سلام جوبا: أيادٍ صافحت حينما ضعفت، ونفوسٍ غدرت عندما شبعت

10
الطيب الهادي

جوبا… وما أدراك ما جوبا!
(جوبا مالك عليّ؟)

بقلم: الطيب الهادي

جوبا، مدينة صنعتها الدماء، ورسمها التاريخ بالجراح. أرض الأبنوس، ووجوه أهلها المضيئة بالبساطة والصدق. جوبا الإنسان، لا المدينة فقط، حيث القلوب الطيبة، واللسان الصادق، والبساطة التي لا تعرف الغموض.

خاض الجنوب عشرين عامًا من الحرب ضد الشمال، وكانت نظرة معظم الشماليين أن الجنوبي هو المخطئ. لكن حين جاء الانفصال في 2011، بدا أن الجنوب لم يغادر فقط، بل أراد أن يقول: “جرّب أن تعيش بلاي، وستعرف من كان على خطأ”.

لكن بعد الانفصال، وُلد جنوبٌ جديد في الغرب (دارفور)، وآخر في الشمال (أطراف المدن المهمّشة). عادت ذات الأسئلة، فهل كانت المشكلة في الجغرافيا أم في العقلية الحاكمة؟

الثورة والحركات المسلحة

في ديسمبر 2018، أطاحت ثورة شعبية عارمة بنظام عمر البشير، الذي ارتكب جرائم إبادة جماعية في دارفور والجنوب وجبال النوبة[¹]. فجّر سقوطه آمالاً عظيمة، وظهر حلم السودان الجديد، تحت قيادة حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك، فاعتقد الناس أن الحركات المسلحة ستنضم إلى بناء الوطن.

لكن الحركات المسلحة – وخاصة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان – تمسكت بخيار التفاوض المسلح، بحجة ضرورة “ضمان الحقوق”، رغم أن النظام تغير والثورة فتحت المجال أمام انتقال سلمي.

اتفاق جوبا… بين الأمل والحسابات

جاء “اتفاق جوبا للسلام” في أكتوبر 2020[²]، ليكون محاولة لتضميد الجراح، واحتوى على ملفات مهمة: تقاسم السلطة والثروة، العدالة الانتقالية، وتفكيك التمكين في المركز لمصلحة الهامش.
كان أبرز قادة الاتفاق:

جبريل إبراهيم (رئيس حركة العدل والمساواة)،

مني أركو مناوي (رئيس حركة تحرير السودان).

تسلّما مناصب رفيعة: وزارة المالية وحاكمية دارفور. لكن سرعان ما تحول الاتفاق إلى أداة سياسية في يد بعض القادة الذين استبدلوا خطاب الثورة بخطاب البزنس والصفقات.

15 أبريل… والصفعة الكبرى

مع اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع في 15 أبريل 2023[³]، اختار جبريل ومناوي الوقوف مع الجيش، ضد حميدتي، الذي كان شريكهم في اتفاق جوبا.
غدرٌ علني بشريك الأمس، الذي – رغم كل شيء – دعم مسار الاتفاق الإطاري، ودعا لتحول مدني حقيقي، وهيكلة الجيش، وبناء دولة سودانية مدنية حديثة، بجيش وطني موحد، بعيدًا عن الولاءات الضيقة.
فأي سلامٍ هذا الذي يسقط عند أول اشتباك؟
وأي مشروع “هامش” هذا الذي ينهار حين تشتد العاصفة؟
لم يكن ذلك سوى سلام الضرورة، واتفاق تقاسم غنائم، لا رؤية إنقاذ وطن.

الحقيقة المرة

تحول قادة الحركات من حَمَلة مشاريع تحررية إلى حَمَلة حقائب وزارية.
صافحوا حميدتي حين كانوا في حاجة إليه، ثم انقلبوا عليه حين انتفخت جيوبهم.
خانوا الهامش الذي باسمِه قاتلوا، وخانوا الوطن الذي رفعهم.
فكانت النتيجة أن اندلعت حرب 15 أبريل، لا لأن حميدتي تمرّد، بل لأنه تمسك بالاتفاق الإطاري الداعي لبناء الدولة، بينما اختار الآخرون خنق الحلم عند المهد.

ولذا، لا عجب أن تقول الجماهير اليوم:
لسنا أمام ثوار، بل تُجّار…
تجّار دماء ودموع ودمار.

وماذا بعد؟

في وطنٍ تمزّقه المصالح، وتختلط فيه شعارات الثورة بلغة السوق، يضيع الحلم بين مطرقة العسكر وسندان الطامعين.
لكن ما زال في هذا الوطن ما يستحق الحياة…
ما زال في الهامش نبضٌ لم يمت، وفي القرى البعيدة قلوب تنبض بالوطن لا بالمكاسب.

سيكتب التاريخ أن الثورة لم تمت، بل خُذلت،
وأن الحركات لم تُقصَ، بل باعت موقعها في الصف الوطني.

أما الشعوب، فذاكرتها طويلة…
تغفر أحيانًا، لكنها لا تنسى.
وسيأتي يومٌ تعود فيه الأيادي للصفقة من جديد،
لكن هذه المرة، لن تكون صفقات… بل مصافحات على وطنٍ جديد.

الهوامش:

[¹] تقارير الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية حول جرائم دارفور (2005–2020).
[²] “اتفاق جوبا للسلام” – الوثيقة الرسمية المنشورة في أكتوبر 2020، وُقعت بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة بوساطة جنوب السودان.
[³] أحداث 15 أبريل 2023، اندلاع الحرب المفتوحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بحسب بيانات رسمية من الجانبين وتقارير صحفية.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *