لمشاركتها الجيش السوداني في مجزرة بالجنوب: سودانيون يقاضون شركة نفط سويدية عملاقة!

148

فضيلي جمّاع

 

بائس هو الخطاب الذي يحاول إقناعنا بأنّ هناك مؤسسة عسكرية محترمة اسمها (القوات المسلحة). بؤس ذلك الخطاب ينطلق من تجاهل أصحابه التام لحقيقة أنّ تاريخ الجيش السوداني ارتبط ارتباطاً وثيقاً منذ الإستقلال بمهمتين هما العكس تماماً لما تفصح عنه دساتير الجيوش الوطنية في العالم:

أولى هاتين المهمتين: خوض هذا الجيش الحروب ضد مواطنيه طوال 67 سنة (عمر استقلال بلادنا). جيش يخوض حروباً لأكثر من نصف قرن ضد مواطنيه المنوط به حمايتهم، ولا يفتح الله عليه بحرب واحدة ضد عدو أجنبي دفاعاً عن حدود الوطن!.

أما المهمة الثانية لجيش السودان فهي شهوة جنرالاته في السلطة حد السُّعار والمرض المزمن. جيش يفكّر خريج كليته الحربية متى يكون نصيبه من كيكة الحكم. بل يفكر في أن يعرف الطريق الذي يؤدي إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون لا الطريق إلى الثغور وحدود الوطن الذي ينبغي أن يحميه. فمن بين 67 عاماً- عمر استقلال بلادنا- كان نصيب العسكر في الحكم 56 سنة، هبط إبانها مؤشر نمو بلادنا في كلِّ شئ، بدءاً بالاقتصاد والتربية والتعليم وانتهاءً بأخلاق المواطنين التي كانت ذات يوم عملتَنا الصعبة بين الشعوب. والأدهى والأمر أنّ جيش البلاد الذي يتفنن في إبادة شعبه لا يعير جنرالاتُه اهتماماً لحدوده المغتصبة جهاراً نهاراً. يغمضون العين عنها خوفاً واستهانة بالواجب! لذا ليس غريباً أن ينتهي المطاف بجيش مثل هذا ليكون مجرد مليشيا لتنظيم سياسي- تنظيم الأخوان المسلمين- الذي يخلو دستوره أصلاً من أطروحة الوطن!

دعاني لكتابة هذا المقال ما قرأته في صحيفة الأوبزيرفر البريطانية واسعة الانتشار أمس الأحد 31 ديسمبر 2023م لمراسلة الصحيفة ميراندا بريانت ، عن أكبر مجزرة قام بها الجيش السوداني في مدينة لير بجنوب السودان في الفترة بين 1999- 2003م، بإيعاز من شركة ليندين السويدية للنفط- وهي واحدة من كبريات شركات النفط في العالم. الجديد في الأمر أن المجزرة التي وقعت قبل ربع قرن في جنوب السودان، أخذت التحريات فيها عشر سنوات. في اتصال للأوبزيرفر مع جورج تاي كيوني من جوبا عاصمة جنوب السودان حيث يعيش الآن يقول (إنّ حياتي ما عادت كما هي مطلقاً. لقد جاء النفط لمنطقتنا: فحسبناه نعمة، وأنه سيكون لمصلحة مجتمعنا. لكن وقعت المجزرة عوضاً عن ذلك. فقد أرادوا إبادتنا، أرادوا نزوحنا من منطقتنا).

تنقل مراسلة الأوبزيرفر عن كيوني بأنه قبل وصول شركة لندين للنفط إلى مدينة لير- التابعة حالياً لجنوب السودان- كان السلام يعم المنطقة. وكانت حياته صورة صادقة لطفل القرية الذي يرعى الماشية ويعين أسرته، ويذهب إلى المدرسة. لكن تغير الأمر في يونيو 1999م إذ بلغ الخامسة عشرة من عمره. دخلت قوات مسلحة ومليشيات تابعة لها المدينة فتغيرت حياته إلى الأبد. هرب تاي كيوني، واختفى من أسرته لسبعة أيام قبل أن يتمكن من العودة.

يحكي كيوني المحامي وناشط حقوق الإنسان البالغ حالياً من العمر 40 عاماً: (عندما عدت وجدت أن لير لم تكن هي المدينة التي غادرتها قبل أسبوع. لقد أحرقوا ودمروا كل شيء. رأيت جثثاً ملقاة في الطرقات). لقد فقد أباه وفقد أمه مؤخراً وشقيقه. يقول كيوني: لم يدر مجتمعنا آنذاك علام يشن الجيش ضدهم الحرب؟ فما حدث أن سمعوا عن شركة النفط السويدية.

ويتساءل كاتب هذه السطور: هل تختلف مجزرة لير- موضوع مقال الأوبزيرفر- كثيراً عن مجازر جيش السودان في دار فور وفي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق؟ المخجل أن ترى جنرالات الجيش وعلى اكتافهم أوسمة وشارات تقول بأن هذا الجنرال (أركان حرب)! لو أن الحرب ضد عدو أجنبي يطمع في بلادنا لما أنكرنا عليهم الأوسمة ومسمياتها. أما أن تكون الأوسمة كناية عن إنجاز لحروب خاضها جيش لأكثر من نصف قرن ضد شعوب بلاده فتلك وصمة عار وليست شرفاً!!

تقول مراسلة الأوبزيرفر: وبعد مرور ربع قرن على تلك المجزرة يطمع كيوني أن ينتصر القضاء (السويدي) له وللضحايا الآخرين من سكان مدينة لير، حيث تجري حالياً محاكمة اثنين من المدراء التنفيذيين للشركة في مدينة ستكهولم (عاصمة السويد) متهمين بضلوعهم بالمساعدة في تأجيج حرب الجنوب في الفترة بين 1999- 2003م.

وفقاً للإدعاء في إحدى كبريات القضايا الجنائية في السويد، يقف إيان لندين السويدي الجنسية وأليكس شنايتر السويسري الجنسية أمام المحكمة بتهمة طلبهما من الحكومة السودانية أن تأمر جيشها والمليشيات التابعة للجيش ببسط الأمن على واحد من حقول استكشاف النفط التابعة لشركة لندين. وقد أدى ذلك إلى قصف جوي للمدنيين وحرق لقرى المنطقة بأكملها. وقد أنكر الرجلان التهمة!

إن المحاكمة التي جاءت بعد تحريات للإدعاء امتدت لعشر سنوات، وشملت مئات التحقيقات وضمت تقريراً حجمه 80000 (ثمانون ألف) صفحة قد بدأت جلساتها في سبتمبر الماضي. لكن يتوقع أن تكون جلساتها الهامة في العام 2024 حيث من المتوقع أن يظهر في المحاكمة 61 (واحد وستون شاهدا) من بينهم ضحايا وموظفون لشركة لندين وموظفون سابقون في الأمم المتحدة وبعض كبار السياسيين. من بين كبار السياسيين الذين سيحضرون هذه المحاكمة كارل بيلت، رئيس وزراء الحكومة السويدية سابقاً والذي كان رئيساً لمجلس إدارة الشركة لخمس سنوات!!

تقول الصحيفة، لقد حاول كيوني أن يحصل على العدالة منذ العام 2006م حينما حاول الضحايا إقامة دعوى في السودان ضد الشركة لكنهم لم ينجحوا. واليوم يتمنى أن تضع هذه القضية- أياً كانت مخرجاتها- سابقة قانونية للشركات العالمية التي تعمل في ولاية قضائية، بحيث ترسل أقوى رسالة بأنهم لا يمكن أن يتصرفوا بمنأى عن العقاب.

تقول إيبوني ويد- وهي استشارية قانونية في المنظمة السويدية لحقوق الإنسان- إنّ شهر مايو من العام 2024 سيكون لحظة تاريخية: إذ أن المحكمة سوف تستمع لأول مرة للتجارب التي عاشها المدّعون والضحايا في جنوب السودان. وتضيف أنه من النادر جداً أن يخضع مدراء تنفيذيون لشركة متعددة الجنسيات للمحاكمة في بلد أوربي بسبب إنتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان.

يقول القس جيمس نينروي دونق بأنه هرب من لير بعد أن بدأ الجيش الحكومي والمليشيات التابعة له بمهاجمة الكنائس. ويضيف القس الذي صار واحداً من الشهود والمدعين بأنه وجد نفسه مضطراً ليدلي بشهادته. ويضيف: لقد هاجمونا وجعلوا منا نازحين. من المؤسف أن المواطنين يهرعون للاحتماء بالكنيسة طالبين الحماية. ولم يكن باستطاعتنا توفير الحماية لهم. ويضيف القس بأن من الغريب أن السويد وهي الرقم الأعلى في الدعوة لحماية حقوق الإنسان ومقر مؤسسة جائزة نوبل، نرى بعضاً من مواطنيها ممن لا يكترثون ولا يهتمون بما حدث في التاريخ!!

أختم بما بدأت، بأنّ الخطاب البائس الذي يعطي القداسة لمؤسسة الجيش السوداني، ويقرن بين مناصرتها وصك الوطنية الخالصة إنما هو مجرد إحتيال يقوم به الإسلامويون الذين قضوا على الجيش بحروب لا طائل من ورائها منذ انقلابهم المشؤوم على النظام الديموقراطي في 30 يونيو 1989م. حرب جهادية جنوب البلاد أدت لفصله. وحروب إبادة في دار فور وأخرى في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. إنّ المحصلة الحتمية لجيش نخر فيه الفساد وأصبح ينشيء المؤسسات الاقتصادية باسم الصناعات الحربية، ليصب عائدها من التجارة في المحاصيل والمواشي، ودون رقابة مالية من الدولة في حسابات كبار قادة التنظيم وكبار ضباط الجيش، إن جيشاً ينهب 80 بالمائة من عائد خزينة البلاد باسم قواته وقوات الأمن، لهو مليشيا ينبغي أن تخضع لكل الترتيبات التي تخضع لها كل المليشيات يوم أن تنتصر ثورة شعبنا- وهي بإذن الله منتصرة– ونبدأ في بناء جيش وطني ذي عقيدة وطنية، تراعي أول ما تراعي حماية المواطن لا إعلان الحرب عليه، وحراسة حدود البلاد لا تسليمها في طبق من ذهب لمن يحسب السودان قطعة أرض دون مواطنين ولا سيادة!

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *