دكتور الوليد آدم مادبو: من مليط إلى جبل العوينات .. قوافل التحرير تكتب الجغرافيا من جديد!

37
دكتور الوليد مادِبو

الدكتور الوليد مادبو.

من متن قصيدته «دفتر العودة إلى الأرض الوطن» للعبقري أيــمـيـه سـيـزير (Aimé Césaire)، تبرز ظاهرة من الخذلان تُردّ بصوتِ الوطن المكبوت، لتستعيد مسارها نحو السلام والعدالة والتنمية، بعيدًا عن *الخرائط الاحتيالية* ومناطق العزلة التي حمّلتها العراقيل التاريخية عبئًا اقتصادياً واجتماعياً.

في سجل الخيانة الطويل الذي كتبه نظام الإنقاذ بالدم والكذب والخراب، لا يغيب قرار واحد عن كونه طعنة في خاصرة الهامش. غير أن من أكثر تلك الطعنات خسةً ونذالة، *قرارهم بتحويل نقطة الجمارك عام 1992 من مدينة مليط في دارفور إلى دنقلا في أقصى الشمال*، دون موجب اقتصادي إلا توطين الامتياز في عروقهم الجهوية.

لقد اختاروا أن تُهَشّ أذن دارفور لا من حيث هي، بل من وراء الرأس، من دنقلا فالخرطوم ثم إلى حيث الجرح والموت والخذلان في دارفور وكردفان. *إنها سياسة التحكم في شريان البلاد التجاري لصالح فخذ قبلي واحد*، وعزل الأطراف عزلاً اقتصادياً يعادل في خطورته التصفية العرقية المسلحة.

أراد نظام الإنقاذ أن يجعل من دنقلا بوابة البضائع، لا لأنها الأصلح ولا لأنها الأقرب إلى الأسواق، بل لأنها الأقرب إلى القلب العنصري للنظام. هناك، حيث يُحتَسَب كل برميل وقود وكل جوال سكر وكل إطار شاحنة، ضمن عائدات الإقليم الشمالي، بينما تُركت دارفور لتدفع ثمناً مضاعفاً.

أي اقتصاد هذا الذي يُدار بـ”العين الحَمرة”؟ وأي وجدان يُسوغ أن تُنقَل البضائع من ليبيا غربًا، فتمر شرقًا إلى دنقلا، ثم جنوبًا إلى الخرطوم، ثم غربًا مرةً أخرى إلى الفاشر أو نيالا؟ هذا ليس طريق تجارة، بل طريق خيانة معبّد بخرائط التهميش والتجويع المتعمَّد.

*لم تكن مليط مجرد نقطة جمارك، بل كانت جسراً لكرامة الناس في غرب السودان*، نافذة يدخل منها رزقهم، ويد تمسك بخيط من خيوط السيادة الوطنية على تجارتهم. حين نُقلت تلك النقطة إلى دنقلا، نُقلت معها الملايين من الجنيهات شهرياً، لتمول مشروعات رصف الطرق إلى القصر الجمهوري، بينما ظلت شوارع كتم وكبكابية ومليط تغرق في الوحل.

لا يعتبر هذا قرار اقتصادي، بل قرار عقابي جائر، اتُخذ بمنطق أن دارفور لا تستحق سوى الحصار، وأن كردفان لا يُفتح لها باب إلا إذا عَبَر من فوقه القائد الجهوي، حامل مفاتيح الميزانية بأصابعه الشمالية.

*لكن ما عجزت عنه الاضابير (الضوابط الجمركية)، تُنجزه اليوم قوافل التحرير.* فإن دارفور وكردفان بتحررهما العسكري ليسا مجرد مسرح لحرب، بل بوابتان لكسر الحصار المضروب عليهما منذ أكثر من قرنين. الحصار لم يكن فقط بالدبابة، بل بالجمركة، بالميناء، بمجلس الوزراء، بحفنة من اللصوص الذين يملكون مفاتيح البلاد ويغلقونها في وجه شعوبها.

اليوم، ومع السيطرة على المثلث، تُفتح نوافذ جديدة للتنفس. نوافذ على تشاد وليبيا ومصر، لا تمر عبر عنق الزجاجة في بورتسودان ولا عبر كمائن الخرطوم. نوافذ اقتصادية، وثقافية، واجتماعية، تُخرج دارفور وكردفان من عزلةٍ فرضتها عليهم الخرائط المصنوعة في غرف ضيقة داخل قصور الجهوية والاستعلاء.

*إن هذا المثلث ليس مجرد تقاطع حدود بين مصر وليبيا والسودان، بل قلب نابض في الجغرافيا السياسية لغرب السودان.* من هناك، تمر البضائع والذهب والوقود، وتُبنى صلات قرابةٍ وتاريخٍ مشترك بين شعوب عبرت هذه الصحراء لقرون دون تأشيرة. ولذلك، حرصت حكومات المركز، منذ حكومة مايو التي رفضت رصف القذافي لطريق مليط الكفرة وحتى الإنقاذ التي موّلت جيوب قادتها من الطريق الغربي، على قطع هذا الشريان، وعلى تطويق دارفور بالسياج والتهميش.

بل دفعت حكومة البرهان مرتزقتها من القوات المشتركة إلى إحكام الطوق، لا بحثًا عن الأمن، بل تسولاً للأمان بثمن خيانة أهلهم. باعوا المعابر مقابل الحماية، وقطعوا طرق الرزق مقابل بندقية مأجورة ومرتبٍ لا يكفيهم للزاد ومؤنة لا تعينهم يوم المعاد.

ختامًا، إن على من يتحدث عن إعادة بناء السودان أن يُدرك أن العدالة الاقتصادية ليست شعاراً، بل خرائط ونقاط عبور. من دون إعادة الجمارك إلى مليط، ومن دون فتح بوابات عادلة للثروة، فإن الدولة السودانية ستظل تُدار من ثقوب في الخريطة، لا من قلب الوطن.

*ما حدث كان إعلان حرب اقتصادية على الإقليم، جُرِّبت فيها الجغرافيا كأداة استعلاء.* ولذا، فإن أي حديث عن السلام، عن الوحدة، عن المستقبل، لن يكون سوى هراء ما لم تُكسر حلقة الامتياز، ويُرد الاعتبار لدارفور وكردفان، لا بوصفهما “هامشًا”، بل قلبًا طال نفيه.

‏June 11, 2025

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *