صراع المناصب وتضارب القرارات .. ماذا يحدث داخل وزارة الخارجية السودانية؟

44

تقرير: راينو:بلو نيوز  –

 

أعلنت الخارجية السودانية استدعاءها لسفيرها في العاصمة الكينية “نيروبي” للتشاور، احتجاجا على الاستقبال الرسمي الذي نظمته الحكومة الكينية لقائد قوات الدعم السريع “محمد حمدان دقلو” ضمن جولة إفريقية له شملت “يوغندا وإثيوبيا وجيبوتي”، قبل زيارة جنوب إفريقيا.

تصريحات الخارجية أعادت للأذهان خطوات سابقة تم اتخاذها في الفترة الماضية وتجاه أكثر من دولة ودبلوماسي، الأمر الذي أعتبره البعض تخبطا وعشوائية في هندسة العلاقات الخارجية بشكل إيجابي وغياب للرؤى الاستراتيجية التي تحكم تلك العلاقات بفعل سيطرة العسكريين المؤيدين لخط أنصار النظام المباد في استمرار الحرب، فما هي الحقيقة؟

عرف دبلوماسي:

خطوة الخارجية السودانية في استدعاء سفيرها بكينيا لم تكن الأولى، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة، حيث شهدت الفترة الماضية العديد من التفاعلات الموصوفة بـ”السالبة”، في علاقات الخارجية السودانية بدول الجوار الإقليمي أو الدولي، فضلا عن المؤسسات.

وبحسب الوقائع فإن أبرز التفاعلات ذات الانعكاس السلبي كانت في سياق إعلان الإمارات العربية المتحدة ديسمبر الماضي طرد ثلاثة دبلوماسيين سودانيين، بعد إبلاغ السفير السوداني بأبو ظبي “عبد الرحمن شرفي”، بأن “الملحق العسكري ونائبه والملحق الثقافي”، أشخاصاً غير مرغوب فيهم، وطالبت بمغادرتهم البلاد خلال (48) ساعة، وهو ما تم تفسيره كرد فعل على اتهامات القيادات العسكرية السودانية للإمارات، بدعم “الدعم السريع”، وتوصيف أحدهم لها بأنها “دولة مافيا”ً، مستنداً في ذلك على ما زعمته صحيفة “وول ستريت جورنال”، بأن الإمارات أرسلت شحنات من الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، لكن السلطات الإماراتية نفت تلك المزاعم حينها. وجاء رد فعل الخارجية السودانية بعد (24) ساعة من الخطوة الإماراتية، حيث سارعت بإعلان طردها لـ(15) دبلوماسياً إماراتياً.

الأزمات الدبلوماسية تتزايد:

ولم تمض فترة طويلة على الخطوة الإماراتية والرد السوداني، إلا وأعلنت “تشاد” منتصف ديسمبر طردها لأربعة دبلوماسيين سودانيين أيضاً، مبررة لقرارها بأنه بسبب ما وصفته بـ”التصريحات الخطيرة” والاتهامات من قيادات عسكرية سودانية، ومن وزير الخارجية المكلف، بالتدخل في الصراع السوداني، وهي اتهامات قالت عنها “أنجمينا” بأنها لا أساس لها. وجاء رد فعل خارجية الخرطوم أيضاً بعد (24) ساعة من قرار تشاد، فأعلنت طرد أربعة دبلوماسيين تشاديين، وإعلانهم أشخاصا غير مرغوب فيهم، وأمرتهم بمغادرة البلاد.

وبغض النظر عن أن ردود فعل خارجية الخرطوم وتفاعلاتها السالبة مع الدول الأخرى التي جاءت بفعل تصريحات المسؤولين العسكريين في السودان، إلا أن ذلك بدا كنقطة في محيط ما يصفه البعض بـ”الإخفاق” خلال ذات الفترة، وتحديداً عقب بيان قمة الإيقاد حول الوضع في السودان، فما أن حمل البيان تأكيدات التوصل لاتفاق مع وبين الأطراف المتقاتلة، أي الجيش والدعم السريع على لقاء قائديهما، حتى سارعت الخارجية السودانية لاعتبار البيان (لا يمثل ما خرجت به القمة، وأن السودان غير معني به حتى تقوم رئاسة “إيقاد” وسكرتاريتها بتصحيح ذلك، عبر استصحاب وتضمين عدد من الملاحظات والاشتراطات المسبقة لقائد الجيش، على الاتفاق.

كمبالا وأديس وبريتوريا:

تخبطات الخارجية وتعذر فهم خطها، أشار له دبلوماسي رفيع سابق فضل حجب اسمه في حديثه لـ(راينو) وقال:(إذا تم إيجاد العذر للخارجية السودانية في اتخاذها ردود فعل تجاه الإمارات وتشاد بطرد دبلوماسيي الدولتين كما فعلوا هم، فكيف يمكن عذرها في سماحها بسرقة لسانها عبر قيادات عسكرية لتوزع الاتهامات دون أن تقدم للعالم أدلة وبراهين عليها؟ ودون أن تقوم ذات الخارجية بدورها في حمل تلك الأدلة والبراهين حال كانت حقيقية للمؤسسات الدولية ومجلس الأمن الدولي، حتى ينكشف ويتأكد كل شيء للعالم؟

وسخر الدبلوماسي الرفيع من الخطوة الأخيرة باستدعاء السفير السوداني في “كينيا” احتجاجا على استقبال قائد الدعم السريع، وقال:(هل استيقظت الخارجية اليوم فقط وشاهدت حميدتي في كينيا؟)، مبينا أنه إذا كان السبب هو استقباله في نيروبي، فلماذا لم يحدث أي احتجاج على استقباله في يوغندا وأثيوبيا وجيبوتي وجنوب أفريقيا حالياً؟ مشيراً إلى أن ثمة تصرفات غير مفهومة، إلا أن الواضح هو أن تلك الاحتجاجات والاستدعاءات ترتبط بمواقف مسبقة من بعض الدول منذ بداية الحرب، خصوصاً وأن كينيا كانت محل اتهام سابقاً، بأنها تستضيف قائد الدعم السريع إبان اختفائه، وأنه كان بأحد مستشفياتها، وأنها غير محايدة في الصراع السوداني لأنها تستضيف قيادات من قوات الدعم السريع، وهو الاتهام الذي أعلنه قائد الجيش في “يونيو” الماضي ورفض بناء عليه ترؤس كينيا اللجنة الرباعية للهيئة الحكومية للتنمية “إيقاد”.

سرقة لسان الخارجية:

تحليلات رائجة ترى أن التخبط الذي تعاني منه الخارجية وعجزها يرتبط بسيطرة العسكريين على ملفاتها، وأن العسكريين أنفسهم من دعاة الحرب، ويلتقون في ذلك مع خط فلول النظام البائد الرافض لأي خطوات، يمكن معها الوصول لوقف الحرب في السودان.

ويستندون في ذلك على أن إدارة ملف وزارة الخارجية من اختصاص نائب القائد العام للجيش “شمس الدين الكباشي” منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م، وأن الأخير قام بدوره بإعادة سفراء للخدمة، كان قد تم إنهاء خدمتهم في أوقات سابقة.

ويرى البعض أن سرقة لسان وزارة الخارجية والحديث في شؤونها من قبل القيادات العسكرية كمساعد القائد العام للجيش السوداني “ياسر العطا”، هو السبب في العديد من التوترات في العلاقات الخارجية، وبالتالي السلبية التي يتم التعاطي بها مع ملفات حساسة كالعلاقات مع دول الجوار، في الوقت الذي يجب أن يكون فيه دور الدبلوماسيين هو كبح جماح تلك التوترات للحفاظ على مصالح السودان، وهو ما لم يحدث.

ويبرهن أنصار تلك الرؤية بما شهده نوفمبر الماضي، حينما توعد العطا الرئيس الكيني، وقال: (تعال بجيشك) في سياق رفضه مبادرة تقودها “كينيا” لإرسال قوات حفظ سلام من شرق إفريقيا، للمساعدة في إنهاء الصراع بالسودان. لتنقل تقارير إعلامية فيما بعد الرد الكيني على لسان وزير الشؤون الخارجية “كورير سينج أوي”، وقال:(هذا التصريح لا يستحق تعليقا منا”)، مضيفاً أن الاتهامات لا أساس لها من الصحة، وإن بلاده محايدة.

تشاد والإمارات:

وفي ذات الفترة خاطب “ياسر العطا” ما يعرف بـ”هيئة عمليات جهاز المخابرات” في قاعدة “وادي سيدنا” العسكرية شمال أم درمان، وقال إن معلومات تردهم من قبل جهاز المخابرات العامة والاستخبارات العسكرية والدبلوماسية الخارجية، تقول إن دولة الإمارات نقلت عبر الطائرات دعماً عسكرياً للدعم السريع عبر مطار “عنتبي” في يوغندا، وأفريقيا الوسطى قبل بدء تفكيك جماعة “فاغنر” الروسية، علاوة على مطار “أم جرس” في تشاد، مشيراً إلى أن الطائرات الإماراتية كانت تهبط في مطار “أم جرس”، بمعرفة نافذين في الحكومة التشادية، وهو الأمر الذي رفضته الدولتان، وقامتا بطرد الدبلوماسيين السودانيين، وفقا لبيانات معلنة من الدولتين، رفضتا فيها تلك الاتهامات.

خلافات حول إدارة الملف:

وتستند فرضيات أخرى على تقارير سابقة تتحدث عن خلافات عاصفة حول إدارة ملف وزارة الخارجية، وتنقلات السفراء في البعثات الدبلوماسية. ونقلت التقارير عن دبلوماسي سوداني قوله، إن هناك تباينات وخلافات بين إثنين من المسؤولين الكبار، بشأن التنقلات بين السفراء في المحطات الخارجية وطريقة إدارة ملف الوزارة، فضلاً عن تصاعد الخلافات بين المسؤولين بسبب تقارير مختلفة أعدتها الوزارة، وتقارير أخرى لجهات أمنية حول نشاط عدد من السفراء بالخارج، ومستوى نشاطهم وتفاعلهم. كاشفاً عن أن كل السفراء الذين كانوا موجودين برئاسة الوزارة، غادروا إلى مصر وتركيا، وذكر أن مسؤولين كبار بالخارجية يتواجدون حالياً في القاهرة.

جولات حميدتي:

شهدت الآونة الأخيرة ظهوراً كثيفاً لقائد قوات الدعم السريع “محمد حمدان دقلو” في جولات أفريقية متعددة، بدأت بيوغندا فأثيوبيا ثم جيبوتي، والذهاب إلى كينيا ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهو ما تسبب – بحسب التحليلات – في فتح باب الاحتجاجات لدى الخارجية السودانية، في سياق محاولات ومساعي تحجيم تلك الجولات، والتهديد من خلال الاستدعاءات الدبلوماسية، بإمكانية اتخاذ خطوات تصعيدية أكبر.

ويرى المحلل السياسي إيهاب محمد الحسن (بلنجة) في حديثه ل(راينو) أن جولة حميدتي ذات مدلولات مهمة غض النظر عن احتجاجات الجيش والخارجية، حيث قال:(المجتمع الدولي والإقليمي ينظر للطرفين باعتبارهما طرفي صراع وليس كـ”سلطة دولة في مواجهة تمرد”، كما يريد الخارجية والجيش ومن يدعمونهما التكريس له والإيحاء به.

وتابع:(عليه مثلما يتم التعامل مع قائد الجيش، يتم التعامل مع قائد الدعم السريع من حيث الاستقبال والاستضافة. بل والاستماع لرؤيته ومناقشتها، خصوصاً وأن الصراع في السودان واستمراره وتمدده يمثل مهدداً إقليمياً، لم يعد يخفى على أحد.

انزعاج الفلول:

ويذهب “الحسن” إلى أن تلك الجولات سببت إزعاجاً منقطع النظير لمنسوبي النظام البائد وغرفهم الإعلامية، لجهة تصديرهم ورسمهم لإشاعات “موت حميدتي” طوال الفترة الماضية، أي طيلة فترة اختفائه، وقال:(حميدتي أراد بكثافة جولاته طرح رؤية الدعم السريع لإنهاء الحرب وحشد التأييد الدولي لها، بعد أن أخلى الساحة طيلة الفترة السابقة لخارجية البرهان والفلول في إقناع المجتمع الدولي والإقليمي بأنه – أي حميدتي – متمرد أو لتصنيف الدعم السريع كـ”إرهابي”، وهو ما فشلت فيه الخارجية وبرهان، من ثم يقوم هو حالياً بأخذ فرصته في تسويق رؤيته.

وشدد “إيهاب” على أن الهدف المهم من هذه الجولة، هو الحصول على تأكيد متعدد المصادر بأنه على قيد الحياة في مواجهة الشائعات، وأضاف:(لعل من السخرية والمفارقة أن تحتج الخارجية السودانية على زيارة حميدتي لإحدى الدول دون دول أخرى، كما أن المضحك والمبكي في آن واحد، أن تحتج الخارجية على زيارة شخص يقول مؤيدوها إنه “غير موجود” و”ميت”، وأن من يتجول حالياً هو شبيه ليس إلا، حد المطالبة ببصمة منه عبر الإيقاد، يحصل عليها مدير السجل المدني مثلما رشح مؤخرا.

ويرى الحسن أن الرسالة الأهم في استقبال حميدتي مثلما شاهد الجميع، هو أن المجتمع الدولي والإقليمي بحكم أجندته ومصالحه في السودان، أضحى يرى حميدتي الطرف الذي يمكن أن يرعاها وينفذها، بالتالي وبحكم بحث الجميع عن مصالحه، فإنه من باب أولى التعامل معه بإيجابية.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *