على “تقدم” أن تطالب المجتمع الدولي بإنقاذ السودان اليوم وليس غداً
جمال عبد الرحيم صالح ..
كنا قد نشرنا مقالة من جزأين بتاريخ 4 ديسمبر المنصرم تحت عنوان “نعم للتدخل الدولي ووصاية الأمم المتحدة كخيار لا بد منه”، قدمنا فيها حيثيات مدعومة ببراهين ومؤشرات واضحة وموثقة، عن استحالة الوصول لتسوية توقف الحرب القائمة وتعيد البلاد للمسار المُفْضي للدولة المدنية الديمقراطية، عبر التفاوض مع أطراف غير مؤهلة سياسياً وتنظيمياً وأخلاقياً، كما أنها متقلبة الأهواء، وناقضة للعهود، بشكل يجعل اتفاقها مع الآخرين على أمر ما لا يعدو غير أن يكون بمثابة حلم عابر. عليه رأينا أن لا مناص عن المناداة بتدخل أممي سياسي وعسكري حاسم يبسط المناخ الملائم لإعادة بناء الدولة السودانية.
منذ نشرنا لمقالتا تلك، رصدنا مجموعة من الشواهد والمؤشرات الهامة الدالَّة على صواب رؤيتنا، وعلى إلحاحها، قبل أن نصحو ذات صباح لنجد أن بلادنا ضاعت في رحلة غياب أبدي، لن يجدي بعده عض أصابع الندم واجترار الاتهامات بين مؤيدي ذلك التدخل الأجنبي ومعارضيه؛ لذا نرى أنه من الواجب على تنسيقية قوى التحول المدني الديمقراطي (تقدم) عدم وضع آمال أكثر من اللازم (للقاء السيدين) المفترض انعقاده قريباً. بل نرى أن على “تقدم”، باعتبارها تشكل أكبر تمثيل لشعب السودان وقواه الحية في التاريخ الحديث، أن تتقدم لمربع جديد، وتمهد الأرض، لدعوة مجلس الأمن والقوى المؤثرة في الشأن السوداني للقيام بدورها في حماية شعب السودان أولاً، وحماية الأمن الإقليمي والسلام العالمي تالياً؛ وبدون أن تعطل ما تبذله من جهد رشيد حالياً في سبيل معالجة الأوضاع القائمة عبر التفاوض.
يتمثل أول تلك المؤشرات الجديدة التي أتينا على سيرتها، وأكثرها خطراً في تقديرنا، يتمثل في الاجتياح المفاجئ للدعم السريع لولاية الجزيرة منتصف الشهر الماضي، وما صاحبه من تعديات واسعة النطاق لممتلكات المواطنين، وما رافقه من بروز أسماء جديدة في سلم قيادة الدعم السريع كالقائد أبوعاقلة كيكل.
إن الذي دعانا لوصف ذلك المؤشر بالخطورة، مصاحبة ذلك الاجتياح لتعديات جسيمة على المواطنين وممتلكاتهم، وهو أمر يشكل عدم امتثال من جانب المقاتلين لتعليمات قيادتهم المتكررة، وبالتالي يدفع بمخاوف مشروعة عن مدى سيطرة القيادة المركزية للدعم السريع على سلوك قادتها الميدانيين ومن يقودونهم من مقاتلين. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فإن بروز قيادات جديدة من خارج السياق الذي نشأ في إطاره الدعم السريع، كالسيد أبو عاقلة كيكل، وهي قيادات ليس لها تاريخ وتجربة متصلة للقتال بصفوف الدعم السريع، يحمل في طياته احتمالية عالية لأن يكون الدور الحالي لهذه القيادات لا يعدو غير أن يمثل موقفاً تكتيكياً بحتاً، خاصة وأن لها تاريخ سابق يشير لتطلعات مختلفة عن تلك التي يحملها قائد الدعم السريع.
إن التعجيل بما اقترحناه من حلول قائمة على التدخل الدولي يقطع الطريق على احتمالات تشرذم هذه القوة الهائلة المتمثلة في الدعم السريع، حيث بدون ذلك يصبح السودان ساحة لاصطراع أمراء الحرب من الجانبين؛ فخير للبلاد بالتأكيد أن تتركز القوة في أيد أقل من أن تتوزع على مجموعة من القادة الميدانيين.
