تحالف تأسيس، الثورة الجذرية وتفكيك اطروحة الذم اللاهوتي:

تحالف تأسيس، الثورة الجذرية وتفكيك اطروحة الذم اللاهوتي:
تعقيب علي مقال د. أحمد عثمان عمر (في ذم التحالف مع الجنجويد) المنشور في الاسافير.
خالد كودي، بوسطن
يقوم مقال الدكتور أحمد عثمان عمر على أطروحة مركزية ذات طابع أخلاقي–اجتماعي، فحواها أن “التركيبة الاجتماعية للدعم السريع” – بوصفها تنتمي إلى ما يسمي بـ”البروليتاريا الرثة” – تحكم عليها بالعجز البنيوي عن الانخراط في أي مشروع تحرري. ومن هذا المنطلق، فإن كل تحالف مع هذه القوة، أو إشراكها ضمن رؤية سياسية جديدة، هو خيانة لمبادئ الثورة، وشرعنة لكيان طفيلي لا يُمكن إصلاحه.
هذا المنطق، رغم أنه يتدثر بلغة ماركسية–سياسية، لا يُنتج تحليلًا تاريخيًا ولا استراتيجية ثورية، بل يُعيد إحياء أطروحات أيديولوجية قديمة ذات جذور عنصرية ولاهوتية. فجوهر ما يقوله الدكتور أحمد هو أن هذه الفئة – بسبب أصلها الاجتماعي، وهامشيتها الاقتصادية، وتاريخها العنيف – غير قابلة للانخراط في مشروع وطني تحويلي. وهذا هو بالضبط ما قاله عالم الجريمة الإيطالي سيزار لومبروزو عندما نظّر لفكرة “المجرم بالفطرة”، مؤسسًا على أن الإنسان يولد بجينات انحراف، مستقبله يحدد بها وليس بتأثيرات اجتماعية وسياسية او حتي بالموقع من أدوات الإنتاج او الموقف من علاقاتها. وقد تم تفكيك هذا الادعاء في الفكر القانوني، والسياسي، وعلم الاجتماع- زماان، لأنه يُحوّل “الضحية” إلى متهم، والظروف إلى قدَر.
ما يقدّمه الدكتور أحمد ليس تحليلًا طبقيًا ماركسيًا، بل تعاليًا أخلاقيًا على فئة اجتماعية تم تهميشها ثم تجريمها بالكامل. وهو يُعيد إنتاج ما يمكن تسميته بـلاهوت الطهرانية الثورية، الذي يرى أن العمل السياسي لا يليق إلا بـ”الصفوة”، أما الملوّثون بتاريخهم “كالدعم السريع” أو طبقتهم أو جغرافيتهم، فلا يجوز لهم حتى التوبة أو الانخراط في ميثاق. هذا المنطق – حين يُعاد إنتاجه باسم الثورة – لا يختلف كثيرًا عن منطق الاستعمار، أو كما كتب فرانز فانون: “إن أخطر ما يفعله الاستعمار هو إقناع الضحية بأنها غير مؤهلة للتحرر”.
الخطورة هنا تتجلى في تجاهل مبدأ أساسي في الماركسية: أن الإنسان ليس جوهرًا، بل نتاج موقعه من علاقات الإنتاج و”شروطه الاجتماعية”، وأن الطبقات ليست سجونًا أخلاقية، بل مواقع نضال، تتغير بتغير الشروط، والتحالفات، والبرامج.
والثورات لا تبدأ من النقاء… بل من الواقع… ولا مش كده؟
يتناسى الدكتور أحمد أن أعظم الثورات في التاريخ لم تبدأ من طبقات نقية، بل من قاع المجتمع، ومن تكوينات مركبة:
– في الثورة الفرنسية، لعب “الرعاع” و”العاطلون” دورًا مركزيًا، كما وصفهم روبسبير، لا نبلاء الفلسفة السياسية وحدهم.
– في الثورة الروسية، كان القوزاق والمهمشون أكثر تأثيرًا من البروليتاريا الصناعية..
