الصادق سالم يكتب: الدولة الجديدة، والمثقف السائل، وغير المبدئي .!!
“يكون البشر أقوياء فقط طالما يمثلون فكرة قوية، وتزول قوتهم عندما يعارضونها” سيغموند فرويد.
١٥ أبريل هي حرب فاصلة بين عهدين مختلفين وغير قابلين للتلاقي أو السير معًا مطلقًا، هكذا يجب أن يبدأ التأريخ لها، عهد الدولة القديمة بقبحها وظلاماتها المعرَّفة والموثَّقة، وعهد جديد ينهض على أنقاض العهد القديم، نستشرف فيه وطنا يحمل بناته وأبناءه على حدٍ سواء، تكون الحرية والعدالة الاجتماعية من المسلمات فيه. لقد فقدت الدولة القديمة بما كسبت أيديها شروط بقائها واستمرارها، واصطدمت في آخر محاولات تشبثها بالحياة، بجيل الديسمبريين السلميين، ثم لقيت حتفها على يد ذات الجيل الديسمبري من فصيلة المقاتلين الشجعان، الممتلئين باليقين، والمؤمنين بعدالة قضيتهم، وحقهم في أن يكونوا أحرارا لا أتباعا، لقد نشأ وعاش هذا الجيل على هامش الحياة وخارج إطار الدولة ومؤسساتها.
لم تكن ١٥ أبريل نتيجة صدفة، أو تمرد كما تصفها الآلة الإعلامية للجيش وحلفه التأريخي، بل هي امتداد لحروب الدولة العميقة المنحازة، التي يقودها تحالف رأس المال السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي، ضد من تعتقد أنهم مختلفون عنها أو مهددين لوجودها. لقد شكل الدعم السريع في آخر نسخة منه تهديدا حقيقيا للمصالح التأريخية والمعاصرة لهذه المجموعة، فقرروا التخلص منه بضربة قاضية. هكذا تحدثوا في مجالسهم المغلقة والمفتوحة! ومن هنا جاءت عدالة ومشروعية حرب الدعم السريع ضد هذا التحالف، الذي يمثل الجيش أهم ركائزه والعصى التي يستخدمها في وجه كل المختلفين معه، فهو لم يكن في يوم من الأيام جيش الدولة أو الشعب.
ابتداءً خاض الدعم السريع حرب أبريل دفاعاً عن النفس، هذه حقيقة مجردة لا تقبل التسويف، حاولوا الالتفاف عليها بجملة أكاذيب أبسط ما يقال عنها طفولية، فقد تناسوا في عز هيجانهم، أننا نعيش في عصر أصبحت فيه المعلومة مبذولة للجميع، ولا سبيل لاحتكارها كما كان في السابق. والدفاع عن النفس حق أصيل تكفله كافة الشرائع والأعراف، ثم تطورت الحرب وبرزت معها المواقف والقضايا، وأنتج كل طرف خطابه الخاص، وتحول الدعم السريع في هذه النقطة من قوة تقاتل دفاعاً عن النفس، إلى حركة تغيير سياسي واجتماعي شامل، اجتذبت معها خلال عشرة أشهر من البسالة والتضحيات الجسام، آلاف السودانيين من المدنيين والعسكريين، المؤمنين بضرورة إحداث تغيير جذري في بنية الدولة وأجهزتها الرسمية، لصالح دولة المواطنة. هذا التحول الكبير والتأريخي في مسار قوة كان ينظر لها لوقتٍ قريب، أداة من أدوات القبضة المركزية، أقلق عدد كبير من المثقفين والسياسيين غير المبدئيين تجاه قضايا التغيير ومطلوباته، فأنقبلوا على النقيض ضد كل أطروحاتهم النظرية ومشاريعهم السياسية التي ظلوا يعملون لأجلها سنين طويلة.
ولأن الدولة التي يدافع عنها هؤلاء المثقفون وجيشها وجميع مؤسساتها فاقدين للأهلية، ولا يمكن الدفاع عنها بأي حال، فقد وجهوا سهامهم غير السنينة لمهاجمة الرؤية التي طرحتها قوات الدعم السريع للحل الشامل وتأسيس الدولة الجديدة -في بلد لا تمثل فيه الرؤى أهمية بقدر ما يمثل الراوي- جاءت هذه الرؤية حسب قراءات كثيرة -أتفق معها كليًا- متسقة مع قيم وموجهات ثورة ديسمبر التي تعتبر بذرة الدولة الجديدة وعمودها الفقري، لكن العقل المنكفئ للمثقف المغترب عن واقعه وغير المبدئي، يعتقد بأن الحديث عن الدولة الديمقراطية العادلة، هو حق حصري يخصه وحده وحفنة من الذين تجمعه معهم شبكة مصالح غير مرئية، فحاولوا وسعهم هزيمة الخطاب السياسي المتقدم الذي طرحته قوات الدعم السريع، مقابل خطاب الكرامة القديم والرجعي الذي يقدمه الجيش وحلفه الإسلامي الراديكالي باسم الدولة.
لقد فات على هؤلاء الناس أن التغييرات الجذرية الكبرى لا تطلب الإذن من أحد، ولن يقف في وجهها أحد، وستمضي لغايتها النهائية مهما كان حجم التحدي والمخاطر والتآمر، هكذا يقول المنطق والتاريخ البشري الممتد. والدرس الوحيد الذي يجب أن نتعلمه من هذه التجربة المريرة والمدمرة، أن السودان القديم بكل حمولاته السالبة، انتهى ولن يعود، وعلينا أن نتقبل حقيقة أن التغيير قد حدث فعلاً، وما نحتاجه فقط هو الاتفاق على أسس ومبادئ بناء دولتنا الجديدة التي تحتضن شعبها دون تمييز.