حرب التضليل الكبرى: كيف تلاعب الجيش السوداني بسرديات الحرب؟

متابعات – يلو نيوز الاخبارية
عرف الفضاء الرقمي السوداني لأول مرة عمليات التضليل المنظم في العام 2011م حينما أنشأ جهاز الأمن والمخابرات العامة وحدة “الجهاد الإلكتروني” وكانت تلك الوحدة معنية بجمع المعلومات ومراقبة الناشطين المعارضين للنظام، وبحسب دراسة أجرتها مؤسسة بيم ريبورتس، وفيما بعد عملت هذه الوحدة على بث معلومات مضللة وإغراق الفضاء الرقمي السوداني في إنتفاضة سبتمبر 2013م ومع تطور الأحداث السياسية في السودان واندلاع ثورة ديسمبر 2018 لعبت منصات التواصل الإجتماعي دورا محوريا في نجاح الثورة، لتكون بمثابة قنوات لتحديد المواكب ومواقيتها.
وأشارت دراسة أجرتها مؤسسة (DFR Lab) المعهد الأطلنطي الأمريكي، أن منصات التواصل الإجتماعي لعبت دوراً كبير في التوثيق للجرائم التي يرتكبها جهاز أمن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، حتى أصبح جنوده يخفون وجوههم خشية التعرف عليهم، تلك المنصات التي يجب أن تكون فضاء حر للتواصل أصبحت بمثابة ساحة حرب لنشر المعلومات المضللة، وتعزيز سرديات الحرب التي يبثها الجيش السوداني والكتائب والمليشيات التابعة له.
حرب 15 – أبريل بين الحقيقة والتضليل:
حينما إندلع الصراع في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لجأ طرفي الحرب إلى تعزيز سردياتهم حول من أطلق الرصاصة الأولي، وقالت قوات الدعم السريع أن الجيش هجم على قواتها في معسكر المدينة الرياضية، وبالتالي هو من أشعل الحرب، بينما قال الجيش السوداني أن قوات الدعم السريع تمردت عليه وبالتالي يجب قتالها، وكانت هذه السرديات هي مدخل لعمليات التضليل التي شهدها الفضاء الرقمي السوداني خلال حرب أبريل، حيث اتهمت القوى السياسية الثورية الحركة الإسلامية وأذرعها بإشعال الحرب في السودان، بينما اتهمت الحركة الإسلامية قوى الاتفاق الإطاري باشعال الحرب، وأعلنت تأيديها وقتالها في صفوف الجيش.
كيف يقاتل عناصر الإنقاذ في صفوف الجيش السوداني؟
في تحقيق أجرته الـ(BBC) عن الجماعات الإسلامية التي تقاتل في صفوف الجيش السوداني، كشف التقريرعن زيف سردية التمرد، وعزز من سردية القوى المدنية والدعم السريع حول إشعال الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني المحلول للحرب في السودان، وتقاتل عضوية الحركة الإسلامية في صفوف الجيش تحت راية لوء البراء بن مالك، وهيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن التي تم تسميتها بـ(قوات العمل الخاص) وبحسب التحقيق فأن قوات الإسلاميين تتدرب في معسكرات شرقي السودان في مدينة كسلا، ويشرف عليها رئيس حزب المؤتمر الوطني والمطلوب للمحكمة الجنائية، أحمد هارون.
وتفند التحقيقات والمعلومات منذ بدء الحرب بتلك السردية، وتأكد بأن الحركة الإسلامية هي من أشعل الحرب في السودان، وبحسب البي بي سي أن الجيش السوداني أصبح حاضنة للإسلاميين وهم من يسيطرون على قراره، بينما نفى الأخير تلك المزاعم، وبحسب مقاطع فيديو نشرت في أبريل 2023 تحققت منها “عين الحقيقة” فأن كوادر حزب المؤتمر الوطني مهدو للحرب وبدءوا في التجهيز لها منذ رمضان، وهدد رئيس حزب المؤتمر الوطني المحلول في ولاية شرق دارفور سابقا أنس عمر في مقطع فيديو قبل اندلاع الحرب بإشعالها في حال تم توقيع الاتفاق الإطاري.
سرديات متناقضة:
وبث الجيش السوداني منذ بدء الحرب سرديات متعددة، حيث قال بأن الدعم السريع تمرد عليه، ثم سمى المعركة بحرب الكرامة، وصولاً إلى التعبئة والاستنفار العام، ثم سردية الانتهاكات والدفاع عن النفس، وصولاً إلى سردية دولة العطاوة وعرب الشتات، ثم المرتزقة والغزو الأجني، وعمل الجيش والحركة الإسلامية من خلفه على إغراق الرأي العام بمعلومات مضللة، حيث تدير وحدة الجهاد الإلكتروني الموالية للإسلاميين مئات الحسابات على منصات التواصل الإجتماعي، تبث تلك المنصات معلومات مضللة عن ما يجري في الواقع.
وكشفت منصة تدقيق الحقائق بيم ريبورتس عن شبكة من الحسابات يتم إدارتها من (تركيا وسوريا) تدعم الجيش السوداني وتعزز من سردياته وتهاجم الدعم السريع، كما كشف تحقيق سابق أن شركة فيسبوك أغلقت عشرات الحسابات التابعة للإسلاميين تبث معلومات مضللة وشاركت في حملة واسعة ضد الحكومة المدنية، ودعمت انقلاب 25 – أكتوبر 2021 وتلك المنصات بحسب فيسبوك يتم الدفع لها بالليرة التركية والريال القطري.
الانتهاكات والدفاع عن النفس:
ومثلت سردية الانتهاكات والدفاع عن النفس الزخم الأكبر لحرب 15 – أبريل، وتم تصوير الحرب من كونها بين الجيش والدعم السريع إلى حرب بين المواطنين والدعم السريع، وقد نجح الجيش في تعزيز هذه السردية عبر التضليل، في 13 – مايو 2023 أعلن وزير الدفاع الاستنفار لضباط ومعاشي القوات المسلحة وكل القادرين على حمل السلاح، غير أن الرأي العام السوداني استنكر تلك الدعوة واعتبرها بداية لزج المدنيين في الصراع، وعاد الوزير بتوضيح أن الاستنفار يشمل ضباط ومعاشي الجيش، وفي 27 – يوليو 2023 أعلن قائد الجيش الاستنفار العام، ومن هنا انطلقت سردية الدفاع عن النفس، ولم يلبي السودانيين تلك الدعوة لمعرفتهم حقيقة الجيش السوداني، ولجأت الحركة الإسلامية التي تدير الحرب فعلياً إلى ارتكاب الانتهاكات ضد المدنيين وبث معلومات ضخمة عبر منصاتها وحملت تلك الجرائم إلى قوات الدعم السريع.
وبعد أن سيطرت قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة، قامت الحركة الإسلامية واستخبارات الجيش بزرع عميل داخل قوات الدعم السريع (أبو عاقلة كيكل) وهو قائد مليشيا قبلية يقاتل في صفوف الجيش حاليا، ذلك القائد وخلفة الاستخبارات العسكرية والحركة الإسلامية ارتكب مجازر وانتهاكات عدة في قرى الجزيرة ووجه الاتهام إلى الدعم السريع بحكم سيطرته على الولاية، وهو الأمر الذي عملت المنصات على بثه بصورة واسعة، وعزز ذلك من سردية الحركة الإسلامية والجيش القائلة بالدفاع عن النفس، وعلى ضوء ذلك سلح الجيش آلاف السودانيين في إقليمي وسط وشمال السودان، وهو الوقت الذي أعلن فيه (أبو عاقلة كيكل) انسلاخه من الدعم السريع والانضمام إلى الجيش.
وبعد أن سيطر الجيش على ولاية الجزيرة ارتكب انتهاكات شنيعة ضد سكان الكنابي بالولاية، حيث شن حملة تطهير عرقي تم فيها ذبح الرجال والنساء، وقتل بعضهم رمياً بالرصاص، تلك العملية ضحدت سردية الدفاع عن النفس التي يتبناها الجيش، لتأتي الحركة الإسلامية بسردية جديدة على لسان مساعد قائد الجيش ياسر العطا وهي القائلة بـ(الغزو الأجنبي، ودولة العطاوة) وهي سردية قالو عبرها أن الدعم السريع يسعي لفصل البلاد.
وعمل الجيش والحركة الاسلامية المسيطرة على جهاز الدولة خلال هذه الحرب على حرمان المواطنيين السودانيين من الخدمات، وإعلان قانون الوجوه الغريبة ضد جماعات ومجتمعات سميت بحواضن الدعم السريع، كما عملت على حرمان الناس من الأورق الثبوتيه، واقامت امتحانت الشهادة الثانوية في ولايات محددة حرمت خلالها أكثر من 60% من الطلاب السودانيين، كما ذهبت إلى تغيير العملة في مناطق سيطرتها، وهي شواهد تأكد بأن الحركة الإسلامية والجيش هما من يدفعان نحو الإنفصال حيث أن كل تلك الإجراءت هي تمهيدية لإقامة سلطتين، وعملت المنصات التي يديرها الجيش على تعزيز تلك السردية بصورة كبيرة، حيث كشف تحقيق لبيم ريبورتس أن منصات على فيسبوك تبث معلومات مضللة تهاجم عبرها الدعم السريع والقوى المدنية المناهضة للحرب، كما تعمل على تعزيز سردية الجيش القائلة بأن الحرب الجارية هي غزو أجنبي.
جهاز المخابرات وحدة الجهاد الإلكتروني:
ويعمل جهاز المخابرات الذي تسيطر عليه الحركة الإسلامية عبر وحدة الجهاد الإلكتروني على بث معلومات مضللة في الفضاء الرقمي السوداني، حيث كشف تحقيق سابق لـ(بيم ريبورتس) أن حسابات تتبع لوحدة الردع الإلكتروني تعمل على بث معلومات مضللة تستهدف عبرها أفراد مدنيين تدعي أنهم متعاونون مع قوات الدعم السريع، وعملت تلك الشبكة على بث المعلومات تحت وسم #انتم_لستم_أمنين، وجراء ذلك قُتل المئات من المدنيين واحتجز أخرون لم يعرف مصيرهم بعد.
فيسبوك منصة للصراع والتضليل:
ويستخدم معظم السودانيين الذين يمتلكون هاتف ذكي واتصال بالإنترنت منصة فيسبوك لمعرفة الأخبار أو للتعليق على الأحداث الجارية، خلال الحرب تفشى خطاب الكراهية بصورة كبيرة وازداد الإنقسام الإجتماعي بين المجتمعات التي تناصر الدعم السريع والتي تناصر الجيش، بيد أن فيسبوك كانت تمثل المنصة الأوسع للتواصل بين هذه المجتمعات لدحض خطاب الكراهية أو للوصول إلى صيغة تعايش، ورغم ذلك عمل مجموعة من الفاعلين الموالين للجيش على التواصل مع شركة فيسبوك لإغلاق الحسابات التابعة لقوات الدعم السريع، واتخذت الشركة قراراً سياسيا يخالف حتى سياساتها المعلنة، وعبره أغلقت الشركة مئات الحسابات التي تتبع لأفراد من مجتمعات غرب السودان، حيث أن الشركة أغلقت حسابات مواطنين ليس لهم ارتباط بقوات الدعم السريع، مساهمة في ذلك بانقطاع تواصل السودانيين فيما بينهم، مما يتيح فضائين متباعدين بفعل شركة فيسبوك وبفعل الصراع على الأرض، لتساهم الأولي في تأجيج وانتشار خطاب الكراهية، فتكون بذلك خالفت الشركة مبادئها المعلنة مساهمةً في حرق ثالث أكبر بلد في إفريقيا.