وزير العدل السابق: أهم بنود “إعلان نيروبي” على الإطلاق، هو البند 4-(هـ)، الذي ينص على “تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة.
الدكتور نصرالدين عبد الباري
وزير عدل حكومة الثورة.
(أهم بنود “إعلان نيروبي” على الإطلاق، هو البند 4-(هـ)، الذي ينص على “تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة).
في نيروبي، أو “إنكارا نيروبي،” أي مكان المياه الباردة بلغة الماساي، أو الأرض الخضراء تحت الشمس، كما تُسمى عادةً، وُقَّع اليوم إعلانٌ بين رئيس الوزراء السابق، الدكتور عبدالله حمدوك، ورئيس حركة تحرير السودان، القائد عبدالواحد محمد أحمد النور، ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان—شمال، القائد عبدالعزيز الحلو، أحد أميَّز وأصلب القادة، الذين أنتجتهم الحركة الشعبية لتحرير السودان.
يوجه الإعلانُ الموقع دعوةً إلى الطرفين الخائضين للحرب اليوم إلى وقفِ إطلاق النار والعمل على إنهاء الحربِ وتحقيقِ السلامِ الدائم.
إن أبْرز ما تم النص عليه في إعلان نيروبي من أحكام بيِّنة، لا لبس فيها، هو العملُ على المعالجة الشاملة لأزمات السودان التراكمية، لا عَبْر عملية انتقالية تقليدية، وإنما عَبْر “عملية تأسيسية،” تقوم على مبادئ أساسية لازمة لبناء دولة جديدة، هي الوحدة الطوعية؛ تأسيس دولة علمانية غير منحازة، تعترف بالتنوع وتعبِّر عن جميع مكوناتها بالمساواة والعدل؛ وتأسيس حكم مدني ديمقراطي فيدرالي؛ وضمان فصل الهُويات الثقافية والإثنية والدينية والجهوية عن الدولة (أي فك الارتباط بين الهُويات والدولة)؛ ومعالجة قضية انتهاكات حقوق الإنسان عبر العدالة والمحاسبة التاريخية؛ وحق تقرير المصير للشعوب السودانية، في حال الفشل في تضمين هذه المبادئ في الدستور.
لكن أكثر بنود إعلان نيروبي أهميةً على الإطلاق، والذي يعكس فهم القادة الثلاثة العميق للمدخل الصحيح والمنهج السليم لتنفيذ الأحكام التأسيسية المهمة الأخرى، هو البند ٤(هـ)، الذي ينص على “تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة، وفقاً للمعايير المتوافق عليها دولياً، تفضي إلى جيش مهني وقومي واحد، يعمل وفق عقيدة عسكرية جديدة، يلتزم بحماية الأمن الوطني وفقاً للدستور، وأن يكون ولاؤها للوطن، ويعبر تشكيله عن كل السودانيين، وفقاً لمعيار التعداد السكاني، وينأى عن العمل السياسي والنشاط الاقتصادي بصورة كلية.” لو وَقَّعَ القادةُ الثلاثة على إعلانٍ لم ينصْ سوى على هذا البند، لحُقَ لكلِ داعٍ إلى التغيير، أو طالبٍ للتحول، أو مناضلٍ من أجل الحرية في السودان الإشادة بهم والاحتفاء بما أعلنوه اليوم في نيروبي.
إن المنظومة الأمنية في السودان ظلتْ دوماً العقبة الكؤود أمام التغيير والاستقرار والنهضة، تمارس القهر والكبت والاستبداد، أحياناً كأداة بيدِ النخب السياسية الحاكمة، وفي غالب الأحيان بقيادة النخب العسكرية المهيمنة، حينما تقود هي بوجهٍ مباشرٍ الأنظمةَ السياسية، فاقدة الشرعية.
لقد أُضطر القائد عبدالعزيز الحلو، خريج كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، إلى تَرْك وظيفته كإداري بالهيئة القومية للكهرباء في الخرطوم، وارتداء الزي العسكري والثورة أو التمرد، إن شئت، على الدولة ونظامها السياسي من جبال النوبة، بسبب بطش واستبداد المنظومة الأمنية، أو النظام السياسي المحمي بالمنظومة الأمنية، بدلاً من الاستمرار في العمل الإداري أو الاقتصادي. وأُجبر عبدالواحد محمد نور المحامِ، خريج كلية القانون بجامعة الخرطوم، إلى ارتداء لأْمَةِ الحرب والثورة أو التمرد، إن شئت، على الدولة ونظامها السياسي من جبل مرة بسبب القهر المُمَارَس من هذه المنظومة الأمنية، التي سجنته في مدينة زالنجي عقاباً له على مواقفه وتوجهاته السياسية—وهو مدنيٌ أعزل. وقد غادر الدكتور عبدالله حمدوك الخرطوم بسبب هندسة هذه المنظومة وتنفيذها لانقلابٍ عسكري أطاح بحكومته المسنودة شعبياً، وحققت إنجازات كبيرة في الإصلاح الاقتصادي، وإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والشروع في إعادة السودان إلى النظام المالي الدولي، وكفالة الحقوق والحريات الأساسية. فلا غَرْوَ أن نص الإعلانُ، الذي وقعه هؤلاء القادةُ الثلاثة، على تأسيسِ منظومة عسكرية وأمنية جديدة، الشرطُ اللازم لتأسيسِ دولة سودانية جديدة.
فصواباً فعل الموقعون على إعلان نيروبي، إذ نصوا على تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة. فتأسيسُ السودان المنشود في الإعلان أو بقاؤه مستقراً أمرٌ مستحيل باستمرار هذه المنظومة الأمنية المعطوبة. والمبادئُ التي تم النص عليها، سوف تبقى حبراً على ورق، طالما كانت هنالك منظومة أمنية تشهر سلاحها في وجهِ كلِ مَنْ يجرؤ على البوح برأيٍ سياسيٍ مخالِفٍ لِمَا تبغاه أو ترضاه النخب السياسية أو العسكرية المهيمنة على الدولة. وخيراً فعل فخامة الرئيس وليام روتو، إذ رعى وشرَّف الاجتماع بين المتمسكين ب والثابتين على مبادئ السودان الجديد. فمن “إنكارا نيروبي،” تهب دوماً على الشعوب السودانية، التي عانت كثيراً من الضَيْم، وطلاب التغيير الحق رياحٌ باردة. وبدعمها المستمر للقوى المناضلة حقاً من أجل التغيير والتحول الديمقراطي ووقوفها في الجانب الصحيح من التاريخ، سوف يتحول السودان تحت الشمس إلى أرضٍ خضراء بالسلامِ والديمقراطية والازدهار.