– في الجزائر، اندمجت مجموعات إجرامية سابقة في جبهة التحرير الوطني
– وحتى الجيش الجمهوري الإيرلندي
(IRA)
. – بدأ بتكوينات عشائرية غير منظمة، ثم تم تطويعها ضمن مشروع تحرري قومي
قال كارل ماركس في رسالته إلى آرنولد روجه:
.”الثورات لا تصنعها النوايا الطيبة، بل الضرورة التاريخية”
فهل المطلوب منا أن ننتظر “الفاعل الطاهر” كي نبدأ مشروع التغيير؟ أم نمارس التغيير من الشقوق التي تتيحها الصراعات القائمة في السودان، ولو من داخل أبنية صنعتها الأنظمة القمعية نفسها؟
تحالف “تأسيس”: مشروع مشروط لا تبريري:
إن تحالف “تأسيس”، الذي يهاجمه د. أحمد، لا يمنح “الجنجويد” او أي جسم اخر شرعية أخلاقية، بل يُخضع الجميع لمنظومة جديدة تقوم على الاشتراطات الدستورية والمساءلة التاريخية. ويمثّل هذا الميثاق أول مبادرة جدية في تاريخ السودان لإعادة تعريف العلاقة بين القوى المسلحة والمشروع الوطني، ضمن شروط صريحة:
– لا حصانة لأي جهة.
– لا سلاح خارج مشروع الجيش الوطني الجديد.
– لا شرعية من غير اعتراف بالعلمانية، والعدالة، وتقرير المصير، واللامركزية.
– لا وحدة سياسية قسرية، بل عقد اجتماعي جديد.
وقال القائد عبد العزيز الحلو، الذي يتراس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال أحد الموقعين على “تأسيس”:
.”أي زول ارتكب جريمة يُحاسب، حتى لو من الحركة الشعبية”
فهل توجد قوة سياسية أخرى، من تلك التي يعبر عنها الدكتور أحمد، بما فيها الحزب الشيوعي السوداني وغيره من الكيانات السياسية السودانية قد أعلنت مثل هذا الالتزام الصريح ولديها الأدوات لتنفيذ التزامها؟
الحرب عندما تطرق أبواب الخرطوم… يتكلم اللاوعي:
نحن نضع في الاعتبار أيضًا البعد النفسي والاجتماعي في خطاب الدكتور الإقصائي. فكثير من المواقف المتشددة، لا تُبنى فقط على تحليل سياسي او علمي، بل على تجربة شخصية مع الحرب، وحرب السودان حديثة ومؤلمة. و الحرب هذه المرة، لم تندلع في الهامش، بل دخلت بيوت الطبقة الوسطى في الخرطوم ومدني وسنار… ولهذا، فإن ردود الفعل – في جزء منها – مشبعة بالدفاع النفسي، ومحكومة بصدمة لم تجد معالجتها بعد.
كما يوضح علماء النفس الاجتماعي، من أمثال دانيال كانيمان وجوناثان هايدت، فإن الصدمة الجماعية تخلق مواقف لاواعية مشبعة بالتحامل والإنكار. وهكذا تتحول السياسة إلى وسيلة للثأر الرمزي، ويُغلق الباب أمام أي إمكان للتحول، حتى لو كان سياسيًا، ومشروطًا، ويخضع للمحاسبة، وهذا موقف انساني لايمكن ان يلام من يتبناه!
لكن الثورة لا تُبنى من الجراح فقط، بل من الشجاعة في مواجهة التناقض، وفي فتح مسار جديد للخلاص، لبناء الأوطان حتى لو بدأ من بين الأنقاض.
