رسالة لأطراف الحرب و للشعب السوداني بمناسبة مرور “500” يوم على حرب الخامس عشر من أبريل.
رسالة لأطراف الحرب و للشعب السوداني بمناسبة مرور “500” يوم على حرب الخامس عشر من أبريل.
بكري الجاك..
الحرب خيار و السلام خيار وكلاهما يحتاج الى شجاعة.
لا قيمة للانتصار فى هذه الحرب إذا كانت ستقتل العباد و تدمر البلاد.
إنقاذ حياة الناس كقيمة هي أعظم ما يمكن أن نقوم به ما حيينا.
الطريق الى بيوتنا يبدأ بالتفاوض و القبول بمبدأ الحلول السلمية.
رفضنا لخيار الحرب و سردياتها هو مدخلنا للتعافي الاجتماعي والتعايش و السلمي.
خمسمائة يوما (500) و بضع ساعات قد مرت منذ اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل في بلادنا وكل يوم فيها مقداره ألف سنة، فأيام الحروب هي أيام من الجحيم بحق و حقيقة لمن يعيشها و يكتوي بنيرانها. وبغض النظر عن أسباب اندلاع الحرب و من أطلق الرصاصة الأولى، إذ لكل سرديته و حٌجيّته، فإن المؤكد أن هذه الحرب هي اسوأ محصلة فى تاريخنا الوطني بلا منازع، فبينما يدور رحاها فى الحواضر و الأرياف فهاهي قد خلفت ما يقارب ال 11 مليون ما بين نازح ولاجئ (هذا الرقم في طريقه للارتفاع) و حوالي 25 مليون مواطن يواجهون نقص حاد فى الغذاء من بينهم 9 مليون يواجهون خطر المجاعة الآن و سيموت بعضهم قبل أن يجف الحبر الذي كٌتب به هذا المقال. و بخلاف الموت و التشرد و الانتهاكات الجسيمة من القتل و السحل و العنف الجنسي ضد النساء و الاستهداف الاثني فإن هذه الحرب دمّرت اقتصاد البلاد وبنيتها التحتية و هددت كيان الدولة السودانية فى وجوده و أفقرت الناس المفقرة اصلا، و ها هي تهدد الأمن والسلم الإقليميين و الدوليين فهي قابلة للتوسع لتطال دول الجوار.
إزاء هذه الأهوال و ما خلفته من خراب و ما تنذر به ليس هنالك من خيار سوى النزول الى صوت العقل و الفطرة الإنسانية السليمة التي تٌعلي من شأن الحياة وصيانة الكرامة الإنسانية بأي صيغة كانت، فلا يعقل أن تكون فكرة الكرامة دافعا للموت والخراب الى ما لانهاية إذ أن قمة الكرامة هي صيانة الحق فى الحياة لجموع السودانيين، وما قيمة الكرامة للأموات؟ و هذا أمر ليس مستحيلا بل يمكن تحققه عبر الجلوس الى مائدة الحوار و التفاوض وبقدر ما أن تاريخ البشرية جٌلّه صراعات عنيفة إلا أنه بذات القدر أن جٌلّ هذا التاريخ فى خلاصته الحديثة هو نزوع الناس إلى صوت العقل و حقن الدماء بالقبول والتعايش.
إن تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) فى وثيقتها التأسيسية التي صدرت في أكتوبر 2023 وقفت ضد الحرب من حيث المبدأ و دعت القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع إلى القبول بمبدأ الحل السلمي المتفاوض عليه، و دعت كليهما حينها بالذهاب للتفاوض والتسليم بأن هذه الحرب لا يمكن أن تٌحسم عسكريا، و أن أقصر طريق لإنهاء عذابات السودانيين يبدأ بقبول الطرفين بوقف إطلاق نار غير مشروط و بمخاطبة الأزمة الإنسانية بفتح ممرات آمنة و العمل على إنقاذ الموسم الزراعي حتى قبل إبداء أي طرف تصوره عن كيفية إنهاء الحرب، فحياة المدنيين السودانيين يجب أن لا تكون رهينة لتحقيق أية أهداف سياسية أو عسكرية لأي طرف من حيث المبدأ. و بعد مرور 500 يوم من جحيم الحرب لم يبق من المفردات ما يكفي لتوصيف حجم معاناة السودانيين فى مناطق النزاع و فى محطات النزوح وفي معسكرات اللجوء و في الفيافي والصحاري التي يقطعها الناس كبارا وصغارا رجالا و نساءا من الذين يحاولون النجاة من جحيم الحرب. و ها نحن قد طوينا صفحة فرصة تاريخية و لحظة مفصلية لصناعة السلام عبر المفاوضات التي عٌقدت في جنيف بين فريق الوساطة الدولية والدعم السريع بشكل مباشر و القوات المسلحة السودانية بشكل غير مباشر، و بالرغم من أن ما تحقق من مخرجات من فتح للمعابر و التعهدات بضمان مرور الاغاثة وحماية المدنيين ليس كافيا و لا يعني نهاية الحرب فلابد من الوصول إلى وقف إطلاق النار ووقف شامل للعدائيات، إلا أن هذه المخرجات والقبول بالتفاوض فى حد ذاته تٌعد خطوة في الاتجاه الصحيح. و على خلفية هذه المباحثات و بمناسبة مرور 500 يوم على حرب الخامس عشر من أبريل أتوجه برسائل لكل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع و جماهير الشعب السوداني قاطبة.
إلى قيادة القوات المسلحة إننا باسم الأخوة فى الوطن وإذ نخاطب فيكم ذلكم الحس الوطني الأصيل والغيرة على تراب الوطن و شعبه نطالبكم بأن اغيثوا اهلنا الذين لم يبق لهم قدرة على الاحتمال وقد خارت قواهم أمام وابل الرصاص و رحلات النزوح و هجير الفيافي و الجلوس القرفصاء للصلاة و الدعاء. نقول لكم وقد أوصلت الحرب البلاد الى شفا الانهيار الكامل و أن قمة الشجاعة فى هذا الظرف تتمثل فى إعلاء قيمة الحياة وتجنيب البلاد المزيد من الموت والتشرد والنزوح و ليس هنالك قيمة للنصر إذا مات الناس جميعا، بل نقول لكم أن قمة النصر فى هذه الحرب هو الوصول الى سلام دائم يبدأ برحلة التعافي الوطني عبر حزمة من الترتيبات السياسية التي تخاطب أمهات و جذور مشاكل البلاد بإيجاد صيغة لمشروع وطني يضمن المواطنة المتساوية و يحقق العدل و يحسن إدارة التنوع. و قبل كل شيء نطالبكم بالتوقف عن استخدام سلاح الطيران ضد المدنيين العزل و بالتوقف عن الحملة العنصرية التي تستهدف السودانيين على أساس عرقي وانهاء الحملة المسعورة لتحويل هذه الحرب الى حرب أهلية شاملة يٌقتل فيها الناس بسبب سحناتهم او طريقة كلامهم.
الى قيادة قوات الدعم السريع اننا و بأسم الأخوة في الوطن نطالبكم بأن تنفذوا ما وعدتم به من قبل من تجديد القبول بوقف إطلاق نار غير مشروط إذا ما قبل الجيش للجلوس للتفاوض و بالجنوح إلى الحل السلمي المتفاوض عليه. و هنا لابد من الإشادة بقبولكم غير المشروط بالذهاب إلى التفاوض في جنيف و واطالبكم بإنفاذ التعهدات التي قدمتموها في مباحثات جنيف خصوصا حماية المدنيين ووقف الانتهاكات الجسيمة فى حق العزل من النساء و الرجال. و نذكركم هنا بعد مرور 500 يوما على الحرب أن ما قام به بعض من منتسبي قوات الدعم السريع فى خضم هذه الحرب من انتهاكات فى حق المدنيين من نهب و سرقة و قتل و اغتصاب، و التي كانت و ستظل محل ادانة من قبلنا و من قبل كل صاحب ضمير حي، قد ترك جرحا عميقا فى نفوس الملايين من السودانيين، و قد كانت هذه الجراحات وقودا لحملة افاعي النظام البائد التي ما زالت تسعى إلى تحويل هذه الحرب إلى حرب أهلية شاملة أساسها العرق والإثنية والانتماء الجغرافي. أن مفاوضات جنيف كانت فرصة مواتية لإنهاء الظروف التي تجعل من الانتهاكات أمرا متكررا، وفي ذات السياق نطالبكم بالايفاء بالتزاماتكم الواردة في كل من إعلاني جدة و اعلان اديس ابابا و مخرجات جنيف و إبداء حسن النوايا حول الحل السياسي الشامل المتفاوض عليه بإزالة الشكوك حول نوايا الدعم السريع بالاستيلاء على السلطة أو العمل على تقسيم البلاد.
إلى الشعب السوداني المشرد النازح واللاجئ الصابر المكلوم والحالم بالعودة إلى البيوت، بما فى ذلك المتخندقون خلف أحد أطراف الحرب بأي دافع كان، نحن نعلم أن ما نعيشه جميعا الآن لهو ظرف عصيب و أن فى صدور العديد من السودانيين غضبا عظيما و ان كان مبرر ومفهوم إلا أن جٌله موجة فى المكان الخطأ، كما أن الحرب أيقظت غريزة الخوف فى جل القلوب و الخوف عادة يعيد الناس الى انتماءاتهم الأولية من قبيلة و عقيدة و مناطقية، و لكن الحكمة المتوارثة لدينا كشعوب قديمة تذكرنا دوما أن منهج فش الغبينة لا يمكن إلا أن يٌوردنا موارد الهلاك. المعروف أننا كبشر لدينا غرائز وميول فطرية إلا أن الدور الصحيح لقوانا المدنية و لنا جميعا هو رفض فكرة أننا أمام خيارين فقط هما الانحياز الى أحد الأطراف وأنه بإمكاننا رفض الحرب مبدءاً كخيار ثالث، إذ أن رفضنا للحرب يعني رفض سرديات أطرافها و هزيمة مشروعيتها الاخلاقية و هذا ما قامت به جٌلّ جماهير الشعب السوداني طوال ايام الحرب و حري بها أن تقوم بهذا الدور الآن و بأعلى صوت و فى كافة الجبهات. فلنحارب خطاب الكراهية و نتسامى فوق الجراح ولنصبر على بعضنا البعض و لنعمل لاجتراح سبيلا جديدا للتعايش السلمي والتعافي الوطني ولنهتف جميعا بصوت واحد “نعم للسلام مطلقا و لا للحرب و بأي صيغة كانت”.
عاش السودان حرا مستقلا و آمنا
عاش الشعب السوداني
بكرى الجاك
26 أغسطس 2024.