القوى الديمقراطية ومعضلة الجيش
أ. رشا عوض
هذه المقالة هي الثالثة في سلسلة مقالات تحاول المساهمة في صياغة خطاب سياسي يرجح كفة السلام المستدام في السودان، المقالة الأولى كانت بعنوان “العلاقة بين الديمقراطيين والإسلاميين.. حرب وجودية أم تفاوض على شروط التعايش السلمي”، والثانية “القوى الديمقراطية ومعضلة الدعم السريع”، والهدف الرئيس هو استكشاف “معادلة كسبية” تقنع أطراف الحرب الحالية (الحركة الإسلامية والجيش والدعم السريع) بخيار إيقاف الحرب وبناء السلام ومن ثم تأسيس فترة انتقالية ناجحة للحكم المدني الديمقراطي، وتصميم مثل هذه المعادلة يستوجب توليد إرادة ذاتية منحازة للسلام داخل هذه المؤسسات وحواضنها الاجتماعية، كضغط إضافي على قياداتها إلى جانب ضغوط الميدان العسكري وداينمياته والضغوط الدولية والرغبة الشعبية الجارفة في لجم وحش الحرب والتخلص من ويلاتها.
ليست حرب الجيش!
الجيش السوداني من الناحية الموضوعية صاحب مصلحة راجحة في إيقاف الحرب، لأنها فُرضت عليه بسبب سيطرة الإسلامويين على مفاصله القيادية، وقد كشفت الحرب أن مشكلة الجيش لا تنحصر في عدم توازنه القومي وفي التسييس فحسب، بل فقد الجيش احترافيته وقدراته القتالية بسبب الاعتماد على المليشيات في خوض المعارك، بما فيها الحرب الحالية التي يخوضها عبر مليشيات إسلاموية كالبراء ابن مالك وغيرها، فهو يحارب “جنجويد الحاضر بجنجويد المستقبل!!” وبسبب الفساد في أوساط القيادات الذي أدى لتبديد الميزانيات الضخمة على مصالح نخبة عسكرية متنفذة، فيما تم التوقف عن التجنيد لصالح الجيش، وكذلك إهمال تسليح وتدريب الجنود وتحسين شروط خدمتهم إذ أن جندي الجيش هو أكثر من يعاني الفقر والمسغبة، انخفاض الروح المعنوية وضعف الإرادة القتالية لأسباب متراكمة أهمها: أن غالبية الجنود ينحدرون من أقاليم مهمشة كانت هي مسرح حروب الجيش لعقود، وبالتالي فإن الجندية في الجيش هي مجرد وظيفة اضطرارية للفقراء يؤدونها بذات الكيفية التي يؤدي بها موظف الخدمة المدنية المعطوبة عمله! أي بطريقة فاقدة للروح المعنوية العالية ولإحساس المسؤولية وملكية المؤسسة! وهذا هو سبب خسران الجيش لأي معركة في هذه الحرب والتقدم الكاسح الذي نراه لقوات الدعم السريع على الأرض.
ليس أمام الجيش من خيار لصالح الوطن إلا قبول الحل التفاوضي وصولاً لإيقاف هذه الحرب المهزلة، والتسليم بفكرة الجيش المهني الوطني الواحد، ومن شروط ذلك تحرير الجيش من سيطرة الإسلاميين، بل وتحرير الإسلاميين لأنفسهم بأنفسهم من فكرة حكم السودان بالقوة العسكرية! تلك الفكرة التي أوردتهم موارد الهلاك في هذه الحرب التي فقدوا فيها قتلى بالآلاف ولم يكسبوا منها سوى غضب ولعنات الشعب السوداني الذي واجههم بثورة سلمية فعاقبوه عليها بحرب مدمرة شردته وعذبته وأعادت البلاد عقوداً إلى الوراء.
ما معنى أن الجيش جيش الكيزان؟
مؤكد هذه العبارة لا تعني أن كل ضباط وجنود الجيش كيزان، ولكنها تعني احتلال الكيزان لمواقع القيادة وصنع القرار في الجيش وسيطرتهم على موارده واستخباراته ومن ثم خضوعه لإرادتهم، الأمر الذي يجعله في كل المحكات الوطنية الاستراتيجية يأتمر بأمر الكيزان ويدير ظهره للشعب! ولا ادل على ذلك من إغلاقه لبواباته في وجه الثوار الذين لاذوا به صبيحة فض اعتصام القيادة العامة واتخاذه لوضعية المتفرج على مواطنين عزل يذبحون في حرم قيادته العامة ونساء يتم اغتصابهن وجثث تلقى في النيل مربوطة بالحجارة! وهنا لا فائدة من الحديث عن وجود شرفاء ووطنيين في الجيش، فلو كان لمثل هؤلاء الشرفاء الوطنيين وجوداً داخل الجيش فهو وجود عديم الجدوى ولا فائدة منه ولا تأثير له في مجريات الأحداث إلى حين إشعار آخر! لم يحركوا ساكنا إزاء مجزرة فض الاعتصام وما سبقها من مجازر للمدنيين في الجنوب ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ولم يحركوا ساكناً عندما حدد الكيزان ساعة الصفر لحرب الخامس عشر من أبريل وفرضوها فرضاً على الجيش وعلى الشعب السوداني، لم يحركوا ساكناً عندما احتكرت أبواق الدعاية الحربية الكيزانية لسان الجيش وعارضت أي توجه للحل التفاوضي رغم أن مصلحة الجيش كمؤسسة كانت تقتضي الانحياز لإيقاف الحرب التي لم يكن مستعداً لها ولن يخرج منها إلا بوصمة أنه أول جيش في المنطقة يقصف عاصمة بلاده بالطيران ويسوي منشآتها الحيوية بالأرض في حرب بين أبناء الوطن الواحد، أما وصمة العار الكبرى فسوف تلحق به لو استمرت الحرب وقادت لانقسام الوطن مجدداً كما يخطط الكيزان، شرفاء الجيش الذين نسمع عنهم ولا نراهم، أمامهم الآن فرصة تاريخية للظهور! وهي هزيمة مخطط فصل دارفور الذي لن ينتج عنه دولة البحر والنهر كما تروج أبواق الكيزان بل سينتج عنه ابتلاع الشرق ومعظم الشمال وما أكثر الطامعين شمالاً وشرقاً!!
إن أكبر تحدي يواجه السودان اليوم هو تحدي الوحدة الوطنية، أبطال السودان اليوم من المدنيين أو العسكر هم من ينجحون في الخروج بالسودان من هذه الحرب موحداً، لأن الرهان على إطالة أمد الحرب هو رهان على تقسيم البلاد وليس رهاناً على هزيمة الدعم السريع الذي يبسط نفوذه الآن على معظم الخرطوم وعلى دارفور بشكل شبه كامل ويحاصر الأبيض ويقرع ابواب الجزيرة ونهر النيل!
الدرس الصحيح!
ما حدث في هذه الحرب يثبت أن أكثر مؤسسات الدولة السودانية حاجة لإعادة التأسيس والبناء هي الجيش السوداني، وأول خطوة في هذا الاتجاه هي التسليم بضرورة تحرير الجيش من سيطرة الإسلاميين وخروجه من السياسة ومن ثم استعادة مهنيته وقوميته في إطار عملية شاملة للإصلاح الأمني والعسكري في البلاد.
بحكم تطاول الدكتاتورية العسكرية في السودان اكتسب الجيش حصانة من النقد كانت سبباً في تدميره وتخلفه، حتى عن المليشيات والجيوش غير النظامية التي صنعها أو حاربها، مثلاً في حرب الجنوب سلمت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق أسرى من الجيش السوداني للصليب الأحمر فيما فشل الجيش السوداني في تسليم أي أسرى لأنه ببساطة لم يكن يحتفظ بالأسرى طوال تاريخه بل يقتلهم! ولا أدري كيف يفشل جيش الدولة النظامي فيما نجحت فيه حركة متمردة في الغابة؟! أليس ذلك مؤشراً لخلل عميق يستوجب معالجات جذرية؟
إن سيطرة الإسلامويين على الجيش أدت إلى تغيير كارثي في شفرة تشغيله الوطنية، فأصبحت الاستخبارات العسكرية مشغولة بصناعة الفتن العرقية والقبلية والسياسية ورعاية التنظيمات والشخصيات الانفصالية التي تنشط في تمزيق وحدة الوطن وكل ذلك لصالح سيطرة الكيزان، بدلاً من أن يكون الشغل الشاغل لها هو رصد المخاطر على الوطن! جيش تتواطأ قيادته مع عملاء الكيزان في شرق السودان على إغلاق ميناء البلاد الرئيسي لخنق حكومة الفترة الانتقالية دونما أدنى تفكير في أن العبث بالميناء حتماً سيقلل من جدواه الاقتصادية لصالح الموانئ المنافسة فيخسر السودان خسارة استراتيجية! جيش يحمي (هو والدعم السريع) تهريب الذهب عبر المطارات والموانئ!
إذا أراد الجيش فتح صفحة جديدة مع الشعب السوداني فإن الطريق الوحيد إلى ذلك هو إيقاف “حرب الكيزان” هذه، ثم الكف عن عرقلة بناء السلام المستدام والتحول الديمقراطي والانخراط بجدية وإخلاص في دفع استحقاقات بناء دولة مدنية ديمقراطية هي حتماً تصب في مصلحة الجيش كسواد أعظم من الجنود المسحوقين وصغار الضباط المظلومين، ففي ظل هذه الدولة سيجد الجيش تدريباً وتسليحاً أفضل، سيجد الفقراء من جنوده أوضاعاً أفضل، لن تسفك دماؤه في معارك سياسية وقبلية، وهذا لا يعارضه إلا سدنة الاستبداد وتماسيح الفساد الذين يريدون الجيش عصا غليظة في يد الكيزان لقمع ونهب الشعب السوداني.