ما الذي يمنع من أن تتحول فئة – وُظّفت في سياق قمعي – إلى حليف تحرري إذا تغيّر السياق، وتم إخضاعها لشروط برنامج سياسي جديد، كما يفعل تحالف “تأسيس”؟ وهذا مانحاول الحوارحوله من التبادل هنا وهناك…
ثانيًا: في خلط الوقائع بالمواقف: هل منح “تأسيس” شرعية للدعم السريع أم أعاد تعريف شروط الصراع الطبقي/الاجتماعي؟
الادعاء بأن ميثاق “تأسيس” دلّل الدعم السريع لا يستند إلى أي مادة نصية، بل ينبع من إسقاط أخلاقي يتهرب من الأسئلة البنيوية، ويستبدل التحليل السياسي بالمحاكمة الوجدانية. إذ لم يشر المقال إلى بند واحد يشرعن سلوك هذه القوة أو يعفيها من المحاسبة، وهو ما يكشف عن نية مبيّتة لتجريم التحالف لا نقده، ولتعويم النقاش بدل الاشتباك مع شروطه الملموسة: هل نحن بصدد إعادة تدوير العنف؟ أم تفكيك أدواته بإرادة سياسية مشروطة؟
الميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي لتحالف “تأسيس” لا يتبنيان سياسة الإدماج غير المشروط، بل يعلنان صراحة التزامات صارمة:
لا حصانة لأي طرف، بما في ذلك الموقعون على الميثاق (المادة 11
تفكيك الجيش القديم وإنشاء جيش وطني جديد لا يدمج فيه مرتكبو الجرائم
إخضاع كل التشكيلات المسلحة – بما فيها الدعم السريع – للعدالة الانتقالية دون استثناء
رفض مطلق لأي وصاية عسكرية على العملية الانتقالية، أو تمديد غير مشروع لها
إرساء المبادئ فوق الدستورية: من علمانية الدولة، إلى الحق في تقرير المصير، إلى العدالة التاريخية والمواطنة واللاّمركزية.
بهذا المعنى، فإن تحالف “تأسيس” لا يمنح الامتياز لأية فئة اجتماعية أو قوة مسلحة، بل يؤسس لإعادة توزيع السلطة والثروة على قاعدة جديدة، لا تستثني أحدًا من المحاسبة، لكنها لا تحرم أحدًا من الحق في التحول السياسي المشروط.
من تاريخ الثورات إلى مبدأ التحالف المشروط:
في السياق الماركسي، لا تُفهم علاقات السلطة باعتبارها هويات ثابتة، بل كتناقضات قابلة لإعادة التشكل ضمن شروط التاريخ. وقد علمتنا تجارب الثورات الكبرى أن التحول لا يأتي دومًا من الصفوة، بل من الهامش، من داخل التناقض، لا من خارجه وكما اسلفنا، ولاباس من بعض التكرار:
في الثورة الروسية، لم يكن البلاشفة وحدهم من فجّروا لحظة الانفجار، بل تحالفوا مع الجنود والفلاحين، والبرجوازية الصغيرة، رغم ترددها. لم تكن هذه القوى “ثورية بالطبيعة”، بل جرى إدماجها ضمن مشروع سياسي يخضعها، لا يحتفي بها.
في تجربة مانديلا والمجلس الوطني الإفريقي
(ANC)
جرى عقد تسوية تاريخية مشروطة مع بقايا النظام العنصري، لتفكيك جهاز الدولة تدريجيًا، وليس مكافأته
في تشيلي تحت حكم سلفادور الليندي، سعى تحالف “الوحدة الشعبية” إلى إدماج الطبقة الوسطى والضباط الإصلاحيين، رغم إدراك هشاشة هذه التحالفات. لم يكن ذلك تهاونًا، بل قراءة ظرفية لأدوات التحول الممكن
هذه التحالفات لم تُبنَ على نسيان الجرائم، بل على استثمار التناقض داخل الأجهزة السلطوية، وتفكيكها تدريجيًا لصالح مشروع أوسع و(ثوري)…
فلماذا إذًا، يُلام تحالف “تأسيس” على محاولة احتواء الدعم السريع ضمن سياق سياسي جديد، بينما يُغفل تمامًا تاريخ الجيش السوداني في بناء المليشيات، والانقلابات، والإبادة؟ هل يُغتفر للجيش كل ماضيه بحجة أنه “رسمي”، بينما يُدان الدعم السريع لأنه هامشي؟ أي تحليل طبقي هذا الذي يُبرّئ المركز ويُشيطن الهامش فقط لأنه لم يُولد في المؤسسة؟
في نقد منطق “الطبيعة الطفيلية” و”البروليتاريا الرثة:”
اختزال الدعم السريع إلى مجرد فئة “طفيلية غير قابلة للإصلاح” يُعيد إحياء نزعة نخبوية سبقت الماركسية، وتماهت مع منطق لومبروزو عن “المجرم بالفطرة” لا عن “الفاعل التاريخي”. هذا الطرح يُجرد الفعل السياسي من شروطه، ويحوّله إلى جوهر أخلاقي موروث.
لكن الماركسية، كما أشار ماركس نفسه في الأيديولوجيا الألمانية، لا ترى الطبقات كمواقع أخلاقية، بل كمواقع للصراع، مرهونة بشروط الإنتاج وإعادة الإنتاج، وبالإمكان دومًا تحويل موقع اجتماعي مهمّش إلى فاعل تاريخي، متى ما وُضعت له الشروط التنظيمية والسياسية لذلك… ولا مش كده يادكتور؟
تحالف “تأسيس” لا يُبرّئ الدعم السريع، ولايجب، بل يُخضعه للاشتراط السياسي الأعلى: الميثاق، المحاسبة، العدالة، والانضواء ضمن مشروع وطني جديد مثله مثل غيره. لا ضمانات، لا مكافآت، لا مواثيق غفران- ولاهم يحزنون!
من يخشى التأسيس؟
ما يُخيف في “تأسيس” ليس مسألة إدماج الدعم السريع، بل كونه أول مشروع يعيد تشكيل خارطة السلطة السودانية من خارج المركز. ولأول مرة، لا تنتظر قوى الهامش شرعية من الخرطوم، بل تنتجها من رحمها، على أسس غير تفاوضية: من علمانية الدولة إلى تقرير المصير إلى العدالة التاريخية- والان، لامجال للمراوغة.
لذا، فالمقال لا يهاجم الدعم السريع فقط، بل يهاجم إمكان التأسيس ذاته، ويطالب – باسم النقاء – بإقصاء فئة كاملة من التاريخ السياسي، فقط لأنها ليست من الطبقة التي يراها جديرة بالتحرر!
لكن، وكما كتب غرامشي:
واليعود الجميع للواقع، بكل تعقيداته، تقاطعاته وقبحه!”الثورة لا تُصنّع في المعامل الطاهرة، بل في خنادق الواقع”
و”تأسيس” هو مشروع للعمل من قلب هذا الواقع، لا الفرار منه، كما تفعل النخب.
ثالثًا: في “التحليل الطبقي” المغشوش: هل كان الجيش ذاته برجوازية صناعية؟
تحليل ماركسي–نقدي لمفارقة “الجيش المنتج” و”المليشيا الطفيلية”:
الدكتور أحمد عثمان عمر، في مقاله، يُمارس ما يمكن تسميته بـالانتقائية الطبقية الأخلاقية، حين يصم قوات الدعم السريع بأنها “قوة هامشية غير منتجة” ويمنح ضمنيًا الجيش السوداني صك الشرف الوطني، دون أن يُخضعه لتحليل مماثل. هذا الموقف لا يعكس تحليلًا ماركسيًا للطبقات أو علاقات الإنتاج، بل يُعيد إنتاج ثنائية الدولة النقية مقابل الهامش المتوحش، وهي ثنائية أسقطها التحليل الماركسي الجذري منذ ماركس مرورًا بآلتوسير، وصولًا إلى فانون وغرامشي.
أولًا: الجيش السوداني كأداة استعمارية–طبقية:
تاريخيًا، الجيش السوداني لم يتأسس كجيش وطني، بل نشأ كأداة استعمارية خالصة في خدمة التاج البريطاني والمصالح الكولونيالية. تأسس كـ”قوة دفاع السودان” عام 1925، وظيفته الأولى كانت قمع الحركات الوطنية، وتثبيت البنية الإدارية الاستعمارية، وحماية المركز النيلي من تمرّدات القبائل والمجتمعات المحيطة. بل إن أولى عملياته كانت قمع انتفاضات الجنوب ومناوشات البجة، وليس الدفاع عن الوطن من عدو خارجي.
ووفقًا لتحليل نيال فيرغسون عن الجيوش الإمبراطورية، فإن التكوينات العسكرية في المستعمرات لم تكن “قومية”، بل طبقية ووظيفية، تُعيد إنتاج علاقات التبعية بين المركز والهوامش. وبالتالي، لا يمكن لأي قراءة ماركسية جادة أن تتجاوز طبيعة الجيش بوصفه أداة إنتاج عنف مُأسسية، تابعة سياسيًا لسلطة المركز، وطبقيًا للبرجوازية البيروقراطية والعسكرية، ولاشنو!
ثانيًا: من ينتج “العنف الطبقي” في السودان؟
وفقًا لأطروحات بيير بورديو، العنف الرمزي والمادي في الدولة يُنتج ويُعاد إنتاجه من خلال المؤسسات التي تحتكر القوة الشرعية، وعلى رأسها الجيش والقوي الأمنية الأخرى، والجهاز القضائي والإعلام الرسمي. وبالتالي، الجيش السوداني، خلال نصف قرن، لم يكن “قوة منتجة” بالمعنى الاقتصادي أو التحرري، بل قوة محافظة أعادت إنتاج نفس علاقات الهيمنة – عبر الانقلابات، وفض الاعتصامات، وإجهاض مشاريع الإصلاح، ودعم المركز النيلي في وجه الهامش.
إذن، من منظور ماركسي، الجيش السوداني ليس جهازًا تحرريًا يجب “إصلاحه”، بل بنية سلطوية ينبغي تفكيكها وإعادة تأسيسها من الصفر. واعتبار تحالف الحركة الشعبية مع الدعم السريع “خيانة للثورة”، في حين تُعتبر المطالبة بإصلاح الجيش “رؤية وطنية”، هو في حقيقته ازدواج في المعايير الثورية، يُخفي انحيازًا نخبويًا للمؤسسة العسكرية لأنها أكثر “قربًا” من مخيلة الدولة المركزية التي أنتجت النخب ذاتها!
ثالثًا: الإسقاط النفسي للنخب السودانية:
لا يمكن إغفال التحليل النفسي هنا. فالنخبة السودانية – بما في ذلك كثير من اليساريين التقليديين – لم تختبر الدولة كمشروع قمعي حقيقي إلا عندما دخل العنف حياتهم في الخرطوم. قبل ذلك، كان “العنف” مؤطرًا كخبر هامشي في دارفور أو جبال النوبة أو الجنوب. هذا ما يسميه علم النفس الاجتماعي بـ”انحياز القرب التجريبي”
(Proximity Bias)
حيث تُبنى الأحكام السياسية على التجربة الذاتية لا على التحليل الموضوعي.
ولهذا فإن موقفهم من الدعم السريع ليس فقط موقفًا أخلاقيًا أو طبقيًا، بل رد فعل غير معالَج لصدمة الحرب حين دخلت المدن التي اعتقدوا أنها “محمية”. وعليه، فإن رفض الدعم السريع ليس ناتجًا دومًا عن تحليل بنيوي، بل أحيانًا عن رُهاب طبقي وأمني من فئة اجتماعية كانت مهمّشة، ثم أصبحت مسلحة، ففجّرت لا وعي المركز، وجعلته يرى صورته الحقيقية: عاجزًا، ومكشوفًا، ومجردًا من السيطرة! هل هذا دفاعا عن الدعم السريع؟ لا.
رابعًا: نقد “الجيش المنتج” ومفهوم العمل السياسي:
في الماركسية، الفعل السياسي لا يتحدد بالأصل الطبقي فقط، بل بإمكانية الوعي والتحول والتنظيم. الجيش السوداني لا ينتج، لا اقتصاديًا ولا سياسيًا، بل يستغل و يستهلك الدولة والمجتمع لحماية طبقة عليا متحكمة. و”الإصلاح” – كما يطرحه التيار الذي قد يدافع عنه د. أحمد – كما نفهم من الحجة في مقاله، ليس إلا إعادة تجميل لهذه العلاقة الطفيلية، لا تفكيكها..
