها وفشلها في التحول من أدوات مقاومة إلى أدوات تأسيس. لم تطرح هذه التحالفات أبدًا مشروعًا جادًا لتفكيك بنية الدولة الاثنية والدينية، ولا لتجاوز المركزية العسكرية، ولا لمساءلة الامتيازات التاريخية التي راكمتها النخب الحضرية باسم الوطنية.

بل يمكن القول إن هذه التحالفات، بترددها وإخفاقها، كانت من بين العوامل التي دفعت البلاد إلى الأزمة الراهنة. فما الذي يدفع الحزب اليوم إلى استدعاء وصفات أثبتت فشلها؟ ولماذا يُطلب من السودانيين القبول بإعادة تدوير العجز نفسه، تحت لافتة “العمل الوطني”؟

أليس هذا في جوهره احتيالًا سياسياً واضحاً؟

وأليست الماركسية الحقيقية تقتضي مواجهة جذور الأزمة، لا الدفاع عن أدوات إنتاجها؟

 

وفي هذا السياق، فإنّ الرد على البيان نؤسسه على ست محاور رئيسية:

 

أولاً: تفوّق تحالف “تأسيس” ومفارقة الشرعية في خطاب الحزب الشيوعي:

من المفارقات اللافتة أن يصدر عن الحزب الشيوعي السوداني بيان يتهم تحالف “تأسيس” بـ”فرض الوصاية على الشعب”، بينما يغض الطرف تماماً عن سلسلة طويلة من تحالفاته التاريخية مع نخب الخرطوم الطائفية، والبيروقراطية المركزية، بل ومع الجيش ذاته، الذي شارك في ارتكاب جرائم موثّقة ضد الإنسانية، وأعمال إبادة جماعية في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، منذ عهد عمر البشير وحتى انقلاب عبد الفتاح البرهان!

لم يُقارب الحزب موقفه من توقيعه على الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019، التي أُبرمت مع المجلس العسكري والدعم السريع – نفس القوة التي يدينها اليوم – رغم أن تلك الوثيقة شرعنت تقاسم السلطة مع القتلة في أعقاب مجزرة القيادة العامة (3 يونيو 2019)، دون محاسبة أو عدالة.

كما لم ينتقد الحزب بوضوح التحالفات التي عقدها مع تحالف “نداء السودان”، الذي ضمّ عناصر من النظام القديم، وحركات مسلحة لم تكن تحمل مشروعاً تأسيسياً بل تسويات نُخبوية آنية!

ورغم أن البيان يهاجم “ميثاق تأسيس” باعتباره “لا يمتلك شرعية دستورية”، إلا أنه لا يسائل السلطة الفعلية في بورتسودان، التي تأسست على انقلاب عسكري في 25 أكتوبر 2021، والتي تمارس اليوم تعديلاً انتقائياً على الوثيقة الدستورية لإعادة إنتاج دولة إسلامية–عسكرية بغطاء مدني شكلي، دون أن تحظى بأي سند جماهيري أو أخلاقي أو سياسي!

في هذا السياق، يتفوق تحالف “تأسيس” بوضوح على كل التحالفات التي روّج لها الحزب الشيوعي سابقاً، وذلك من ثلاثة جوانب أساسية:

١/ الوضوح الطبقي والاجتماعي:

تحالف “تأسيس” يُعبّر عن قوى الهامش والمهمشين، وعن الكتل الاجتماعية التي ظلت على هامش الدولة السودانية منذ الاستقلال، بينما تحالفات الحزب السابقة – مثل “التجمع الوطني الديمقراطي” – لم تكن سوى إعادة تموضع للنخبة المركزية، بما فيها بعض رموز نظام مايو والإنقاذ.

٢/ الجرأة المفاهيمية والسياسية:

يتبنى “تأسيس” علمانية الدولة بشكل واضح وصريح، ويقرّ بأن وحدة السودان لا يمكن أن تتحقق إلا على أساس طوعي وتعاقدي، من خلال الاعتراف بحق تقرير المصير.

في المقابل، يهرب الحزب الشيوعي من مجرد ذكر مصطلح “العلمانية”، متجنباً المواجهة مع الإسلاميين، ومتواطئاً – بالصمت – مع منظومات العنف الرمزي والسياسي التي تعيد إنتاج الدولة الدينية.

أما في ما يتصل ببناء القوات المسلحة، فإن “ميثاق تأسيس” يطرح تكوين جيش جديد بالكامل، مهني، قومي، وموحّد، على أنقاض الجيوش والمليشيات القائمة، بينما يكتفي الحزب بطرح “إصلاح الجيش القومي”، متجاهلاً أنه نفس الجيش الذي قاد جميع الانقلابات في تاريخ السودان (1958، 1969، 1989، 2019، 2021)، وأنه أصبح بنيوياً غير قابل للإصلاح.

٣/ البنية الديمقراطية للمشروع:

كل بنود ميثاق “تأسيس” تنص على وحدة إرادية عبر التفاوض والاعتراف بالشعوب والأقاليم، والمشاركة القاعدية، وتداول السلطة من أسفل، بينما كانت تحالفات الحزب السابقة تُدار بنخب مغلقة وتُنتج ذات آليات الإقصاء السياسي والثقافي.

فلماذا يخشى الحزب من تحالف يقرّ بمبدأ “الوحدة الطوعية” بينما يواصل الدفاع عن وحدة قسرية انهارت فعلياً منذ عقود؟

إن رفض “ميثاق تأسيس” من قبل الحزب الشيوعي لا يستند إلى تحليل سياسي موضوعي، بل إلى مفهوم انتقائي للشرعية، يُقصي كل مبادرة لا تنطلق من المركز أو من داخل دوائر التأثير التقليدية للحزب.

لكن الشرعية، في السياقات الثورية، لا تُستمد من المؤسسات البيروقراطية أو النخب المركزية، بل من الإرادة الشعبية التي تعبّر عنها القوى التي تواجه الانهيار الكامل في الدولة وتقدّم بديلاً قابلاً للنقاش العام والمساءلة الجماهيرية.

من هذا المنطلق، فإن الهجوم على “تأسيس” ليس دفاعاً عن “الشعب”، كما يدّعي البيان، بل دفاع عن حق المركز وحده في احتكار الحديث باسم الشعب.

 

ثانياً: الاحتيال السياسي حول مفهوم “حق تقرير المصير”:

يتعامل بيان الحزب الشيوعي السوداني مع مبدأ حق تقرير المصير وكأنه مرادف تلقائي ودائم لمفهوم الانفصال، وهو خلط منهجي لا يمكن اعتباره مجرد التباس مفاهيمي، بل يرقى إلى احتيال سياسي يُستخدم لتخويف الجماهير وتحريف النقاش العام.

هذا الموقف يتناقض بشكل صارخ مع المبادئ القانونية الدولية، ومع التاريخ السياسي لليسار الأممي، بل ومع وثائق الحزب ذاته في مراحل سابقة!

ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، في المادة 1 (الفقرة 1)، على ما يلي:

“لكافة الشعوب الحق في تقرير مركزها السياسي بحرية، وفي السعي لتحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”

وينص الدستور الانتقالي السوداني لعام 2025، في المادة 5، بوضوح على أن:

حق تقرير المصير يُطرح كخيار ديمقراطي في حال فشل الوحدة الطوعية على أسس علمانية ومواطِنية، ولا يُفعّل إلا عبر “وسائل سلمية واستفتاء ديمقراطي”.

بذلك، فإن استخدام الحزب لمفهوم “تقرير المصير” كقرينة على “مؤامرة تقسيم”، لا يعكس موقفاً سياسياً مسؤولاً، بل يمثل تضليلاً معرفياً متعمّداً، يتجاهل أن هذا الحق يمثل أحد المبادئ التأسيسية في القانون الدولي لحقوق الإنسان، بل وشكّل عنصراً حاسماً في نضالات حركات التحرر الوطني، من فيتنام إلى جنوب إفريقيا.

إن ما يطرحه “ميثاق تأسيس” لا يتجاوز هذا الإطار القانوني الدولي؛ فهو لا يدعو إلى الانفصال، بل ينص صراحة على أن الوحدة الطوعية هي الأساس، وأن ممارسة تقرير المصير لا تُطرح إلا إذا فشلت الدولة في الاعتراف المتكافئ بجميع شعوبها، من حيث الحقوق، والهوية، والمشاركة في الحكم.

وتبعاً لذلك، فإن الادعاء بأن الميثاق “يؤسس لتقسيم السودان” هو:

– باطل قانونياً: لأنه يتجاهل الفهم المتعارف عليه لحق تقرير المصير بوصفه يشمل طيفاً من الخيارات الديمقراطية، لا الانفصال فقط.

