منتصف أبريل .. حرب الرِّدة، والصمود الحاسم .!!
منتصف أبريل .. حرب الرِّدة، والصمود الحاسم .!!
- الصادق سالم..
يصادف اليوم مرور عام على حرب الخامس عشر من أبريل، حرب تحالفات الدولة القديمة الأفقية والرأسية المنحازة من جهة، والدفاع الواجب والمقدس عن النفس التي قادتها قوات الدعم السريع من جهة أخرى، عقب التربص والهجوم الغادر الذي تعرضت له من قبل ما يسمى مجازاً بالجيش السوداني وحلفائه من كتائب الاسلاميين الراديكاليين، في محاولة بائسة ويائسة للرِّدة والعودة إلى العهد القديم، العهد الذي جرفته ثورة ديسمبر المجيدة، وانهته قوات الدعم السريع بصمودها الملحمي والاسطوري الحاسم، وموقفها المعلن والمنحاز لدولة العدالة، والتحول المدني الديمقراطي.
رغم ما صاحب هذه الحرب من انتهاكات وتعديات واسعة على المدنيين بكل أسف، شأن كل الحروب، سيما تلك التي خاضها ولا يزال يخوضها ما يعرف بالجيش السوداني، المتخصص في قتل وإبادة السودانيين، منذ ثورة توريت ١٩٥٥م، إلا أن هذا لا ينفي عدالة ومشروعية موقف الدعم السريع من الحرب نفسها، لو كنت مكان القائد “محمد حمدان” لاتخذت ذات القرار، قرار القتال حتى آخر قطرة دم، دفاعاً عن النفس، ورداً للعدوان الغشيم وغير المبرر، فحرب أبريل بقدر ما هي خسارة فادحة لعنصرنا البشري من الطرفين، وبالتحديد قوة شبابية منظمة ومقاتلة من طراز رفيع -الدعم السريع- التي كان بالامكان الاستفادة منها، وتوظيفها التوظيف الصحيح، لمصلحة البلاد وأمنها القومي، إلا انها تشكل في وجه آخر من أوجهها، ملحمة بطولية اسطورية، سطرها هولاء الفتية الأشاوس، الذين وجدوا انفسهم، دون سابق انذار وسط عاصفة من الحمم والنيران والبراميل المتفجرة صباح يوم الفجيعة، قابلوه بثبات ملحمي استثنائي، في تجسيد عملي لمقولة نيتشة “ما لا يقتلك يجعلك أقوى”.
مساء السابع عشر من شهر رمضان الذي غادرنا قبل أيام، التقيت بالعاصمة الرياض، صديق عزيز وضابط رفيع يتبع للقوات المسلحة السودانية الملتحقة بعاصفة الحزم، تحدث بأسى نبيل عن هذه الحرب وعن تقديرات قيادته الخاطئة، بالتخلص من قوة بهذا الحجم والنوع، دون التفكير في عواقب هذا الفعل، أو امكانية الاستفادة منها لمصلحة الوطن، تحدث الرجل بقناعة راسخة عن عدم مشروعية حرب القوات المسلحة الدائرة الآن، بالاضافة إلى عدم أهلية القيادة الحالية التي وصفها بالفشل والتآمر، بالطبع هذا هو رأي غالبية ضباط الجيش الوطنيين من الذين لم تصيبهم لوثة العِرق أو الجهة أو الأيدلوجيا.
لقد رأى وتابع السودانيون في كل مكان، وبأم اعينهم، مثلما رأى العالم أجمع، التعبئة للحرب والاعداد لها منذ وقتٍ بعيد، ويعرفون جيداً من فعل ذلك، ومن له مصلحة مباشرة في اشعالها، بحيث لم تنجح الآلة الاعلامية الضخمة التي وظفتها العصابة لطمس الحقيقة البائنة، وقد فشلت كل التدابير والمساعي الحميدة لاحتواء التصعيد، الذي بدأه قادة الجيش، لأنهم -أي القادة- وحلفائهم قد حسموا أمرهم في الذهاب إلى هذه الحرب، وبشكل صفري، وكل ما كانوا يفلعونه مع الوسطاء هو شراء للوقت، من أجل ساعة صفر حددوها مسبقاً، بفرضيات غبية وحالمة، اثبتت الأيام فشلها، الذي هو بالأساس فشل هؤلاء القادة.
