“السودان” .. استراتيجية استدامة “الأزمة”.!!
“السودان” .. استراتيجية استدامة “الأزمة”.!!
الاستاذ صالح السليمي .
حرب السودان التي اندلعت في 15 أبريل 2023، دخلت عمليا مرحلة جديدة يمكن وصفها باستدامة الأزمة. وذلك يعود إلى عدة عوامل رئيسية، أبرزها العوامل الخارجية المتمثلة في المكاسب الاقتصادية التي حققتها مصر، إضافة إلى العوامل الداخلية المتعلقة بالتكتيكات السياسية
والاقتصادية التي تتبعها بعض القوى السودانية المستفيدة من استمرار الصراع وفي مقدمتها جماعة الاخوان المسلمين.
لقد لعبت مصر دورًا كبيرًا في استمرار هذه الحرب، وذلك لعدة أسباب ترتبط بمصالحها الاقتصادية والسياسية. فمنذ اندلاع الحرب، شهدت مصر تدفقًا كبيرًا للثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية من السودان بوتيرة أكبر مما كانت عليه قبل الحرب. هذا التدفق زاد من إمدادات السوق المصري، حيث تستفيد مصر من المواد الخام السودانية بأسعار أقل وبدون منافسة سوقية، مما عزز الاقتصاد المصري في وقت تواجه فيه القاهرة تحديات اقتصادية كبيرة.
بالإضافة إلى ذلك، استفادت مصر من مدخرات السودانيين العاملين بالخارج، والتي يقدر حجمها بما لا يقل عن 8 مليارات دولار سنويًا خلال عامي الحرب. كما أن رؤوس الأموال السودانية الهاربة من جحيم الحرب، والتي تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار، تم ضخها في الاقتصاد المصري، مما ساهم في تخفيف بعض الأعباء الاقتصادية التي كانت تواجهها مصر. وقد خصصت الحكومة المصرية آليات مباشرة لتسهيل استثمارات السودانيين، خاصة في قطاع العقارات، حيث تم تنشيط هذا القطاع بشكل ملحوظ نتيجة الطلب المتزايد من السودانيين الفارين من الحرب.
كما ساهمت الاستثمارات السودانية في توفير فرص عمل للمصريين، مما خفف من معدل البطالة وقلل من الضغوط على الجنيه المصري. لهذه الأسباب، استخدمت مصر نفوذها على قيادة الجيش السوداني لتعطيل وإفشال محادثات السلام التي عُقدت في كل من جدة، والمنامة، ومسقط، وجنيف، حيث كان الهدف الرئيسي هو استمرار الأزمة والاستفادة منها لأقصى حد.
العامل الداخلي الذي يساهم في استدامة الأزمة السودانية يتعلق بالاستراتيجية التي تتبعها جماعة الإخوان المسلمين. الجماعة التي حكمت السودان لسنوات طويلة ترى أن استمرار الحرب يوفر لها فرصة للتخلص من الجرائم الكبيرة التي ارتكبتها خلال فترة حكمها، والذي دامت حوالي 34 عامًا ومازال. علاوة على ذلك، تمثل الحرب فرصة لهؤلاء للعودة إلى المشهد السياسي السوداني من خلال استخدام القوة والتهديد والترهيب، بعد أن أطاحت بهم الثورة الشعبية في ديسمبر 2018.
كذلك، استفاد قادة الإخوان المسلمين من فترة حكمهم الطويلة في اكتناز ثروات ضخمة، مكّنتهم من إدارة الحرب من مسافة آمنة بعيدًا عن المعاناة المباشرة للشعب السوداني. فقد نقلوا عائلاتهم وأبنائهم إلى دول آمنة، بينما يبقى الشعب السوداني يعاني من ويلات الحرب، وهو ما يعزز استمرارهم في هذا النهج دون ضغوط كبيرة.
إلى جانب الفوائد الاقتصادية التي حققتها مصر من الحرب في السودان، هناك أيضًا أدلة على تدخلات عسكرية مباشرة من مصر لدعم الجيش السوداني. ففي عدة مناسبات، تم إسقاط طائرات حربية مصرية خلال المعارك، كان آخرها الطائرة التي أسقطت صباح يوم 21 أكتوبر 2024 في منطقة الفاشر. كما تم القبض على عشرات الطيارين المصريين في قاعدة مروي الجوية في اليوم الأول من اندلاع الحرب. هذه التدخلات العسكرية تكشف عن عمق التورط المصري في الصراع السوداني، ودورها في إطالة أمد الحرب.
في ظل هذه الظروف المتشابكة، ما لم يتمكن المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي من تفكيك شبكة المصالح الاقتصادية والسياسية التي تجمع بين مصر وجماعة الإخوان المسلمين في استمرار السودان، فإن هذه الحرب ستستمر إلى أجل غير مسمى. ولذلك يجب أن يكون هناك ضغط دولي كبير لوقف التدخلات الخارجية التي تعزز استمرار الصراع، إضافة إلى محاسبة القوى الداخلية التي تستفيد من الحرب على حساب الشعب السوداني.
ومع ذلك، تظل آمال السودانيين في إنهاء الحرب قائمة، لكن الوصول إلى حل يتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية، وتفكيك المصالح الاقتصادية التي تغذي استمرار النزاع.