أما الدعم السريع، بوصفه نتاجًا طفيليًا لبنية فاسدة، فهو جزء من جهاز القمع، لكن تفكيكه في اعتقادي، لا يمكن أن يتم بعزله، بل بإدماجه مشروطًا في مشروع ثوري يعيد هيكلة العنف نفسه. هذه ليست مكافأة، بل عملية تفكيك من الداخل، كما حدث في جنوب إفريقيا حين جرى تفكيك الشرطة العنصرية عبر إدماجها في شرطة مدنية تحت رقابة سياسية ومجتمعية.
خامسًا: من إصلاح الجيش إلى تأسيس جيش جديد:
الميثاق التأسيسي الذي وقّعت عليه الحركة الشعبية وتنظيمات أخرى لا يدعو إلى “إصلاح الجيش” كما تفعل النخب المركزية، بل إلى حل الجيش وإعادة تأسيسه على أسس وطنية جديدة، خاضعة للمساءلة المدنية، والعدالة التاريخية والانتقالية، والشفافية المؤسسية. هذا الموقف أكثر جذرية وثورية من كل شعارات “الجيش الواحد” التي يُطلقها كثير من المدافعين عن الدولة القديمة، وهو وحده الكفيل ببناء قوة دفاع وطنية لا طبقية، ولا جهوية، ولا أيديولوجية.
من ينتج العنف، ومن يُفككه؟
اوكما كتب أنطونيو نغري في نقده للدولة الرأسمالية:
.”العنف لا يُفكك من الخارج، بل من داخل آلة السلطة، عبر برنامج مشروط يُعيد هندسة علاقات القوة”
وهذا ما يسعى، ويجب ان يسعي إليه تحالف “تأسيس”: لا تبرئة أي طرف، ولا دمج عشوائي، بل مشروع لتحويل أدوات العنف – سواء الجيش أو الدعم السريع – إلى موضوع للمحاسبة، والتفكيك، وإعادة التأسيس
بينما ما يقدمه د. أحمد، للأسف، هو إبقاء الجيش خارج النقد، والدعم السريع خارج الأفق. لكن الماركسية لا تبني السياسة من الأحكام الأخلاقية، بل من التناقض… ومن الشجاعة على مواجهته، والاستيقاظ فرض عين هنا!
رابعًا: تحالف “تأسيس” ليس تسويةً بل قطيعةٌ معرفية وجذرية مع بنية الدولة السودانية ما بعد الاستعمار:
ما يغفله خطاب د. أحمد، وغيره من التيارات التي تُراوح داخل ثنائيات “الثورة” و”التحالف”، هو أن تحالف “تأسيس” لا يسعى إلى مقايضة سياسية بين قوى تقليدية، بل يُقدّم إعادة تعريف شاملة لمفهوم الدولة في السودان، ضمن رؤية تؤسس لقطيعة معرفية وسياسية مع إرث دولة ما بعد الاستقلال. هذه ليست تسوية بين فصائل، بل لحظة تفكيك جذري لبنية الدولة ذاتها بوصفها بنية عنف طبقي/اجتماعي ومركزي عنصري.
وحتي في ضوء التحليل الماركسي، فإن اللحظات الثورية لا تُقاس فقط بشعاراتها، بل بقدرتها على كسر مسار الدولة المتصل عبر التراكم البيروقراطي والعسكري، وتحويل السلطة من شكل إلى آخر. تحالف “تأسيس” هو مشروع يطمح إلى هذه النقلة التاريخية، عبر منظومة من المبادئ فوق الدستورية، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
– إعادة تعريف الدولة كمجال مدني ديمقراطي علماني، قائم على الحريات، وفصل الدين عن الدولة، والمساواة بين المواطنين كمواطنين لا كأتباع ثقافيين أو دينيين.
الاعتراف بحق تقرير المصير بوصفه حقًا ديمقراطيًا، لا كمنحة من المركز، بل كأداة لإعادة التفاوض على العقد الاجتماعي، خاصة للشعوب التي تم تهميشها وقمعها منذ فجر “الاستقلال.”
– العدالة التاريخية لا الانتقالية فقط، أي تفكيك منظومة الهيمنة المركزية التي راكمت رأس المال السياسي والاقتصادي في الخرطوم، على حساب الأطراف، لا الاكتفاء بمحاسبة الأفراد.
كسر المركزية السياسية والاقتصادية التي جعلت الخرطوم مركز الثروة والقرار، وإعادة توزيع السلطة والثروة على أسس لا مركزية جذرية، ترتبط بالمجتمعات المحلية وإرادتها السياسية.
بناء كتلة تاريخية جديدة (بتعبير أنطونيو غرامشي) تجمع بين الحركات المسلحة التي توافق علي المشروع التقدمي، والمجتمع المدني الجذري، والتنظيمات النقابية، والتيارات الفكرية المنحازة لقضايا التحرر، بما يتجاوز منطق التسويات بين النخب.
هذا هو جوهر المشروع: ليس دمجًا شكليًا لقوى “الهامش” في بنية “المركز”، بل تفكيك المركز نفسه – سياسيًا، واقتصاديًا، ورمزانيًا – وبناء عقد اجتماعي جديد… واعتقد ان الفرق بين الماضي والان واضح!
خامسًا: ما هو المشروع البديل؟ ومن يملك سردية أخرى؟
إن ذم تحالف “تأسيس” والدستور الانتقالي المصاحب له – على ما فيه من تعقيدات وتناقضات – لا يكون مجديًا ما لم يُقترن بمشروع بديل متكامل، يجيب على أسئلة التأسيس يادكتور، وهي كالاتي:
من الدولة؟ من المواطن؟ ما العلاقة بين الدين والسياسة؟ ما هي بنية الجيش؟ ما هو تصور العدالة؟ ما موقع المركز والهامش في الدولة الجديدة؟
لكن النقد الذي يقدمه الدكتور أحمد لا يطرح بديلًا، بل يكرر خطابًا أخلاقيًا مأزومًا، يُدين الواقع دون أن يقترح مستقبلًا. وهو بهذا يعيد إنتاج ما يسميه المفكر الماركسي طارق علي بـ”اليسار الأخلاقي الذي يكره السلطة، لكنه لا يعرف كيف يبنيها”
– أين هي الوثيقة التي يتبناها الدكتور أحمد أو تياره السياسي؟
– هل تقترح علمانية واضحة المعالم؟
– هل تعترف بحق تقرير المصير؟
– هل تضع خريطة فعلية لتفكيك الجيش السوداني وإعادة تأسيسه؟
– هل تقدم تصورًا للعدالة التاريخية، وليس فقط الانتقالية؟
– وهل تواجه بنية المركز كما تواجه سلوك المليشيا؟
إن غياب المشروع البديل ليس ثغرة تكتيكية، بل أزمة في البنية الفكرية لتيارات كثيرة داخل اليسار السوداني، التي ما زالت تدور في فلك الدولة القومية النيّلية، دون القدرة على الاعتراف الحقيقي بحقيقة التعدد، والانقسام البنيوي، والتاريخ الدموي لما يسمى بـ”الجيش القومي”
لقد كتب فرانز فانون بوضوح:
.”الثورة ليست استعادة للطهر، بل هي عملية ولادة لأفق جديد، من رحم الفوضى والاستعمار والعنف”
وتحالف “تأسيس”، بكل ما يمكن أن يُقال فيه، يملك هذه الجرأة: جرأة التأسيس، لا الترميم؛ جرأة الاعتراف بالانقسام، لا إنكاره؛ وجرأة صياغة عقد جديد، لا تجميل القديم.
أما من يرفض هذا الطريق، فعليه أن يقدّم لنا مشروعه الثوري، مكتوبًا، مهيكلًا، مؤسسًا… لا أن يظل يحاكم “الآخر” من موقع العارف–القاضي، دون أن يخوض تجربة الكتابة، والتأسيس، والمواجهة. فالثورة لا تكتمل بلغة الإدانة، بل بأفق جديد
اخيرا: من لا يجرؤ على التأسيس، لا يملك شرعية الثورة:
إن العداء لتحالف “تأسيس” لا ينبع من حرص على نقاء الثورة، بل من خوف دفين من مشروع يمتلك وضوح الرؤية، وجرأة التأسيس. فهذا التحالف لا يتوسل الاعتراف من بنية المركز، بل يخلخلها. لا ينتظر الشرعية من النخب، بل يبنيها من الهامش، بالميثاق، والدستور، والتاريخ الحي للمقهورين.
وقد كتب مارتن لوثر كينغ: “العدالة المؤجلة هي عدالة مرفوضة”.
فمن لا يمتلك تصورًا واضحًا للمواطنة، والدين، والعنف، والسلطة، لا يملك الحق في أن يتقمص دور الحارس على الثورة، أو أن يوزّع شهادات الطهر الثوري استنادًا إلى أخلاق معلبة أو ذاكرة انتقائية.
الطريق إلى السودان الجديد لا يُعبد بالإنكار، بل بالشجاعة: شجاعة الاعتراف، وشجاعة القطيعة، وشجاعة التأسيس. وتحالف “تأسيس” ليس اسمًا رمزيًا، بل فعلًا تاريخيًا مزعجًا لكل من اعتاد أن يُملي شروط التغيير من أعلى.
إن أزمة النخب السياسية والفكرية في السودان – بما فيها من يزعم التقدمية – ليست في نقدها لـ”تأسيس”، بل في ذعرها من مشروع لم يولد من رحم امتيازها الطبقي والاجتماعي، ولا يقدّس مركزيتها الرمزية. هي نخب تقاوم كل ما لا يمكن تطويعه ضمن ثنائياتها القديمة: الحداثة والتقليد، الشمال والجنوب، النخبة والعامة!
هذه النخب – يسارية كانت أو مدنية وسطية أو قومية محافظة او يمينية قحة – لم تنتج يومًا مشروعًا تحرريًا يتجاوز الدولة الاستعمارية التي ورثوها، لأنهم ببساطة غير قادرين على تخيّل سودان لا يتمحور حولهم. فهم يرون الهامش دومًا طارئًا، والمهمّشين ناقصي أهلية، والمشاريع القادمة من خارج الخرطوم ضربًا من الفوضى أو المغامرة.
لذلك، حين ظهر “تأسيس” – بمفاهيمه عن تقرير المصير، والعلمانية، والعدالة التاريخية، وتفكيك الجيش – واجهوه بكل أدوات الحرس القديم: الشيطنة، الاستعلاء، الفتاوى الأخلاقية، والنوستالجيا إلى دولة وطنية لم تكن وطنًا إلّا للنخبة
إنهم لا يعارضون “تأسيس” لأنه ظالم، بل لأنه لا يخضع. لا يرفضونه لأنه عنيف، بل لأنه يُخرج أدوات العنف من قبضة المركز. هم لا يريدون ثورة، بل تجديد رخصة بقائهم في مشهد يتغير شكليًا ليحفظ امتيازهم.
لكن “تأسيس”، بوضوحه، ودستوره، وتحالفه، تجاوزهم.
ومن لا يملك إلّا الرفض، فليقدّم البديل. ومن لا يرضى بالطريق، فليبنِ طريقًا آخر…ولا شنو؟
أما أولئك الذين يتحدثون عن الثورة من داخل أبراجهم الأخلاقية، دون أن يراجعوا علاقتهم هم أنفسهم بالسلطة، فليعلموا أن اللحظة التاريخية لا تنتظر التنظير المعقّم، بل الشجاعة في خوض التأسيس.
كتب والتر بنيامين: “ليس الثوري من ينقذ الماضي، بل من يقطع معه بما يكفي من الجرأة ليصنع مستقبلًا” مغايرًا.”
و”تأسيس” لم يُكتب في دهاليز الخرطوم، بل نُقش بأصوات من حُرموا منها، ولم يُقرّه البرلمان، بل جاء ليحاكم نظامًا عطّل كل برلمان. لم يُوقّع عليه من يملكون الامتيازات، بل من دفعوا ثمن الوطن دمًا وشتاتًا ونسيانًا
لهذا، فهو أصدق من كل ما كتبوه، وأخطر من كل ما خشوه.
فليتقدّم من يملك مشروعًا أوفى – لا خُطبة أطول… ولتنقد الرهيفة!
النضال مستمر والنصر اكيد.