منال علي محمود: أصول للبيع مقابل ملعقة سكر أبيض

منال علي محمود: أصول للبيع مقابل ملعقة سكر أبيض
في مشهد لا يختلف كثيرًا عن مزادات ما بعد الحروب، وقّعت الحكومة السودانية “عقد شراكة” لإعادة تأهيل وتشغيل عدد من المصانع والقطاعات الحيوية في البلاد، أبرزها مصنع سكر عسلاية، مصنع سكر الجنيد، سكر سنار، سكر حلفا، وسكر النيل الأبيض. لكن بدلاً من أن تكون هذه الشراكة في سياق خطة وطنية للنهوض بقطاع السكر وتوفير الأمن الغذائي، جاءت في شكل صفقة رمادية الطابع والملامح.
ما نعرفه عن الشريك أنه شركة سعودية تُدعى “الشركة المتحدة لصناعة السكر”، لكن من يتابع مجريات الصفقة، يلاحظ غياب الشفافية حول الجوانب الفنية، والتكلفة الاستثمارية، وطبيعة توزيع العائدات. الأخطر من ذلك، أن الصفقة تقدم الأرض والأصول والمصانع والبنية التحتية للشريك مقابل وعد بالصيانة والإنتاج.
فهل قامت أي دولة في المحيط العربي أو العالمي بهكذا صفقة؟ هل باعت البرازيل، مثلًا، مصانعها الوطنية مقابل صيانة؟ أو تنازلت تايلاند، رائدة إنتاج السكر في آسيا، عن سيادتها الغذائية مقابل وعد بتشغيل خطوط الإنتاج؟
لماذا تضع الحكومة السودانية نفسها دومًا في موقع الوسيط؟ ولماذا تستسهل أن تمنح الشركات الأجنبية حرية الدخول إلى قطاع حساس كالغذاء، دون رؤية واضحة تضمن السيادة الوطنية وتحفظ حقوق العاملين والمجتمعات المحلية؟
إن كان السودان عاجزًا عن صيانة هذه المصانع، فهل من المنطقي أن تكون الصيانة هي الثمن الذي ندفع مقابله كل هذه الأصول؟ لماذا لا يتم تخصيص نسبة من إنتاج الذهب لتمويل صيانة هذه الصروح الوطنية؟ أو صياغة عقد تشغيل فني مع الاحتفاظ بالملكية الكاملة؟
الأدهى، أن الحكومة لم تصدر بيانًا تفصيليًا واحدًا يُطمئن الناس على ما تم. لا يُعرف كم ستدفع الشركة، أو كيف ستُوزع الأرباح، أو من يتحمل الخسائر. والأسوأ من ذلك، أن الإعلام الرسمي تعامل مع الأمر كمنحة أو إحسان سعودي، لا كشراكة اقتصادية بين طرفين.
وهنا يثور سؤال مشروع: إذا كانت السعودية هي المستفيد الحقيقي من السكر، فلماذا يظهر الشريك باسم شركة سعودية تجارية دون أن تكون الصفقة عبر جهاز الدولة السعودي؟ هل نحن أمام عقد استثماري أم سياسي؟ هل هذه مكافأة سياسية في شكل صفقة اقتصادية؟
خاتمة: هذه الحكومة تفتقر إلى الإرادة والثقة في نفسها وفي شعبها. وبدلاً من أن تنهض ببرنامج وطني خالص يعيد تشغيل المصانع ويؤسس لنهضة اقتصادية حقيقية، تقوم بدور الوسيط في تمرير شراكات تضع صاحب الأرض والأصول على قدم المساواة مع الجهة التي تقدم خدمات الصيانة. بينما يمكنها، لو أرادت، تخصيص جزء بسيط من إنتاج الذهب لصيانة هذه الصروح، أو صياغة عقد إمداد فني وتشغيلي مع الحفاظ على السيادة الوطنية الكاملة.
لكن… لمن تقرع الأجراس؟
السند القانوني والدستوري ضد صفقة صيانة مصانع السكر:
تُعد صفقة التفريط في أصول شركة السكر السودانية – دون إجراء مزاد علني، ودون تقييم مستقل شفاف، ودون إشراك البرلمان أو السلطات التشريعية المختصة – مخالفة صريحة لنصوص الوثيقة الدستورية والقوانين السارية، وأبرزها:
1. الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية (2019):
المادة 16(2): تنص على أن “موارد الدولة الطبيعية والمالية تُدار وفق مبادئ الشفافية والمساءلة، ويجب ألا تُهدر أو تُستخدم لمصلحة فئة دون أخرى”.
المادة 11(1): تلزم الدولة بـ”حماية ممتلكاتها وأصولها العامة والعمل على تطويرها لا التفريط فيها”.
2. قانون الإجراءات المالية والمحاسبية لسنة 2007 (المعدل):
المادة 7(1): تُلزم الجهات الحكومية بعدم التصرف في الأصول العامة إلا وفق إجراءات وضوابط محددة وموافقات من وزارة المالية ومراجع عام الدولة.
المادة 27: يُحظر عقد أي اتفاق أو شراكة تُفضي إلى الإضرار بالأصول الحكومية أو تفريط فيها دون دراسة جدوى وموافقة مسبقة من الجهات الرقابية.
3. قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص لسنة 2021 (إذا كان معمولًا به):
يُلزم بتكوين لجنة شراكة فنية مستقلة، وطرح المشروع في عطاءات شفافة، ونشر تفاصيل الشراكة، خاصة إن كانت تتعلق بأصول استراتيجية مثل مصانع السكر.
خاتمة قانونية مختصرة:
بناءً على ما سبق، فإن هذه الصفقة تُعد عديمة السند القانوني والدستوري، وتفتقر إلى الشفافية والعدالة الاقتصادية، وقد تُصنف كإهدار متعمد للمال العام وتفريط في السيادة الاقتصادية. ويجب أن تخضع للمساءلة القانونية الفورية من الجهات المختصة وممثلي الشعب في الداخل والخارج.