ما كان لحرب الخامس عشر من أبريل -حرب الرِّدة- أن تندلع لولا أن هناك من صورت له نفسه عبر التاريخ، بأنه الوصي الأوحد على السودانيين، وأن كل من وما يتعارض مع تصوراته الرديئة الخاصة، لشكل الدولة ونظام الحكم فيها وشاغلي السلطة، يجب أن يفنى ويزول، هذه العقلية النرجسية والأنانية، التي لا تعترف بالآخر، ولا بحقوقه، إلا من خلال ما تراه وتقرره هي من حقوق، هي من قادة السودان إلى ما هو عليه الآن، ولوضع حد نهائي للحروب في هذا البلد، يحب أن تفنى وتزول هذه العقلية للأبد، وهي المهمة السامية التي إضطلع بها فتية الدعم السريع، نيابة عن كل الحالمين والعاملين من أجل وطن يحتمل الجميع ويسعهم.
وقعت الحرب التي خُطِّط لها أن تستمر لأيام معدودة، حتى تعود السلطة خالصة لوجه البرهان وجيشه وحلفائه، لكنها اكملت اليوم عامها الأول، في سيناريو لم يكن اسوأ المتشائمين في معسكر الجيش يتوقعه، مصحوب بهزائم متتالية ومستمرة، مُنيت بها القوات المسلحة بشكل درامي مأساوي، وإذا استمر الحال على ما هو عليه وقطعاً سيسمتر، فان فناءه مسألة وقت ليس أكثر، حتى أصبح السؤال الذي يبتدر به السودانيون جلساتهم: هل هذا هو الجيش الذي اذاق شعبه كل صنوف العذاب؟ وقال لهم لا أريكم إلا ما أرى، الجيش الذي يأخذ ثلاثة أرباع ميزانية الدولة، على حساب صحة وتعليم ورفاهية شعبه؟ بالتأكيد هذا هو وهذه حقيقته، وما كنا نراه من قبل ما هو إلا جبروت وتسلط ضد المدنيين العزل.
لقد أحدثت هذه الحرب المشحونة بالعواطف واللامنطق، شرخ وانقسام غير مسبوقين وسط المجمتع، وفي ذات الوقت فتحت معها الأبواب واسعة أمام الأسئلة الصعبة والمُلِّحة، التي لطالما قفزنا فوقها، بصورة حالمة أحياناً، ومخادعة وماكرة أحياناً أخرى، وهو ما يجب عدم السماح بتكراره هذه المرة، إن اقرار مبدأ الحل السياسي الشامل للأزمة السودانية التاريخية والمعاصرة، هو المدخل الصحيح والوحيد الذي يمكِّننا من انقاذ ما يمكن انقاذه من هذا البلد، يليه إعادة بناء وتأسيس مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وتأتي القوات المسلحة -رأس الأفعى- في مقدمة المؤسسات التي يجب إعادة بناءها وتأسيسها من جديد، لتستوعب كل المتغيرات التي فرضتها حرب أبريل، ولتصبح فعلاً قوات الشعب المسلحة، بدلاً عن امبراطورية المال والنفوذ السابقة، المسخ الذي اعتاد على قتل السودانيين ونهب ثرواتهم.
لقد اختصرت هذه الحرب -سيما انتصارات الدعم السريع وسحقه المستمر لجيش الدولة والعهد القديمين- الباب واسعاً أمام السودانيون، لحسم أمهات القضايا التي اعاقت بناء الدولة، والتي تعمدت النخبة والصفوة المدنية والعسكرية المتحكمة في القرار السياسي تاريخياً، غض الطرف عنها، فعلى غير كل فترات الحكم الوطني الممتد، وأكثر من أي وقتٍ مضى، أصبح اليوم نقاش هذه القضايا، وفي فضاء حر وغير مقيد أمراً ممكناً ومتاحاً، إذا ما توفرت الارادة الحقيقية، التي ينبغي أن يكون السودانيون قد اكتسبوها خلال عام كامل من المعاناة والحرب الضروس، لنتفرغ بعدها لبناء دولة جديدة، عادلة، آمنة وديمقراطية..