إن تخوفنا هذا، وبقليل من إعمال التفكير المنطقي، نراه من البداهة بمكان. فالتوسع الأفقي الضخم، والمتزايد من ناحية المقدرات البشرية والتسليحية، وفي وقت قصير لجيش يتحرك على مساحات تقدر بمئات الألاف من الكيلومترات، وبدون أن يقابل هذا التوسع الأفقي تطور ملائم على المستوى الرأسي، ونعني به تشريب هذا الجيش بعقيدة عسكرية موحدة، وتأهيل قتالي وأخلاقي متجانس، وسلسة قيادة منضبطة وكفؤة؛ سيجعل ذلك الجيش يحمل بذور فنائه في داخله. إنه من تصاريف الأقدار وغرابة المصائر، أن نجد أنفسنا حريصين على تماسك مليشيا عائلية ذات حواضن قبلية، والدعوة لعدم تفككها!
المؤشر الثاني على تدهور الوضع بالشكل الذي يستلزم شد انتباه العالم لما يحدث ببلادنا، ويبرر المناداة بالتدخل الأممي، ذلك السُعار الذي أصاب إسلاميي المؤتمر الوطني عقب اجتياح الدعم السريع لولاية الجزيرة وما أعقبه من ظهور قوي لقائد الدعم السريع في الفضاء الخارجي. إن الدعوات الخبيثة التي يتولاها ذلك التنظيم لتجييش الشعب تحت شعارات سياسية وقبلية واضحة، لتشكل في الواقع توجهاً لتقطيع ما تبقى من روابط تشد مكونات الوطن. إننا لن نكل ولن نمل تكرار ما هو بديهي، من أن أعداء ثورة ديسمبر العظيمة، من الاسلامويين أصحاب المؤتمر الوطني، فاقدون لأي مقومات أخلاقية تدفعهم للصمت أو الهدوء السياسي لبعض الوقت، على الأقل، حتى لا ينهار الوطن الذي يريدون أن يحكموه؛ بل في الواقع فإن مفهوم الوطن يعتبر مفهوماً غريباً لديهم، كما أن مفهوم التفاوض عندهم لا يعدو أن يكون عملية بيع وشراء للذمم والمواقف.
هذا تنظيم نشاز ولا نرى شبيهاً له في عالم السياسة على تعدد ألوان طيف هذا العالم. تنظيم ترتبط عضويته مع بعضها البعض بتوليفة غريبة من العناصر، تجمع الانتماء الأيديولوجي، مع الانتماء للقبيلة، مع الارتباط بشلة الجامعة، مع التنسيق في عالم المال والاقتصاد، مع التشارك في الفساد المالي الحكومي والخاص، مع التاريخ المشترك في التآمر على الآخرين، مع الانغماس في الأعمال الأمنية، مع تدوير الوظائف الحكومية وغيرها فيما بينهم، مع التشابه حتى في المبادئ والسلوك الشخصي، إلى آخر ما يجعهم ويجعل عداءهم للتغيير قضية حياة أو موت! نحن نتحدث عن تنظيم يخلو سجله من ورقة عمل فكري، ولو من 10 صفحات، يمكن الاعتداد بها رغم ضخامة عدد عضويته وتربعه في دست الحكم لأكثر من ثلث قرن من الزمان. تنظيم من بؤسه تحوُّل سفراؤه وخبراؤه الاستراتيجيين إلى مضحكة لمذيعي القنوات الفضائية، حيث تجردوا حتى من الملكات اللغوية المتوسطة. إن ما يقوم به تنظيم بهه الصفات من تسليح للمواطنين بحجة الحفاظ على أموالهم وعروضهم لا يُتوقَّع أن ينحو أي منحىً سلميًّ، خاصة مع الوضع في الاعتبار سيطرته الكاملة على المنظومة العسكرية والأمنية والجهاز الحكومي. لهذا، ولغيره، نرى أن لا نتيجة إيجابية يمكن الوصول لها مع قادته، ومع من هم مُسَيَّرين بإرادته في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى، عبر التفاوض السياسي بين القوى السياسية السودانية.
مؤشرنا الثالث لسلامة التوجه الذي طرحناه، ذلك التعضيد للفكرة من خلال نداءين أطلقا بالولايات المتحدة مناديين بالتدخل الأممي في خواتيم العام المنصرم، أحدهما طالبت فيه هيئة محامي دارفور الأمين العام للأمم المتحدة تنبيه مجلس الأمن الدولي بالجرائم المرتكبة في السودان والتي قالت بأنها تهدد الأمن والسلم الدوليين، ودعت للعمل الفوري لوقف الحرب “العبثية المدمرة”، والآخر نداء، في ذات الاتجاه، صادر عن مجموعة مفكرين وأكاديميين سودانيين جمعتهم ندوة بواشنطن مناسبتها تدشين كتاب “إدارة الصراع وفعالية قوات حفظ السلام” للباحث والخبير الدارفوري المرموق والمتخصص في درء النزاعات الدكتور سليمان عبد الكريم جدو، هذا إضافة لآراء فردية من كتاب ومثقفين وأكاديميين معروفين، مثل الدكتور زهير السراج.
أما مؤشرنا الرابع، فهو السؤال ذو الإجابة الإيحائية الواضحة، ذلك الذي طرحته الدكتورة أماني الطويل، المتخصصة في الشأن السوداني والملمة باتجاهات السياسة المصرية تجاه السودان، وذلك في مقال منشور لها بتاريخ 31/12/2023 بعنوان “السودان: ماذا بعد سقوط ود مدني؟”، حيث تساءلت فيه: “هل سلمت القاهرة بدور دولي في السودان، بعد أن ثبت أن الجيش السوداني، عبر طبيعة تحالفاته السياسية وممارسته العسكرية، وكذلك المقدرة على اختراقه من جانب الأطراف المعادية، بشكل واسع، لا يملك القدرات اللازمة؛ ليكون رافعا لتحرك مصري في السودان يملك شروط الفاعلية والنجاح؟”. فالسؤال يشير مباشرة إلى إجابة واضحة صادرة عن آخر حليف للجيش السوداني، وهو الأخ الأكبر، الذي أصبح “قانعاً من خير فيه”، أي في الجيش وقيادته بالطبع!
أما مؤشرنا الأخير، الذي يؤكد أن لا أمل ولا رجاء في التفاوض سواء في جدة أو جيبوتي، فهو خطاب البرهان بتاريخ 1/ 1/ 2024 والذي ألقاه بمناسبة عيد الاستقلال المجيد. فحيث بدلاً عن الدعوة للسلام والتماسك الوطني، كما جرى العرف في مثل هذه المناسبات، أضاف قائد الجيش شروطاً وتعقيدات جديدة على وضع معقد أصلاً. وبدلاً عن أن يكسب من خلال هذا الخطاب قلوب الناس، عبر إبداء الاستعداد لفتح حوار وطني لحل الأزمة، أضاف قائمة جديدة لقائمة أعدائه سواء من دول الجوار، أو القوى السياسية الفاعلة في الساحة السودانية، علماً بأنه أصلاً فاقداً للمصداقية والثبات في الأقوال والأفعال. إن ضمان التزام البرهان، بأي اتفاقات يمكن أن تنشأ عن تفاوض معه، مشكوك فيه لأقصى حد لأسباب موضوعية متعلقة بكونه رهينة لدى الاسلامويين، وأخرى ذاتية تتعلق بتكوينه الشخصي الذي يميل لنقض العهود والالتفاف على الاتفاقات.
تبقت لنا بضع كلمات أخيرة نختم بها مقالنا هذا، وهي التنبيه بأن ما أقدمت عليه قيادة الجيش بمشاركة إسلاميي المؤتمر الوطني، من توزيع عشوائي للسلاح على المواطنين انهى فعلياً إمكانية العمل الجماهيري؛ وحتَّم بشكل جلي بناء حراك واسع من قبل مكونات تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية يستهدف توجيه نداء عاجل لمجلس الأمن والاتحاد الأفريقي للتدخل سياسياً وعسكرياً بشكل عاجل للحفاظ على الدولة السودانية وإعادة الأمور لما كانت عليه فبل انقلاب 25/10/2021 المشؤوم. لا بد أن تستفيد الدعوة الجديدة للتدخل المقترح من دروس التدخل السابق في دارفور، والذي فشل في تحقيق أغراضه الكاملة بسبب سياسة الابتزاز وشراء الذمم تلك التي برع فيها نظام إسلامويي المؤتمر الوطني. من ناحية أخرى، أثبتت تجربة الماضي، أن الآليات المخففة التي يلجأ لها المجتمع الدولي من شاكلة العقوبات المالية، والأخرى الشبيهة، تجاه الأشخاص والمؤسسات، مثل العقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على قادة الدعم السريع وقادة المؤتمر الوطني، لن تفيد كثيراً في تحقيق الغرض منها، فهؤلاء الناس أصبحت لديهم منعة تجاهها عبر استغلالهم لجهاز الدولة ومواردها بطرق شتى يصعب تعقبها.