– مضلل سياسياً: لأنه يحوّل نقاش الحقوق إلى خطاب تخويني، ويغلق الباب أمام حلول ديمقراطية للأزمة الوطنية المتفاقمة.

– مجافٍ للتاريخ الثوري: لأن حركات التحرر الماركسية – كما في مواقف فلاديمير لينين، وفرانز فانون – اعتبرت أن تقرير المصير هو أداة في تفكيك الدول الكولونيالية المركزية، لا تكريسها.

وإذا كان الحزب الشيوعي السوداني قد دعم في الماضي (كما في موقفه من حق تقرير المصير للجنوب في تسعينيات القرن الماضي) هذا الحق بوصفه أداة تحرر، فلماذا يُعاد تعريفه الآن كخطر يجب استبعاده؟

وهل يجوز لحزب يزعم تبنّي الماركسية أن ينكر حق الشعوب المضطهدة في تحديد شكل علاقتها بالدولة؟

أم أن هذا الإنكار نابع من الخوف من فقدان امتيازات تاريخية لم يكن الهامش شريكاً فيها يوماً؟

في واقع الأمر، فإن تحريف معنى تقرير المصير وتحويله إلى فزّاعة سياسية، ليس سوى امتداد لخطاب النخب المركزية التي اعتادت استخدام مفردات الوطنية لتبرير الإقصاء، ورفض التعدد، وإنكار المظالم البنيوية.

وتأسيساً على ذلك، فإن الدفاع عن هذا الحق اليوم لا يُقاس بخطر الانفصال، بل يُقاس بجدية الأطراف في إعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس الرضا، والاعتراف، والعدالة التاريخية.

 

ثالثاً: العدالة التاريخية لا العدالة الانتقالية:

يتجاهل بيان الحزب الشيوعي السوداني، عن عمد أو قصور، أن مشروع ميثاق تأسيس لا يكتفي بالدعوة إلى العدالة الانتقالية بمعناها التقليدي، بل يتبنى مفهوماً أكثر عمقاً واتساعاً هو العدالة التاريخية، والتي لا تقتصر على المحاسبة الجنائية للأفراد، بل تسعى إلى مساءلة شاملة لبنية الدولة التي أنتجت العنف، وأسست له مؤسسياً وثقافياً.

تتجلى العدالة التاريخية في “ميثاق تأسيس” من خلال ثلاث مستويات مترابطة:

– الاعتراف السياسي والقانوني بجرائم الدولة في مناطق الهامش، لا باعتبارها أخطاء فردية أو استثنائية، بل نتيجة مباشرة لبنية الإقصاء والهيمنة التي تأسست عليها الدولة المركزية منذ الاستقلال.

– إعادة بناء الدولة على أسس جديدة تُنهي الامتيازات العرقية والثقافية والدينية، وتؤسس لمواطنة متساوية بلا وسطاء، ولا هويات مهيمنة.

– تصفية شاملة لميراث الدولة المركزية، الذي أنتج الإبادة الجماعية، والتهميش البنيوي، والإقصاء الرمزي، والذي لا يمكن تفكيكه إلا بتجاوز البنية لا إصلاحها.

المفارقة أن الحزب الشيوعي، رغم تبنيه المفاهيم الطبقية، لم يطوّر فهماً شاملاً للعدالة يدمج بين القمع الطبقي وبين أشكال القهر الاثني والثقافي، ولا يزال يعالج أزمة الدولة السودانية وكأنها مشكلة “فساد في الحكم”، لا “خلل في التأسيس”.

فهو يُسقط من تحليله التاريخي العنصرية البنيوية، والاستعمار الداخلي الذي مارسته الدولة القومية باسم المركز على الشعوب الطرفية.

لقد اختزل البيان معركة “تأسيس” في مطلب العدالة الانتقالية، متجاهلاً أن هذه الأخيرة – كما طُبّقت في كثير من السياقات – كثيراً ما تحوّلت إلى آلية لتجاوز الجرائم دون تفكيك الأنظمة التي أنتجتها.

بينما العدالة التاريخية، كما يطرحها تحالف “تأسيس”، لا تنحصر في محاكمة مرتكبي مجزرة القيادة العامة أو مجازر دارفور، بل تشمل:

– تفكيك العقيدة الأمنية للدولة، ومراجعة بنية الجيش بوصفه أداة للعنف الداخلي.

– إصلاح مناهج التعليم والإعلام، التي كرّست رموز المركز وخطابات الإقصاء.

– مراجعة التشريعات والقوانين التي كرّست التمييز والهيمنة الثقافية والدينية.

وفي المقابل، ينتهي خطاب الحزب الشيوعي – رغم نبرته الثورية – إلى تصوّر إصلاحي تقليدي، يقوم على فكرة “عودة الدولة إلى الرشد”، عبر انتخابات أو ترتيبات دستورية انتقالية، دون مساءلة جوهر البنية التي جعلت من هذه الدولة أداة بطش وقمع ممنهج، منذ انقلاب إبراهيم عبود في 1958، وحتى انقلاب البرهان في 2021

بهذا المعنى، فإن الفرق بين “ميثاق تأسيس” وخط الحزب الشيوعي ليس في الشعارات، بل في المنهج والرؤية:

الأول يسعى إلى تفكيك الدولة القمعية وبناء أخرى جديدة، بينما الثاني ينادي بـترميم الدولة القديمة دون المساس بجذورها.

 

رابعا: أوهام النقاء الثوري ومفارقة الشريك القاتل:

يسأل بيان الحزب الشيوعي السوداني باستنكار: كيف يمكن التحالف مع الدعم السريع الذي ارتكب جرائم حرب؟

لكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف يمكن تجاوز الدعم السريع والجيش معاً دون مشروع تأسيسي جديد يعيد بناء الدولة من جذورها؟

فكلا الطرفين – القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع – ليسا كيانات منفصلة عن بنية الدولة، بل نتاج مباشر لعقيدتها الأمنية ومركزيتها القمعية، الجديد هو ان الدعم السريع وقع علي ميثاق تأسيس واقر بما جاء فيه. وبالتالي، فإن انتظار “نقاء ثوري” مثالي في واقع ممزق، لا يعدو أن يكون ضرباً من الطوباوية السياسية التي تشلّ الفعل الثوري، وتمنح النظام القائم فرصة لإعادة إنتاج نفسه.

ما يطرحه ميثاق تأسيس ليس تحالفاً عشوائيا بين القوي الموقعة عليه، بل مشروعاً مشروطاً بإعادة التأسيس، يقوم على:

– تفكيك البنية الميليشياوية لكل القوي المسلحة

– إعادة تشكيل جيش جديد على أسس مهنية وقومية ومدنية

– الاعتراف بالجرائم المرتكبة في دارفور، جبال النوبة، الفونج والخرطوم وغيرها، ومساءلة مرتكبيها أمام منظومة عدالة مستقلة.

في المقابل، فإن رفض الحزب لهذا المشروع من منطلق “الطهر الثوري”، يتجاهل حقيقة أنه كان أحد الموقعين على الوثيقة الدستورية الانتقالية بتاريخ 17 أغسطس 2019، وهي الوثيقة التي مثّلت شراكة رسمية مع نفس قوات الدعم السريع التي يجرّمها اليوم.

فكيف يستقيم أن يُجرّم التحالف مع هذه القوة اليوم، بعد أن تمّ تقنين وجودها دستورياً في اتفاق وقّع عليه الحزب نفسه، ضمن قوى “الحرية والتغيير”؟

هل كانت تلك الشراكة آنذاك تعبيراً عن “شرعية ثورية”؟ أم أن معايير النقاء تتبدل حسب الموقع لا المبدأ؟

في الواقع، ما يقدّمه الحزب في هذا السياق ليس نقداً مبدئياً، بل مفارقة أخلاقية وانتقائية سياسية.

وكما كتب تروتسكي ذات مرة، مايعني”اليسار الذي يرفض الدخول في معارك التاريخ بحجة المحافظة على نقائه، لا ينتهي إلى الطهر، بل إلى العجز”

– التحالفات في لحظات الانهيار لا تُقاس فقط بمنطق التطابق الأيديولوجي، بل بمدى قدرتها على فتح أفق التغيير، وميثاق تأسيس يفعل ذلك بوضوح: من خلال مشروع تفكيك، لا مهادنة، ومن خلال تأسيس دولة مدنية، علمانية، ديمقراطية ولامركزية جديدة، لا تسوية انتقائية مع أدوات القمع القديمة.

 

خامسا: ازدواجية الخطاب حول الكفاح المسلح:

ينتقد بيان الحزب الشيوعي السوداني تضمين ميثاق تأسيس لبند يعترف بشرعية الكفاح المسلح بوصفه وسيلة مشروعة للنضال، متناسياً أن الحزب نفسه لطالما دعم هذا الخيار في مراحل تاريخية مختلفة.

ففي ستينيات القرن العشرين، أعلن الحزب تأييده للكفاح المسلح في جنوب السودان، كما تحالف عام 2005 مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في إطار اتفاقية نيفاشا، رغم الخلفية العسكرية للحركة وسجلها في النزاع الأهلي.

كذلك، لم يصدر عن الحزب أي موقف واضح أو نقد مباشر تجاه العمل المسلح في دارفور حين كان جزءاً من تحالفات تُصنّف على أنها “وطنية” أو “مقبولة سياسياً”.

فما الذي تغيّر إذن؟

هل المشكلة في أداة المقاومة أم في الجهة التي تستخدمها؟

الظاهر أن ما يثير تحفظ الحزب ليس الكفاح المسلح في ذاته، بل استقلال الحركات الراهنة – خصوصاً تلك الموقعة على ميثاق تأسيس – عن مركز القرار السياسي التقليدي، وتبنيها مفاهيم ثورية جديدة تتجاوز بنية الدولة القائمة وسردية الحزب الشيوعي السوداني التاريخية.

 

الرفض هنا لا ينبع من التزام مبدئي بالسلمية، بل من فقدان التحكم في شروط التغيير وفاعليه. وهو بذلك يعكس ازدواجية في الموقف من العنف السياسي: تأييده حين يخدم المركز، ورفضه حين يُوظّف لتقويضه!

 

سادسا: ماركسية بلا لينين؟ أم يسار بلا ثورة؟

يكشف البيان عن تحوّل الحزب الشيوعي السوداني من حركة تسعى للتغيير الجذري إلى كيان يستدعي الماركسية كمرجعية أرشيفية، لا كمنهج فعّال في فهم اللحظة الثورية.

فعندما يرفض الحزب التحالف مع قوى المقاومة المسلحة بحجة “غياب الشرعية”، فإنه يتجاهل دروس التاريخ الثوري ذاته، حيث كانت الماركسية الحية دائماً رهناً بالانفتاح على تحالفات الضرورة من أجل تحوّلات الممكن.

– فلاديمير لينين لم يتردّد في التحالف مع الاشتراكيين الثوريين، والبرجوازية الصغيرة والفلاحين لإسقاط القيصرية وتأسيس سلطة السوفييت.

– أنطونيو غرامشي نظّر لمفهوم الكتلة التاريخية، كتحالف اجتماعي–سياسي واسع يتجاوز حدود الحزب لتحقيق هيمنة جديدة.

– فيدل كاسترو لم يبدأ ثورته في البرلمان، بل في الجبال، عبر تحالف غير متجانس في بدايته، لكنه كان فعالاً في بناء بديل.

– إن الماركسية الثورية، في جوهرها، لا تقوم على رفض مشروعية الآخر، بل على إنتاج مشروع بديل جذري يُعيد تعريف الشرعية نفسها، ويضع أسساً جديدة للدولة والمجتمع.

وهذا تحديداً ما يسعى إليه ميثاق تأسيس، حين يقدّم تصوراً شاملاً لإعادة بناء الدولة السودانية على أساس المساواة، والتعدد، والمواطنة، والعدالة التاريخية، بما يتجاوز الأدوات الإصلاحية التي ظل الحزب الشيوعي يراهن عليها دون جدوى.

 

اخيرا: ما العمل؟

لقد آن للحزب الشيوعي السوداني أن يحسم موقفه من التاريخ لا من البيان الصحفي. أن يختار بين:

– مشروع العودة إلى الماضي الذي يطلب إصلاح الدولة دون تأسيسها.

– ومشروع العدالة التاريخية والتحول الجذري الذي يطرحه تحالف “تأسيس” بوصفه المخرج الوحيد من الحلقة الشريرة.

وإن الماركسية الحقيقية – لا الشعاراتية – تعلمنا أن لا ثورة بلا تحالفات، ولا عدالة بلا قطيعة، ولا وحدة بلا إرادة، وأن “الحق في تقرير المصير”، “العلمانية”، و”بناء جيش جديد”، ليست شعارات انفصال، بل شروطاً للعدالة والمواطنة والانتماء الحقيقي.

 

من لا يريد تقسيم السودان، فليسعي لبنائه من جديد.

 

النضال مستمر والنصر اكيد.

 

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *