مجاهد بشرى: لا تقرأ هذا المقال!

13
البرهان البرهان

مجاهد بشرى: لا تقرأ هذا المقال!

 

مقدمة

في أواخر عهد شاه إيران، سنة 1979، حين كانت الثورة قد بلغت ذروتها، أسرع الشاه إلى تعيين شهبور بختيار – وهو معارض سابق – رئيسًا للوزراء في محاولة يائسة لـ”تمدين” النظام وإنقاذ سلطته، لكن تلك الخطوة لم تُوقف سقوطه، بل عجلت بنهايته، إذ فُهِمت كتنازل مذعور من حاكم فقد السيطرة.

 

واليوم، يُعيد عبد الفتاح البرهان ذات المسرحية، بتعيين كامل إدريس في لحظة السقوط لا لحظة البناء. هو لا يؤسس لدولة، بل يبحث عن قناع، عن واجهة مدنية يختبئ خلفها، بينما تتآكل سلطته من الداخل، وتتصاعد تهديدات الخارج، ويضيق عليه الخناق من أقرب حلفائه.

 

ومثل كل المستبدين الذين سبقوه، لا يدرك البرهان أن الشعوب لا تخدعها الأقنعة، وأن الاعتذار المتأخر لا يغفر جريمة الاغتصاب السياسي، ولا يمنع لحظة القصاص. كل ما فعله أنه أعاد كتابة فصل قديم في كتاب نهايات الطغاة… بعنوان جديد: كامل إدريس.

 

مناورة في الرمق الأخير: قراءة استراتيجية في تعيين كامل إدريس ومحاولات البرهان للهروب من الحلف الإسلامي

في خضم الانهيار المتسارع للدولة السودانية، وفي الوقت الذي تتآكل فيه شرعية سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، أقدم عبد الفتاح البرهان، في خطوة ذات دلالات استراتيجية هامة لفهم ما يحدث من تصدّعات تحت السطح، و تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا لوزراء حكومة بلا سيادة ولا. شرعية، في محاولة مكشوفة للهروب من شبح التفكك الداخلي والانهيار الكامل، لا سيما في ظل تصاعد الضغوط من التيار الإسلامي المتشدد، ويأسه من استعادة أي دعم إقليمي أو دولي.

لكن لماذا كامل إدريس، و ليس الحليف السياسي و العسكري “جبريل إبراهيم” ولماذا يعيّنه البرهان و يقبل به جناح كبير من قادة الحركة الإسلامية و يرحبون بتعيينه؟

 

اختيار كامل إدريس لم يكن عبثًا. الرجل – رغم سجله الأكاديمي المثير للجدل وقضايا التزوير التي لاحقته – لا ينتمي لأي تيار إسلامي، وللأمانة لا علاقة له بالحركة الإسلامية، ولم يكن ضمن الحلقة الضيقة للحركة الإرهابية التي حكمت السودان لعقود. وهذه الخطوة لم تكن مجرد تجميل لوجه الحكم العسكري، بل تمثل في جوهرها قفزة يائسة من البرهان لإنقاذ نفسه من حافة السقوط، بعد أن أحكمت الدوائر الإسلامية المتشددة عليه الخناق، وصار رهينة خياراتهم التصادمية مع الإقليم والعالم.

 

البرهان بعد بقائه في السلطة لمدة 6 سنوات، كانت السمة الأساسية له هي التخلص من كل حليف او صديق قد يزاحمه على الكرسي ، او قد يتسبب له في فقدانه لمنصبه، وفي الآونة الآخيرة وجد نفسه امام ثلاث دوائر كبيرة تهدد وجوده على رأس السلطة، هذه الدوائر هي مدخلنا لشرح تفاصيل كل شيء.

 

الدائرة الأولى : الحركة الإسلامية وهي تنقسم إلى قسمين…

قسم راديكالي متشدد يرى أنها الفرصة المثلى للخلود في السلطة، وصنع نظام أمني بوليسي يضمن عدم قيام أي حكم مدني في السودان مجدداً، و للغرابة فإن هذا القسم تقوده المخابرات المصرية عبر مدير المخابرات السابق و سيئ السمعة صلاح قوش، و الذي يرى في ياسر العطا بطلا و قائدا يستحق ان يحل محل البرهان، خاصة بعد ارتماء العطا في حضن الإسلاميين تماما.

 

قوش الذي كان يريد السلطة لنفسه في 2018-2019م لصنع دولته الأمنية، وجد نفسه خارج الصورة، وكسب عداء الصف الأول من الكيزان، وقادة المؤتمر الوطني المحلول، ومؤخرا الإمارات. وياسر العطا يشكل بالنسبة له خياراً ممتازاً في التماهي مع المشروع المعادي للمدنيين، و تمكين قبضة التيار الأمني و الراديكالي للإسلاميين من الدولة، فالعطا محدود القدرات، واسع الطموحات، وقد شاهدنا مراراً إشادة العطا بالإسلاميين بعد ان كان رئيسا للجنة تفكيك نظامهم، ومطالبته بتفعيل قانون الأمن الوطني و الذي أدخله في حرب تصريحات مع كباشي، تراجع عنها العطا سريعاً بعد تدخل القاهرة.

 

اما القسم الثاني وهو القسم الذي يريد للحرب ان تستمر لكن دون الدخول مع عداوات إقليمية، بل اللعب على كل الأطراف، وعدم الدخول في مواجهة مع الإمارات كونها السوق الذي يباع فيه الذهب السوداني، و منفذ السودان الاقتصادي ، و الكثير من الاستثمارات المشتركة، و الأهم ان الإمارات ليست “دويلة” كما يراها العطا، بل هي أقرب حليف لأقوى دولة في العالم، ومركز اقتصادي. عالمي لن يسمح مجلس التعاون الخليجي، او الولايات المتحدة، او الكثير من الحلفاء ان يتجرأ احد على تهديد أمنه .

 

لكن هنالك ما هو اخطر من ذلك، و يخشاه القسم الموالي للبرهان من الإسلاميين ، ففي ظل الإعلان المرتقب لحكومة “تحالف تأسيس”، فإنه من المتوقع بعد أن أعلنت حكومة بورتسودان غير الشرعية ان الإمارات دولة عدوان، ورد الإمارات بأنها لا تعترف بسلطة بورتسودان، ان يقوم “تأسيس” عقب تشكيل حكومته بتقديم أوراق اعتماده لأبوظبي، و تقبل بها الآخيرة، وهو ما يعني اعترافاً بحكومة تأسيس التي ستصبح بطبيعة الحال حليفاً للإمارات ضد الإخوان المسلمين الذين هددوا رئيس الدولة، مما سيفتح الباب بكل تأكيد لإقامة تعاون سياسي و عسكري بين حكومة تأسيس و الإمارات، وهي كارثة بكل المقاييس حيث سيصبح التعاون مشروعاً، وشراء الأسلحة و المسيرات المتطورة، وحتى الطيران أمراً متاحاً، وأي اعلان للحرب من قبل حكومة تأسيس على سلطة اسلاميو بورتسودان و عسكرهم يعني حصولها على أسلحة ستقلب المعادلة رأساً على عقب رغم استعادة الجيش لكثير من المناطق، وهو خطر يعيه الإسلاميين الذين كانوا على رأس هرم السلطة في حكومة البشير، و اخبروا به البرهان صراحة، وعبر عنه ذعر الرئيس السيسي في القمة العربية في بغداد مؤخرا بكل وضوح.

 

فمن تبعات قرار العداء مع الامارات، ان تعيد الشقيقة الكبرى ” المملكة العربية السعودية” النظر في علاقتها مع البرهان، فهي لن تسمح بفقدان دورها المركزي في قيادة مجلس التعاون الخليجي، او العالم العربي، او دورها المشهود في إقامة منبر لإيقاف الحرب في السودان، و بكل تأكيد لن تسمح السعودية للإخوان المسلمين بتهديد الإمارات، أما مصر رغما عن تآمرها، و تورطها في حرب السودان فهي ليست على استعداد للدخول في حرب علنية مع الإمارات، و تلعب على جميع الحبال، لكن هذا لا يجاوب على السؤال المهم “لماذا كامل ادريس”؟.

 

البرهان في مفترق طرق: بين جِبريل و”كمال إدريس”

اسم جبريل إبراهيم الذي ظل يتردد كخيار مطروح لقيادة الحكومة، كان الرفض الحاسم بمثابة كشف لخطوط التماس داخل معسكر البرهان. فجِبريل ليس مجرد حليف سياسي وعسكري. للبرهان، بل يمثل الامتداد الطبيعي للجناح الإسلامي الراديكالي الذي يقوده صلاح قوش ويُغذّيه ياسر العطا. هذا التيار يضغط باتجاه مواجهة شاملة مع الإمارات، ويغازل روسيا وإيران وتركيا في تحالف استراتيجي خطير يهدد بانفجار إقليمي شامل.

 

البرهان يدرك خطورة هذا الخيار. فهو لا يملك ترف خسارة الإمارات، التي ما تزال تمسك بخيوط التأثير في الشرق والقرن الإفريقي، وتُحسَب كقوة صاعدة في التوازنات الإقليمية. لذلك، كان لا بد من “صفقة مدنية” جديدة، تُرضي أبوظبي، وتكسر طموحات الكتلة الإسلامية المسلحة.

 

وجبريل هو مشروع حكومة حرب، بينما كمال إدريس هو محاولة برهان لإرسال إشارة للإمارات بأنه بدأ يفك ارتباطه بالإسلاميين، فرئيس وزراء مدني لا علاقة له بالتنظيم، يعني واجهة جديدة يمكنها تهدئة الأمور تحت عبارة “صلاحيات واسعة” على الرغم من وضع البرهان لكل السلطة التنفيذية في يده، بعيدا عن جبريل الذي لا استحقاق له سوى بمشاركته في الحرب على الرغم من فشله الذريع كوزير للمالية و تدميره للإقتصاد.

 

كابوسيّة المشهد الداخلي: صراع الأجنحة بين كباشي والعطا وكرتي

في قلب هذا الصراع، يقف الفريق شمس الدين كباشي، الذي يحاول لعب دور “الرجل العاقل” داخل المؤسسة العسكرية، من خلال محاولة تحجيم تيار ياسر العطا وصلاح قوش، والسعي لتمرير تسوية تبقي للجيش دورًا، دون أن تُغرقه في حرب دينية جديدة، او صراع إقليمي يمكن أن يمنح تحالف تأسيس المقدرة العسكرية و السياسية التي تعني نهاية كل ما حققه الجيش و الكيزان. كباشي يقرأ المشهد من زاوية أمنية: أي تحالف مع روسيا أو إيران أو تركيا سيجلب على السودان العقوبات، ويزيد من عزلته الدولية، ويدخل أطرافا أخرى في الوقت الذي ينهار فيه الاقتصاد وتتفكك البنية الأمنية للجيش.، وهو ما يجعل كباشي هو الأقرب لأي حلول مستقبلية خاصة بعد افشال التيار المتطرف من الإسلاميين لاتفاق المنامة، والبرهان لن يسمح بتقدم كباشي عليه تحت أي ظرف من الظروف.

 

الكتلة المتطرفة داخل الإسلاميين – وبدعم من بقايا جهاز الأمن والمخابرات السابق – ترى أن فرصتها الوحيدة في البقاء هي في خوض معركة “نهاية الزمان”، وتحويل السودان إلى ساحة حرب بالوكالة، مهما كانت الكلفة.

البرهان بات يدرك أن استمرار التمترس خلف العطا وكرتي سيدخله في مواجهة مباشرة مع الإمارات، وربما مع تحالف إقليمي واسع، خصوصًا بعد أن أبدت أبوظبي استعدادًا للاعتراف بأي سلطة مدنية جديدة تُعلن من الداخل، مثل حكومة “تحالف تأسيس”، ما سيعني نهاية شرعية البرهان دوليًا.

 

الحركات المسلحة: شريك مشاكس لا يُطمأن له

من جانب آخر، يواجه البرهان معضلة الحركات المسلحة، التي تطالب بنصيب أكبر من كعكة السلطة. هذه الحركات – وعلى رأسها حركة مناوي – ترى أن كل ما يجري هو إعادة تدوير لسلطة المؤتمر الوطني، وترفض أن تكون مجرد ديكور في مشهد يقوده العسكر والإسلاميون. مطالبتهم بمواقع سيادية، مثل الخارجية ومجلس السيادة الانقلابي، تمثل تهديدًا لموقع البرهان نفسه، وتُدخل التوازن الداخلي في حالة من الفوضى.

 

إعادة التموضع الإقليمي: ماذا يريد البرهان من الإمارات؟

الخطوة التي اتخذها البرهان لا يمكن فصلها عن مساعيه الحثيثة لإعادة التموضع إقليميًا. البرهان يعلم أن عداءه للإمارات كان خطأً استراتيجيًا فادحًا، دفعه إليه ضغط الإسلاميين.

 

محاولة البرهان لتقديم وجه “مدني محايد” تمثّل رسالة اعتذار غير مباشرة للإمارات. لكنّ السؤال: هل يقبل بن زايد بذلك؟ وهل يرى في كمال إدريس فعلاً واجهة مقبولة أم مجرّد واجهة هشّة لسلطة عسكرية مأزومة؟

الإمارات قد لا تكتفي بعد الآن بالتحفظ، بل قد تمضي للاعتراف بحكومة “تحالف تأسيس”، بما يفتح الباب أمام دعم عسكري واستخباراتي دولي، وينهي تمامًا أحلام البرهان في البقاء، أو فرض أمر واقع بالقوة.

 

ختامًا: هل نحن أمام مناورة جديدة أم بداية لانهيار المعسكر العسكري؟

الواقع أن تعيين كمال إدريس هو محاولة متأخرة للهروب من فخ نصبته الحركة الإسلامية نفسها. فالبرهان يحاول الآن أن ينقذ نفسه من الجميع: من الإسلاميين، من ياسر العطا، من كباشي، من الإمارات، من الحركات، من المجتمع الدولي، ومن الدعم السريع الذي يقترب أكثر فأكثر من الشرق.

 

لكن المؤشرات كلها تقول إن هذه الخطوة ليست إلا رقصة موت على جثة سلطة فقدت كل أدواتها، ولم يعد في جُعبتها سوى الشعارات المكرّرة والوجوه المتعبة.

هذه الحكومة المعلنة من بورتسودان، والتي يحاول البرهان من خلالها كسب الوقت، قد تتحول إلى آخر مسمار في نعش سلطته، خصوصًا إذا ما بادرت الإمارات ومعها قوى إقليمية ودولية أخرى للاعتراف بالحكومة البديلة التي تتبلور الآن في الداخل السوداني.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *