أنس آدم يكتب: النخبة الشمالية .. عقلية وصائية أم أستاذية سياسية؟ (1)

5
انس ادم

“لماذا قفز “د. محمد جلال هاشم” من سفينة الكتلة التاريخية؟”

 

طالعنا بتاريخ 28 مارس 2025 فى بعض الوسائط الإعلامية والمنصات الرقمية خطاباً مطولاً ومكتظاً بالإقتباسات،، موسوم بعنوان: “خطاب مفتوح للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، أصدره مؤتمر الوطن السوداني المتحد (مؤتمر كوش). أو الأصح أن الخطاب تعبير عن موقف “د. محمد جلال هاشم” حول وجود الحركة الشعبية ضمن مكونات تحالف “تأسيس” الذي يضم الدعم السريع وتنظيمات سياسية أخرى. كما يبدو  الخطاب فى جوهره محاولة مع سبق الإصرار والترصد لمحاكمة الحركة الشعبية من جهه وتبرير لإلتحاق “محمد جلال هاشم” بمعسكر الحركة الإسلامية من جهة أخرى. وبالتأكيد أيا كانت المسوغات، المرافعات السياسية والفكرية التى قدَّمها للتغطية والتبرير لإصطفافه مع مليشيات وكتائب دولة الجلابة الإسلاموية مثلاً: (ذريعة الحفاظ على ما يُسمى بـ”مؤسسة” الدولة الوطنية) فلا يمكن قراءة توجهه البراغماتي هذا، والخُطوة الإنتحارية التي أقدَّم عليها خارج سياق الفرز السياسى والإصطفافات العرقية والإيديولوجية التى سيطرت على المشهد السياسي السوداني وإتسمت بها  النخبة الشمالية “حاكمة ومعارضة” لعقود و خاصة فى أعقاب حرب 15 أبريل 2023.

 

إحتوى الخطاب فى مقدمته على: (أن مؤتمر كوش أرسل خطابين إلى الحركة الشعبية، الأول بتاريخ 3 مارس 2025 والثاني بتاريخ 9 مارس 2025 طالب فيهما الحركة الشعبية، بالتنوير حول الموقف الأخير المتعلق بالإتفاق مع ما أسماه بـ”مليشيا الجنجويد” والتوقيع معها على ميثاق السودان التأسيسي بنيروبي بتاريخ 23 فبراير2025).

 

ولتجنب الإستطالة والإسهاب – سأكتفى بتناول خلاصة الخطاب والحفر فيما وراء الخطاب وذلك لإزالة الإلتباسات التى إختلقها حول “تأسيس” وسبر أغوار المغالطات الواردة في الخطاب عن طبيعة تحالف الكتلة التاريخية، لذا دعونا نشتغل على النحو التالى:

 

أولاً: مفهوم الكتلة التاريخية:

 

إن مفهوم الكتلة التاريخية جاء نتاج صياغة الفيلسوف أنطونيو غرامشي – وتم تناول وتداول المفهوم لاحقاً في سياقات لا علاقة لها بما طرحه غرامشي بل لاعادة إنتاج مفهومات الماركسية السوفيتية وستالين تحت هذا المصطلح. فبات يعني: “التحالف السياسي أو الجبهة الوطنية”. اي  حدثت نقله في المعنى مخالفه لما قال به غرامشي، الذى “كان يتحدث عن الطبقات” وما صار لاحقا من “تعبير عن تحالف يضم قوى سواء كانت سياسيَّة، مدنية أو عسكرية”.. وتؤكد الأبحاث النظريّة أنّ غرامشي ذاتَه إستعار بذرة المفهوم من المفكّر الفرنسيّ جورج أوجين سوريل (1847- 1922) مؤلف كتاب “تأمّلات في العنف” و”مترجِمِ أعمال ماركس إلى الفرنسيّة”.. وتمكن غرامشي من تطوير المفهوم في سياق لحظةٍ تاريخيّة إستثنائيّة.

 

ثانياً: حول تحالف الكتلة التاريخية:

 

تأسست الكُتلة التَّاريخيَّة السُّودانيَّة Sudanese Historical Block (SHB) في 16 أبريل 2019 بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، ومؤتمر البجا التصحيحي بهدف “إحداث التَّغيير الجذري فى بنية الدولة وتحقيق تطلعات الشعوب السودانية المهمشة في بناء دولة علمانية، ديمقراطية تعددية، لا مركزية وموحدة طوعياً، قائمة على أسس الحرية، العدالة والمساواة”. وبتاريخ 24 يونيو 2019 أعلن تجمُّع قِوَى تحرير السودان برئاسة – الطاهر أبو بكر حجر إنضمامه إلى تحالف الكتلة التاريخية السودانية وذلك بالتوقيع على ميثاق التحالف. لينضم لاحقاً إلى الكتلة التاريخية، مؤتمر الوطن المتحد “مؤتمر كوش” ووقع عنه رئيسه الدكتور محمد جلال هاشم في أغسطس 2019.

 

ثالثاً: ميثاق الكتلة التاريخية ووثيقة “تأسيس – نيروبي 2025”:

 

تحدث د. محمد جلال هاشم في خطابه كمن لم يطلع بتاتاً على ميثاق “تأسيس” معلناً عن تمسكه بالكتلة التاريخية وهذا بالطبع ما يكذبه واقع إنضمامه لـ”معسكر بورتسودان” كما تدحضه شواهد تموضعه السياسي فى الخارطة السياسية الآن من خلال تبنيه للتوجهات الإيديولوجية والعرقيَّة التى لا تمت للكتلة التاريخية بصلة، بمبرر ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة الوطنية؛ من بينها مؤسسة الجيش المؤدلجة “الحرس والشرطي الأيديولوجي لدولة الجلابة العنصرية”.

 

ولم تقف وصائيَّة “د. هاشم” على الحركة الشعبية عند حد محاكمة مواقفها وقراراتها فحسب بل تعداها إلى حد مطالبتها بالتنوير. وفضلا عن ذلك، ما يزال د. هاشم يمارس الأستاذية السياسية على القوى الآخرى وذلك بإصراره على مراجعة وتصحيح مواقف وإتجاهات التنظيمات السياسية وقوى الكفاح المسلحة گ(الحركة الشعبية) والأخطر من ذلك توزيعه لصكوك الوطنية وتخوين كل من خرج وكفر بمؤسسة الدولة الوطنية الوهميَّة. فهي مؤسسة غير موجوده فى الواقع سوى على المستوى النظري أو الإفتراضي ولا تعدو كونها وجهاً خفياً لِدولة الثوابت الوطنية – العروبة والإسلام التى يدافع عنها مؤتمر كوش. فما العلاقة بين ميثاق الكتلة التاريخية الذي دعى إلى بناء سودان جديد علماني ديمقراطي لا مركزي يسع الجميع؛ وميثاق دولة الثوابت الوطنية الذي يرتكز على شعار “ما دايرين دغمسه فى البلد دى” وبالتالي لا يعترف بالتعدد والتنوع الذي تزخر به الدولة السودانية؟. ولإستجلاء الحقائق حول مزاعم “مؤتمر كوش” فمن الأهمية بمكان عرض وتقديم بعض فقرات ميثاق الكتلة التاريخية مع إجراء بعض المقاربات النصيَّة بينها وجزءاً من نصوص ميثاق “تأسيس – نيروبي 2025”:

 

الفقرة (3) من ميثاق الكتلة التاريخية: “يجب أن يكون هناك دستور يضمن الإعتراف بالتنوع وحسن إدارته عبر العلمانية من جانب وتبني الديمقراطية التعددية كآلية تعتمد مشروعية الإختلاف من جانب آخر بالإضافة الى اللامركزية من أجل تمكين الجميع من المشاركة في إتخاذ القرار كل ذلك بهدف إبطال مفعول آليات التمركز والتهميش والعنف البنيوي والهيكلي التي قادت الى أزمة الدولة السودانية المتمثلة في الحروب الأهلية والتهميش والإقصاء والتخلف الإقتصادي وغياب الوجدان الوطني المشترك”. إنتهى الإقتباس.

 

المقاربة النصيَّة: يمكن قراءة وفهم هذه الفقرة مع ما تضمنه ميثاق “تحالف تأسيس” في الباب الأول – المبادئ العامه، الفقره (3) :”تأسيس وبناء دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية قائمة على الحرية .. العدالة والمساواة”… فهل أقرت أو نصت وثيقة بورتسودان على بناء دولة علمانية ولهذا السبب قرر “د. هاشم” الوقوف في صفها والدفاع عنها فى حرب 15 أبريل؟،..  وأين إذاً مكمن الخطأ أو الجريمة التي إرتكبتها الحركة الشعبية وفقاً للوثيقتين الكتلة التاريخية و”تأسيس” اللتان تضمنتان مبدأ علمانية الدولة؟ وكيف تخلت الحركة الشعبية عن رؤية السودان الجديد وهي في ذات الوقت متمسكه في كافة منصات الحوار والنقاشات بضرورة مخاطبة ومعالجة الجذور التاريخية للمشكلة السودانية، ومن بينها علاقة الدين بالدولة؟  ولنرى أيضاً كيف تطابقت الفقرة (9) من ميثاق “تأسيس” مع ما ورد في الماده (3) من ميثاق الكتلة التاريخية: (ترتكز الهوية السودانية على حقائق التنوع التاريخي والمعاصر للدولة السودانية). وكذلك الفقرة (13): “تأسيس نظام حكم لا مركزي حقيقي يقوم بالإعتراف بالحق الأصيل لجميع الأقاليم في إدارة شؤونها السياسية والإقتصادية والثقافية”.

 

ويأتى د.هاشم مره أخرى للتأكيد على أنه ذهب فى الإتجاة الصحيح قائلا فى خطابه : “وما يمليه علينا إلتزامنا بذلك العهد الذي قطعناه على أنفسنا ولم ننقضه ولم ننكث”… لا ندري أي عهد يقصده مؤكداً أنه لن ينقضه، فهو الآن يقف مصطفاً مع كتائب البراء والزبير بن العوام وخفافيش الظلام التى لا تؤمن إلا بمشروع دولة التفويض الإلهي، النقيض للدولة العلمانية المنصوص عليها في “تأسيس” وميثاق الكتلة التاريخية الذي وقع عليها (د. محمد جلال هاشم) بنفسه وبمحض إرادته. كما جاء أيضاً في خطابه: “ومن حقكم أن تعقدوا ما ترونه يخدم القضية حتى لو كان ذلك سيكتب النهاية لتحالف الكتلة التاريخية”. إنتهى الإقتباس، نعم الحركة الشعبية لديها الحق وليست هنالك جهة أو أي من القوى وصيَّة عليها، فهى تمتلك مؤسسات مؤهلة فاعلة وقادرة على إتخاذ القرارات فى الوقت المناسب. أما إصراره على أن الخطوة التى أقدمت عليها الحركة الشعبية فى نيروبي سيكتب النهاية للكتلة التاريخية، فهذا غير صحيح بالضرورة لجهة أن رئيس مؤتمر كوش سدد طعنة للكتلة التاريخية بدخوله بيت طاعة دولة الجلابة منذ الشهر الأول من حرب 15 أبريل2023 وكتب نهايتها بيده، فليست الحركة الشعبية لأن “تأسيس” جبهة جديدة حديثة الولادة في 2025، أي عقب تحالف (محمد جلال هاشم) مع كارتيلات بورتوسودان الإسلاموية بـ”عامين”. وعليه أود أن أذكر الدكتور فإن الذكرى تنفع النخب – أن الفقرة (4) من ميثاق الكتلة التاريخية تنص على الآتي: “إننا نعتقد أنه من أجل بناء كتلة تاريخية لابد من فرز واضح بين قوى السودان الجديد من ناحية وقوى السودان القديم التي ترفض الإعتراف بواقع التعدد والتنوع العرقي والثقافي والديني في السودان”… لذلك إن حراك نيروبي لا يجب النظر إليه من خلال النظارة أو العدسة الأيديولوجية الخاصة بكم فى مؤتمر كوش، منصة نيروبي جاءت في سياق رحلة البحث عن السلام العادل والشامل الذي يتحقق عبر وحدة الشعوب السودانية من أجل بناء كتلة تاريخية فاعلة ومؤهلة للتصدي للمهام الوطنية والتاريخية، على رأسها إنهاء الحروب الطاحنة ومعالجة جذور المشكلة السودانية وهذا يتطلب الفرز الواضح بين قوى السودان الجديد من جهة، وقوى السودان القديم الرافضة للإعتراف بالتعدد والتنوع العرقى والثقافي والديني في السودان وبالتاكيد هذا ما تم إنجازه في نيروبي.

 

عزيزي د. محمد  جلال هاشم، إن ميثاق الكتلة التاريخة الذي كان يجمعنا واضح كالشمس في وضح النهار – فإذا لجأنا إلى الفقرة (5) نجدها تقول: “يُعتبر إقتلاع نظام الجبهة الإسلامية القومية هدف مشروع وشرط أساسي لفتح الطريق أمام إحداث التغيير الجذري في البلاد وبناء دولة قابلة للحياة”. إنتهى الإقتباس – فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه أين أنت ومؤتمر كوش من هذه الفقرة عقب إصطفافكم مع الجبهة الإسلامية؟ ومباركتكم لفظائع الكتائب الجهادية وإستهدافات الشعوب السودانية من الأصول الأفريقية فى الخرطوم والجزيرة .. إذاً الحركة الشعبية هي التي تستحق التنوير من طرفكم وتستحق الإستيضاحات لتراجعكم وتنصلكم من عهد إقتلاع نظام الجبهة الإسلامية؟، .. وبناءً على ذلك، ألا يعتقد الدكتور محمد جلال هاشم أنه قفز من سفينة الكتلة التاريخية؟ أم أنه لا يرى تراجع مؤتمر كوش عن فكرة إقتلاع نظام الجبهة الإسلامية الواردة في الميثاق؟.

 

ونواااصل،،

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *