د. الفاتح جمعة حمدي: العظمة الإلهية في ديناميكا الحشرات الطائرة وأنظمة التحكم الخاصة بها!!

103
الفاتح جمعة

العظمة الإلهية في ديناميكا الحشرات الطائرة وأنظمة التحكم الخاصة بها

 د. الفاتح جمعة حمدي                                                             

باحث متخصص في تطوير الطائرات بدون طيار (UAV) – محلل بيانات

مهتم بالكتابة العلمية في إطار نظري وفلسفي تثقيفي موجه لعامة القراء

مقال علمي

قد تبدو الحشرات الطائرة كائنات صغيرة وعادية لا تلفت الإنتباه لكنها في الحقيقة تحمل واحدة من أعظم معجزات الطبيعة. فخلف كل رفرفة جناح لنحلِة، أو دوران يعسوب، أو إهتزاز لجناح ذبابة الفاكهة، تختبئ أنظمة دقيقة ومعقدة تتجاوز حدود ماصممه الإنسان في أرقي مختبراته العلمية حتي يومنا هذا. أجنحة لا تكاد تري تتحرك بسرعة وانسياب، وتولد قوي ايروديناميكية مذهلة، بينما ينسق دماغ لايتجاوز رأس الدبوس شبكة كاملة من الإشارات العصبية والتحكم الفوري. هذا المشهد البسيط للعين العادية هو في الحقيقة درس عميق في العلم والفلسفة معا. فالحشرة التي تبدو بسيطة تحمل في طيرانها نموذجا معقدا يتحدي الميكانيكا الكلاسيكية (التي تحكم ديناميكية طائراتنا الحديثة) ويعيد تعريف مفهوم الذكاء الطبيعي. إنها دليل علي أن العظمة الإلهيه تتجلي أحيانا في أصغر المخلوقات، حيث يلتقي الجمال بالدقة، والبساطة بالتعقيد. ومن هنا فإن دراسة طيران الحشرات ما هي الا دعوة لإعادة النظر في علاقتنا بالطبيعة. فكل جناح يرفرف أمامنا هو تذكير بأن الإبداع قد يكون مخفيا في تفاصيل دقيقة اعتدنا أن نمر بها دو أن نتوقف عندها، وأن أعظم الدروس العلمية قد نجدها في كائن لا يتجاوز طوله بضع مليمترات.

تحدي الديناميكا الهوائية الكلاسيكية و آليات الرفع غير التقليدية

تتفاعل الطائرات التقليدية مع ظاهرة الديناميكا الهوائية (المستقرة و غير المستقرة) بموجب قوانين الميكانيكا الكلاسيكية بما يؤمن القوي الأيرودياميكية اللازمة لعملية الرفع والطيران. فالشكل الانسيابي للجناح يولد قوة الرفع المناسبة نتيجة للفرق في الضغط الديناميكي الناتج من تدفق الهواء المنتظم من فوقه ومن تحته. غير أن الأمر يختلف في حالة الحشرات الطائرة: فأجنحتها تخالف هذا النموذج بشكل واضح وصريح. فبدلا من ذلك تعمل علي رفرفة أجنحتها ودورانها وإلتواءها وبترددات عالية تتراوح مابين 5 هيرتز (الفراشات) الي 1000 هيرتز (ذبابة الفاكهة الصغيرة). لقد كشفت الدراسات الحديثة والتي استخدمت فيها ديناميكا الموائع الحسابية Computational Fluid Dynamic (CFD) اضافة الي اجراء عملية محاكاة لبعض النماذج لهذه الحشرات داخل نفق هوائي دقيق، فاتضح أنها تستغل مجموعة من الآليات الديناميكية المعقدة لتوليد الرفع المطلوب كما سنبين علي النحو التالي:

أولاً: دوامات الحافة الأمامية LEADING-EDGE VORTICES

أثناء رفرفة الجناح لأسفل، ينفصل تدفق الهواء عن الحافة الأمامية للجناح مشكلا دوامة قوية ومستقرة بشكل مدهش فوق سطحه. تخلق هذه الدوامة منطقة من الضغط المنخفض جداً فوق الجناح، مما يولد قوة رفع هائلة، تفوق باضعاف ما يولده الجناح في الظروف الثابتة. إن استقرار هذه الدوامة هو سر المعجزة الإلهية، فالحواف الحادة للأجنحة مع قوة الطرد المركزي الناتجة من دورانها تمنعها من السقوط (ٍStall) المبكر.

ثانياً: الإستدارة الدورانية ROTATIONAL FLIP

في نهاية كل رفرفة، يقوم الجناح بعملية استدارة سريعة قبل  توقيت الرفرفة المعاكسة. هذه الحركة الدورانية السريعة  تستخلص طاقة إضافية من الهواء، مولدة  دفعة أخري من الرفع يساهم بشكل حاسم في المناورة والإستقرار.

ثالثاً: تفاعل الأجنحة WING – WING INTERACTION

في الحشرات ذات الأجنحة الأربعة (اليعسوب) يتم تنسيق حركة الأجنحة الأمامية والخلفية بغرض تعزيز الأداء. حيث تقوم الأجنحة الخلفية باعادة استخدام الطاقة الناتجة من دوامات الأجنحة الأمامية وهذا بدوره يؤدي الي زيادة كفاءة الرفع.

هذه الآليات مجتمعة تعني لنا ان الحشرات الطائرة في ديناميكية طيرانها لا تخالف قوانين الفيزياء وانما تعمل علي استغلالها بمهارة عالية وذكية في نفس الوقت، خاصة وانها تقع في نطاق ديناميكا الموائع منخفضة ال (Renolds Number) حيث تسود لزوجة الهواء ويصبح قابلا للانضغاط ويكون القصور الذاتي (الكتلة) غير ذي جدوي ويمكن أهماله، وهي النقطة التي تنهار فيها كل قوانين الديناميكا الهوائية بالنسبة لطيراننا التقليدي.

نظم التحكم العصبية وأجهزة الاستشعار والخوارزميات البيولوجية

إن تنفيذ مثل هذه المناورات المعقدة يتطلب الأمر وجود نظام تحكم معقد بنفس القدر، وهنا يقوم الجهاز العصبي مع الدماغ بهذا الدور الحيوي والمهم كما مبين علي النحو التالي:

أولاً: التحكم العصبي المركزي والمحيطي

لا يتحكم الدماغ المركزي في كل حركة للجناح. بدلا من ذلك، يعمل كنظام قيادة عليا يحدد الإتجاه (مثل أهرب من مفترس أو أتجه نحو ذهرة). أما التفاصيل الدقيقة لتنفيذ الحركة فيتم تفويضها إلي العقد الصدرية، وهي مجموعة من الخلايا العصبية الموجودة في الصدر والتي تعمل كمعالجات محلية (Local Processors). هذه العقد تحتوي علي مولدات النمط المركزي (Central Patten Generators)، وهي دوائر عصبية تنتج أنماط الحركة لرفرفة الجناح بشكل تلقائي دون الحاجة الي أوامر مباشرة من الدماغ.

ثانياً: التغذية الراجعة العكسية في الزمن الحقيقي

للحفاظ علي الإستقرار في الطيران والتعامل مع الإضطرابات الهوائية المفاجئة (هبة الرياح) تعتمد الحشرات الطائرة علي مجموعة متناهية الدقة من أجهزة الإستشعار كما مبين علي النحو الاتي:

  1. 1. قرون الإستشعار: هي عبارة عن هوائي كشفي (Detector Antenna) متعدد الوظائف يقيس الإلتواءات والإهتزازات بالاضافة الي قياسه لسرعة الهواء واتجاهها. كما تعمل علي كشف الروائح (الفيرومونات وهي إشارات كيميائية بين الحشرات) كما تساعد ايضا علي الإحساس باللمس.
  2. 2. العيون المركبة COMPOUND EYES: تتكون عيون الحشرات الطائرة من عدة عدسات يتراوح عددها من 700 عدسة (ذبابة الفاكهة) الي 30,000 عدسة (اليعسوب). هذا العدد الهائل من العدسات يعمل علي توفير معلومات بصرية سريعة عن تدفق الصور عبر العين مما يمكنها من قياس سرعتها وارتفاعها من الأرض وتفادي الإصطدام بالعوائق المختلفة الطبيعية و الصناعية.
  3. 3. المستقبلات الميكانيكية MECHANORECEPTORS: توجد علي الأجنحة وعلي جسم الحشرة الطائرة وتعمل علي إرسال معلومات إنحناء الجناح وضغط الهواء وتوزيع القوي. هذه البيانات الحسية تتدفق باستمرار إلي العقد الصدرية والتي بدورها تعدل لحظيا توقيت واتجاه وسعة رفرفة الجناح. إنه نظام تحكم مختلط متعدد المدخل ومتعدد المخارج يجمع بين عدد من تقنيات التحكم المختلفة للاستفادة من ميزة كل واحد علي حده: حيث يتألف نظام مختلط يعرف بالتحكم التنبؤي – التكييفي – القوي والفوري فائق المرونة Online – Model Predictive – Adaptive – Robust high flexible control و يعمل بخوارزميات بيولوجية صقلتها ملايين السنين من التطور قبل أن تعرف البشرية هذا المفهوم في هندسة التحكم.

التأملات الفلسفية:التعقيد والتصميم والذكاء الموزع

إن هذا الإعجاز في ديناميكا الحشرات الطائرة ونظم التحكم الخاصة به يدفعنا لأن نطرح أسئلة تتجاوز حدود البيولوجيا والفيزياء.

  1. 1. جدلية البساطة والتعقيد: الحشرة تبدو بسيطة لعيوننا، لكنها تخفي تعقيداً ميكانيكياً وعصبياً كبيرا. السؤال الفلسفي هنا هل التعقيد هو القاعدة السائدة في الطبيعة، وأن إدراكنا للبساطة مجرد وهم ناتج عن قصور في فهمنا؟ إن ما وجدناه من أنظمة ديناميكية وعصبية معقدة في الحشرات الطائرة لهو دليل علي أن التعقيد غير المرئي هو أساس هذه الكفاءة.
  2. 2. الهندسة المستوحاة من الطبيعة: لا توجد لوحة رسم إلهية أو مخطط هندسي لهذه الحشرات الطائرة، ومع ذلك فإن كفاءتها تدفعنا الي إستخدام لغة التصميم الهندسيي. فإن مجال الهندسة الحيوية (الهندسة المستوحاه من الطبيعة) ما هو إلا إعتراف عملي بهذا التصميم الهندسي. كما أن محاولاتنا لبناء طائرات مسيرة صغيرة الحجم Micro Air Vehicles (MAVs) تحاكي طيران الحشرات ليست سوي تقليد للحلول التي أوجدتها الطبيعة وهو ما قد يضعف الفكرة القديمة عن تفوق التصميم البشري المعتمد علي العمليات الطبيعية العشوائية.
  3. 3. فلسفة العقل والذكاء الموزع: يدفعنا نظام التحكم العصبي في الحشرات الطائرة إلي إعادة النظر في مفاهيم الذكاء والوعي. فهي لا تعتمد علي تحكم مركزي رئيسي يدير جميع الوظائف، بل إن الذكاء فيها موزع علي شبكة متكاملة تشمل الدماغ، والعقد الصدرية، , أجهزة الاستشعار. والقرار في هذا السياق ليس قرارا مركزيا، وإنما نتيجة ناشئة عن التفاعل الديناميكي بين هذه المكونات. ويمثل هذا الذكاء الفطري تحديا للفكرة التقليدية عن الوعي البشري، إذ يطرح بديلا يقوم علي السوك الناشئ من التفاعلات البسيطة بدلا من الاعتماد علي عقل مركزي. ومن هذا المنظور، يمكن لمبدأ ” الذكاء الموزًع ” أن يشكل أساسا لتصميم أنظمة روبوتية وذكاء اصطناعي أكثر مرونة وكفاءة، بحيث تعمل وفق شبكات من التفاعلات المتوازية التي تنتج سلوكاً معقداً وفعّالاً في الوقت نفسه.

دروس الطبيعة التي تنتظرنا

يمكننا القول في خاتمة هذا المقال إن الحشرات الطائرة وعلي الرغم من كونها كائنات صغيرة تعيش بيننا الا انها تمثل نصوص الطبيعة والمكتوبة بدقة وانسجام مدهش تنتظر من يقرأها بلغة العلم. فكل جناح يرفرف في الهواء ما هو الا معادلة حقيقية تجمع بين الفيزياء والبيولوجيا والهندسة والفكر التأملي، لتذكرنا بأن الطبيعة معلم عظيم ومرجع لا ينضب من الابداع، يحمل في طياته حلولا أنيقة سبقتنا بأزمنة طويلة الي ما كنا نطمح إليه من إبتكارات غيرت في حياتنا. ومن هنا يتضح لنا أن مستقبلنا يكمن في قدرتنا علي الاصغاء لهذا الدرس العميق: إن أعظم الابداعات قد تكون مختبئة في ما اعتدنا النظر اليه علي أنه مجرد تفصيل صغير وعابر في مشهد الطبيعة حيث تتجلي عظمة الهندسة الالهيه متناهية الدقة والابداع. وقل اللهم زدنا علما فما أوتينا من العلم إلا قليلا.

 

About The Author

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com