علي أحمد يكتب: خطاب المهزوم إلى المهزوم!

56
كاريكاتير/عمر دفع الله

 

كثيرون لا يعلمون عن الجنود الذين خاطبهم البرهان في قاعدة (جبيت) العسكرية بشرق السودان أمس الأول، فهم من الفرق العسكرية التي هُزمَتْ في معاركِ دارفور، خصوصًا في الجنينة، وفرّت مدحورة من ميدان المعركة، قبل أن يتم تجميعها مجدداً وترحيلها إلى معسكر (جبيت)، ويأتي قائدهم ليخطب فيهم خطاب المهزوم إلى مهزومين، وكان واضحًا في اللقاء انتفاء شروط أساسية بين الطرفين، فالثقة منعدمة بين الخطيب والمخاطب، والصياح والبذاءة والسفالة لن تجلب الثقة التي بددها الهربان، كما لن يُعيد ذلك للجنود روحهم المعنوية، خاصة وقد كشفت لهم تجارب هذه الحرب في دارفور عمليًا، عن حقيقة وضعهم أمام أوضاع الخصم الذي يحاربونه.

مأساة القائد المهزوم أنّه يقف خطيبًا أمام جنوده المهزومين ناكرًا هزيمتهم التي كانوا ليسوا شهودًا عليها فقط، بل يشهد بها وجودهم في (جبيت) بدلًا من (الجنينة). ومن جانبهم كان على الجنود الذين تذوقوا مرارة الهزيمة أن يظهروا وكأنهم لا يزالوا مصدقين أنّ هناك سانحة أخرى لـ (بل) من هزموهم وبعثروهم في كل وادٍ.

وما الصراخ وكل تلك الاصوات الهيستيرية التي أخذوا يصدرونها إلا تأكيداً لحالة اليأس الشاملة التي سيطرت عليهم، فلا يوجد خيار أمامهم وهم في وضعٍ كما الأسرى أمام هذا الذي يصر إصراراً على أنْ يكون باق قائدًا عليهم و(باغ) حاكمًا علينا. وصراخ (بل .. بل) الذي كان يخرج من حناجرهم إنما هو صدى للهزيمة، لكونه صادر عن ذبذبات ضعيفة وواهنة لصوت الجندي الهارب؛ الذي خرج من المعركة لا هو قاتل ولا قتيل ولا أسير ولا هو ثابت، بل فاراً بنفسه مذعوراً، وهذا أقسى ما يواجهه الجندي في ميادين الجندية. وربما نجد الأعذار لهؤلاء الجنود المساكين الذين هربوا من معارك دارفور ، وشاهدوا بأمهات أعينهم معنى الخذلان، وصور الفساد العسكري، والتقاعس عن توفير أبسط مُعينات القتال ليدفعوا ثمن ذلك بشكل مباشر.

ولا يزال البرهان كما وضح ذلك في خطبته بجبيبت؛ يواصل توهمه بأنّه ضابط عظيم وهي صفة لا تعبّر عنها الأنواط الموضوعة على الأكتاف، وإنما شرطها الأساسي، الذي لا يتوفر لديه، هو الثقة المتبادلة بين الجنود وقائدهم، خصوصاً في حالة الحرب، والتي هدمها بأكاذيبه المتتالية معتقداً انها ستمر على الجميع، أما الكارثة الأكبر فتتجلى في كونه يكذب حتى على جنوده، فأي قائد هذا الذي يبني كل أقواله وأفعاله على الكذب والتعامل مع جنوده كمجرد هوام، لا يميزون الكذب من الصواب؟!

وبالعودة إلى ذات الخُطبة الحافلة ببذئ الكلام، نتسائل: هل يعقل بأي حال أن لا يطوف بعقول هؤلاء الجنود خاطرأً عابراً بأن قائدهم الذي يتحدث اليهم هو الذي خرج فارًا من مقر قيادة المعارك منتعلًا (شبشب حمام) يكاد يقتله الخوف هاربًا إلى مدينة هي أبعد ما تكون في جغرافيا الفرار، وهم على يقين تام أن هذا الذي يخاطبهم هو ذاته سبب هزيمتهم وجعلهم يتنقلون بالطائرات من حامية إلى حامية أخرى، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ومن الجنوب إلى الشمال، ومنطق الحرب المتناقض هذا يفضي إلى مثل حالة الأمس والتي بدت في تجلي لها مأساة الهتاف المثقل بطعم الهزيمة المر غير منطوق به، بل الجهر بنقيضه في هستيريا (بل .. بل) والقائد الذي هرب يخاطبهم كاذبًا عن شجاعته هو لا هم، وعن ثباته هو لا ثباتهم، وهم يعلمون انه كاذب فأي خيار أمامهم سوي الصيحة اليائسة (بل.. بل)، التي أخذت معنى بذيئا ومغايرا، فالرجل لم ينطق بكلمة دعم معنوي واحدة ؛ ولم يواسيهم في جراحهم المعنوية كقائد يخطب في جنوده، فهل ثمة تعجب في هزيمة جديدة اضافها لهزائمه التي تتكرر على مدار الساعة؟!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *