منال علي محمود: (قراءة تحليلية حيادية لبيان وزارة الخارجية السودانية بشأن إعلان حكومة الدعم السريع)

منال علي محمود
[email protected]
( السياق العام)
صدر بيان عن وزارة الخارجية السودانية يشجب فيه إعلان قوات الدعم السريع عن تشكيل حكومة لإدارة السودان. وجاء في البيان وصف الدعم السريع بالمليشيا الإرهابية واعتبر الخطوة استهتارا بمعاناة الشعب السوداني وخرقا لسيادة الدولة. كما انتقد البيان مشاركة بعض المكونات المدنية في الإعلان وهاجم الحكومة الكينية لسماحها بانعقاد اجتماع في نيروبي تم فيه التمهيد لهذا الإعلان.
( مضمون البيان)
يمكن تقسيم محتوى البيان إلى أربع محاور رئيسية:-
1. (نزع الشرعية عن الحكومة المعلنة)
استخدم البيان مصطلحات مثل (وهمية) (غير شرعية) (تنظيم إرهابي) للإشارة إلى عدم الاعتراف بشرعية أي كيان سياسي معلن من خارج مؤسسات الدولة
2. (التأكيد على انتصارات الجيش)
ربط البيان الإعلان بانكسار عسكري لقوات الدعم السريع معتبرا الخطوة دليلا على فقدانها السيطرة ميدانيا
3. (التحذير من التعاون الدولي مع الكيان المعلن)
وجه البيان انتقادا حادا لجمهورية كينيا معتبرا السماح بانعقاد اجتماع سياسي في أراضيها انتهاكا للسيادة السودانية
4. (دعوة المجتمع الدولي لعدم الاعتراف)
ناشد البيان كافة الدول والمنظمات الإقليمية والدولية بعدم التعامل مع الحكومة المعلنة من الدعم السريع وعد أي تواصل معها انتهاكا للسيادة الوطنية
( تحليل سياسي متبصر لمضامين البيان)
1. اللغة كمؤشر على التحول في الخطاب الرسمي
البيان يستخدم لغة غير تقليدية في الخطاب الدبلوماسي السوداني، مع اعتماد واضح على توصيفات شديدة مثل (وهمية)، (إرهابية)، و(تنظيم متمرد). هذا التحول في النبرة يعكس شعورا داخليا بالتهديد الحقيقي من الإعلان، وليس مجرد رفض مبدئي.
هذا النوع من اللغة يعكس أمرين:-
أن الحكومة لم تعد تعتبر خطوة الدعم السريع عملا معزولا، بل ترى فيه مشروعا سياسيا موازيا قد يسعى لنزع الشرعية منها دوليا
أن ثمة خشية من تطور الدعم السياسي والمدني داخليا ودوليا لهذا المشروع، ما يفسر هذه الحدة الاستباقية في البيان
سياق مشابه:-
في ليبيا عام 2014، لجأ المؤتمر الوطني العام لنفس اللهجة عند إعلان حكومة طبرق، في وقت كان فيه فقدان السيطرة على شرق البلاد أمرا واقعا، واستخدم البيان آنذاك لغة نزع وطنية عن خصومه، وهو ما قاد لاحقا لانقسام مؤسسي طويل الأمد.
2. الربط بين الحكومة المعلنة والتحالفات المدنية، خلق سردية للملاحقة السياسية
البيان يشير بشكل غير مباشر إلى (مكونات مدنية) شاركت أو ساندت الإعلان. هذه الإشارة رغم قصرها إلا أنها ذات أهمية بالغة، فهي تضع لأول مرة في الخطاب الرسمي الحكومة في مواجهة قوى مدنية، ليس فقط على مستوى الشعارات، بل في ملف التعاون مع من تسميه الحكومة (تنظيم إرهابي).
هذا الربط يحمل عدة دلالات:
يوفر أرضية قانونية لتجريم أي قوى مدنية يثبت تواصلها مع الحكومة المعلنة
يخلق تصورا عاما بأن المعركة لم تعد بين جيش ومليشيا، بل بين شرعية سياسية وأخرى مضادة مدنية ومسلحة
سياق مشابه:
في اليمن، استخدمت حكومة هادي هذا النوع من الخطاب للضغط على مكونات يسارية وقومية اتهمت بالتنسيق مع الحوثيين، ما مهد لشيطنتها دوليا وإقصائها من مسارات السلام.
3. اتهام كينيا: رسالة مزدوجة للدول الإفريقية والغرب
البيان اختار توجيه لوم مباشر للحكومة الكينية. هذا تصعيد دبلوماسي نادر في بيانات الخارجية السودانية، مما يوحي بأن الحكومة السودانية رأت في الاجتماع بنيروبي أكثر من مجرد فعل رمزي.
أسباب التصعيد قد تكون متعددة:
الاعتقاد بأن نيروبي تستضيف تنسيقا فعليا لمشروع سياسي بديل
محاولة تحذير باقي دول الإقليم (مثل أوغندا، تشاد، جنوب السودان) من الانخراط أو السماح بأن يكون لها دور مماثل
إشعار الحلفاء الدوليين بأن الخرطوم لن تقبل بشرعنة خطوات الدعم السريع عبر منصات إقليمية
سياق مشابه:
في 2008، هاجمت الحكومة الإثيوبية علنا دولة إريتريا بعد استضافة الأخيرة لمؤتمر قادة المعارضة الإثيوبية، واعتبرت الخطوة تجاوزا للخطوط الحمراء الإقليمية.
4. التحذير من الاعتراف الدولي: الخوف من فقدان الشرعية تدريجيا
البيان خصص جزءا كاملا لدعوة المجتمع الدولي إلى عدم الاعتراف بالحكومة المعلنة، وعد أي تواصل معها خرقا للسيادة. هذه الفقرة تكشف أكثر نقاط البيان حساسية، لأنها لا تستهدف الداخل بقدر ما تستهدف الخارج.
الدلالة الأهم هنا:
الحكومة تخشى أن تبادر بعض الدول (خصوصا الإفريقية أو بعض الوسطاء الغربيين) للتعامل مع الحكومة الجديدة كأمر واقع
حتى إن لم يحصل اعتراف رسمي، فإن مجرد استقبال وفود أو فتح قنوات تواصل يعني انهيار السردية الحكومية التي تصف الدعم السريع كمجموعة خارجة عن القانون
سياق مشابه:
في فنزويلا 2019، حاولت حكومة مادورو منع الاعتراف الدولي بخوان غوايدو عبر البيانات والاحتجاجات الدبلوماسية، لكن جزءا كبيرا من المجتمع الدولي اتجه للاعتراف به رئيسا انتقاليا، مما أدخل البلاد في حالة ازدواج شرعي.
. موقع البيان ضمن السياق السياسي الإقليمي والدولي:
المفارقة الكبرى أن البيان لم يتطرق مطلقا إلى المواقف الإقليمية والدولية الأخيرة، لا بالرفض ولا بالترحيب، رغم أن تشكيل حكومة في هذه الظروف يعد خطوة دولية بامتياز، خصوصا وأنه يأتي بعد زيارة فيلتمان (المبعوث الأمريكي السابق) إلى كمبالا، وتصريحات مبعوث الإيغاد التي لمح فيها إلى إمكانية التعامل مع واقع جديد إذا توافق المدنيون.
السكوت هنا يعني أمرين:
1. أن هناك تفاهمات غير معلنة تمت مع أطراف إقليمية، ولكن لا يزال هناك تخوف من الإفصاح عنها لعدم إحراج الحلفاء المحليين (خصوصا الموقعين الجدد من دارفور والنيل الأزرق).
2. أن هناك تخوف حقيقي من أن يفهم الإعلان الحكومي المرتقب كاعتراف سياسي بالدعم السريع كطرف شرعي، مما قد يؤدي لعزلة جديدة مشابهة لعزلة المجلس العسكري بعد فض الاعتصام 2019.
وهذا ما يجعل البيان مليئا بـ (الاستباق الناعم)، كأنه يحاول عزل نفسه عن تبعات القرار القادم.
التحولات في الخطاب الدولي والإقليمي
في هذه الفقرة، يلمح البيان إلى اتساع رقعة التنديد الدولي، لكنه لا يخفي قلقه من احتمال تحول بعض الدول الإقليمية إلى الاعتراف الضمني أو العلني بالحكومة الجديدة التي قد يعلنها الدعم السريع. إذ يقول البيان:
(فإننا نؤكد أن ما يسمى بـ(الإعلان السياسي) يمثل استمرارا للنهج الانقلابي)
التحليل هنا يكشف توجسا من تحول (الإعلان السياسي) إلى مرحلة جديدة من تثبيت سلطة موازية، خاصة إذا وجدت قبولا من بعض الفاعلين الخارجيين.
وهذا ليس افتراضا عبثيا، فقد سبق أن حدث ما يشبه ذلك في ليبيا، حين اعترف بعض الفاعلين الدوليين بحكومة الشرق، ثم لاحقا بحكومة الوفاق، مما خلق انقساما في المشروعية أضر بالشعب الليبي أكثر مما نفعه.
الخطورة في السودان، أن النظام الدولي بدأ في استخدام عبارة (de facto authority) في بعض تقاريره عن الدعم السريع، وهو مصطلح يتجنب الاعتراف القانوني لكنه يرسخ واقع القوة.
تذكير:
في أزمة الحوثيين في اليمن، استخدم هذا الوصف مطولا قبل أن يدمجوا في مفاوضات دولية.
غياب الحسم العسكري وسيولة المشهد
بين سطور البيان يظهر بوضوح أن قيادة الجيش تشعر أن الحسم العسكري الذي كانت تراهن عليه بات أبعد منالا.
ولهذا، تتجه المؤسسة إلى التشكيك في شرعية أي إعلان سياسي يصدر من مناطق خارج سيطرتها، كما جاء في العبارة:
(إن ما يقوم به التمرد هو انقلاب على الدولة السودانية)
هنا يعيد البيان إنتاج سردية الشرعية القانونية، لكنه يتجاهل أن الصراع في جوهره بات صراعا على (الشرعية الواقعية)، أي من يملك الأرض، ومن يدير مؤسسات، ومن يضبط المعابر والموانئ.
مثال مقارن:
في الحالة السورية، بقاء بشار الأسد في السلطة لم يكن بسبب شرعيته القانونية، بل لأنه ظل يسيطر على مفاصل الدولة.
وبالمقابل، فشلت المعارضة السورية في فرض حكومة بديلة رغم الاعتراف الدولي، لأنها لم تستطع إقامة واقع إداري مستقر على الأرض.
تكرار نغمة الاتهامات دون مسار سياسي واضح
البيان يستخدم نبرة التنديد والإدانة (التمرد.. الخيانة.. المرتزقة.. التدخلات الأجنبية) دون أن يعرض رؤية شاملة لكيفية الخروج من الأزمة.
وبهذا، يعيد الخطاب الرسمي إنتاج نفسه في دائرة مغلقة، مما يفسر تراجع قدرته على حشد دعم شعبي أو دولي متماسك.
وهذا النمط الخطابي لا يختلف كثيرا عن بيانات نظام الإنقاذ في أيامه الأخيرة، حين كان يحمل (المندسين والعملاء) مسؤولية كل انشقاق سياسي.
البيان هنا يفشل في تقديم عرض مقنع بأن المؤسسة العسكرية لديها مشروع سياسي، أو حتى رؤية لإعادة البناء المدني بعد الحرب.
يكتفي بوصف المشكلة دون تقديم حل، وهذا يفقده تدريجيا مكانته في معادلة (الشرعية الأخلاقية)
الرسالة الضمنية للمجتمع الدولي
في نهاية البيان، يبدو أن المؤسسة العسكرية تحاول إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي بأن أي اعتراف بحكومة تشكلها قوات الدعم السريع سيكون بمثابة اعتراف بالانقلاب و(تفكيك الدولة السودانية)
لكنها في الوقت ذاته لا تقدم بديلا يمكن دعمه، مما يجعل الرسالة خالية من عناصر الجذب
التاريخ يعلمنا أن المجتمع الدولي لا يستجيب للفراغ، بل يملأه
فإذا لم يكن هنالك مشروع واضح من طرف الجيش، فسيجد المراقبون أنفسهم أمام واقع جديد يتشكل ببطء، فيتكيفون معه
مثال أخير:
في أزمة جنوب السودان، رغم أن سلفا كير فقد السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، إلا أن المجتمع الدولي تمسك به لأن خصومه لم يقدموا بديلا مؤسساتيا مقنعا
لكن ذلك لم يدم طويلا، إذ بدأ لاحقا في إدماج رياك مشار بعد توقيعه اتفاقا سياسيا
🇸🇩خلاصة
بيان القيادة العامة لا يقرأ فقط كنص دفاعي، بل كمؤشر على تراجع زمام المبادرة السياسية لدى الجيش
يريد البيان حشد الدعم لكنه لا يقدم بديلا جذابا، ويدين الخصم لكنه لا يعترف بأنه يملك زمام الفعل
وفي لحظة سيولة إقليمية ودولية، قد تذهب بعض الأطراف نحو (الواقعية السياسية) وتضطر للاعتراف بالأمر الواقع، كما فعلت مرارا في أزمات مشابهة