البرازيل وإفريقيا.. رحلة عبر الزمان والمكان

البرازيل وإفريقيا.. رحلة عبر الزمان والمكان
“إن المجتمعات الإفريقية في البرازيل ليست مجرد ظل للماضي، بل هي قوة حية دافقة لا تزال تُشكل هوية الأمة وثقافتها ومستقبلها.“
ليس اللقاء الحضاري بين البرازيل وإفريقيا مجرد فصلٍ سطرته أحداث التاريخ، بل هو ميراث أصيل ينبض بالحياة، ويُشكّل روح البرازيل الدافقة اليوم.
وقد أبرزت رحلتي الأخيرة إلى ريو دي جانيرو وبيلو هوريزونتي وأورو بريتو هذه الروابط بوضوح، كاشفةً عن روايات الماضي الخالدة وحيوية الثقافة الأفرو-برازيلية الدائمة.
وفقا لبيانات تعداد 2022، فإن 92.1 مليون برازيلي يُعرّفون أنفسهم على أنهم من أعراق مختلطة، أي ما يعادل 45.3% من السكان. كما أن نسبة من يُعرّفون أنفسهم على أنهم سود تصل إلى 10.2% من السكان (20.6 مليون نسمة)، أي أن السود وأصحاب الأعراق المختلطة يمثلون معًا 55.5٪ من إجمالي 203 مليون برازيلي هم كل سكان البلاد. وعليه تعد البرازيل أكبر دولة تسكنها مجتمعات من أصول إفريقية خارج إفريقيا.
من تجارة الرقيق إلى الهوية المشتركة:
تبدأ القصة في منتصف القرن السادس عشر، عندما لجأ المستعمرون البرتغاليون، بعد أن استنزفوا العمالة المحلية، إلى إفريقيا بحثًا عن العبيد. وبالفعل خلال الفترة من عام 1591 إلى عام 1866، تم تهريب ما يقرب من 4.9 مليون إفريقي مستعبد إلى البرازيل، وهو ما يقرب من 40% من تجارة الرقيق عبر الأطلسي بأكملها. وربما يمثل ذلك على الأقل أربعة أضعاف عدد العبيد الذين تم استقدامهم إلى الولايات المتحدة.
وقد غذت العمالة المستعبدة الصناعات الرئيسية في البرازيل، بما في ذلك إنتاج السكر، والتعدين في الذهب والماس، وإنتاج البن، والزراعة بشكل عام. وكما هو الحال في أجزاء أخرى من أمريكا اللاتينية، هرب الأفارقة الأرقاء في البرازيل وشكلوا مستوطنات أطلق عليها كيلومبوس. ولعل أشهر هذه المستوطنات بالميراس، التي كانت موجودة في معظم القرن السابع عشر.
كانت كيلومبو كبيرة نسبيًا ويبلغ عدد سكانها عدة آلاف من العبيد الهاربين والسكان الأصليين، وتشكل مجتمعًا بالغ التعقيد والتنظيم. وفي اوج قوتها، بلغ عدد سكان بالميراس 30 ألف شخص وامتدت عبر 11 قرية، واحتلت مساحة من الأرض بحجم البرتغال ذاتها.
كان زومبي، آخر ملوك بالميراس، أشهر زعيم لمقاومة العبيد البرازيليين الأفارقة. قاد الهجمات المضادة الأولية ضد القوات البرتغالية التي تحاول إخضاع الكيلومبو.
وعلى الرغم من الاستيلاء على المستوطنة في عام 1695 وقطع رأس زومبي، إلا أنه يمثل اليوم رمزًا قويًا للمقاومة ضد العبودية والحكم الاستعماري البرتغالي في البرازيل.
كما يواصل أحفاد البرازيليين الأفارقة الذين يعيشون في مستوطنات الكيلومبو النضال من أجل حقوقهم في أراضي أجدادهم. وفي عام 2018، مُنح مجتمع الكيلومبو سندات ملكية الأراضي بشكل رسمي في غابات الأمازون المطيرة.
إفريقيا الصغيرة في ريو دي جانيرو:
عند الوصول إلى ريو دي جانيرو، تتجلى أمام الرائي صورة إفريقيا على الفور. ولعل أبلغ تعبير عن هذا المشهد هو مجتمع “إفريقيا الصغيرة” في منطقة الموانئ (بيكينا أفريكا).
إذ أنه بعد حظر تجارة الرقيق عام 1831، أصبح هذا الحي ملاذًا للعبيد المحررين والهاربين، بالإضافة إلى الوافدين الجدد من باهيا والمناطق الداخلية.
هنا، أنشأ البرازيليون من أصل إفريقي مساحاتٍ للتواصل الاجتماعي والعبادة والتعبير الثقافي، ممهدين الطريق لرقصات السامبا والكاندومبليه وغيرها من التقاليد البرازيلية المميزة.
أثناء تجول الزائر في “ليتل أفريكا” اليوم، يشعر بلا شك بثقل التاريخ الذي تعبر عنه حجارة الشوارع تحت الأقدام وإيقاع الطبول في الهواء. وهكذا فإن منازل المنطقة ومطاعمها ومراكزها الدينية هي معالم حية للصمود. إنها مكانٌ تحوّلت فيه صدمة الهجرة القسرية إلى إبداع وتضامن -وهو ما يتضمن صورةٌ مصغّرةٌ للقاء البرازيل الأوسع مع إفريقيا.
أورو بريتو: أو الذهب الأسود
استمرت رحلتي إلى أورو بريتو، المدينة التي يكشف اسمها – “الذهب الأسود” – عن إرثها المزدوج من الثروة والمعاناة. في القرن الثامن عشر، كانت أورو بريتو مركزًا لتعدين الذهب البرازيلي، حيث تجاوز عدد سكانها عدد سكان نيويورك أو ريو دي جانيرو آنذاك، وكان معظمهم من العبيد الأفارقة.
وتشهد كنائس المدينة الباروكية ومنحوتاتها المعقدة وشوارعها وأزقتها المرصوفة بالحصى والحجر على جهودهم. تنساب أزقة أورو بريتو الضيقة كأنها شرايين تحمل في طياتها نبض التاريخ، تعلو وتهبط مع التضاريس الوعرة التي نحتتها حقبة الذهب الأسود.
فالحجارة المرصوفة، التي التصقت بها بقايا قرون من الأقدام الحافية والأحذية الجلدية، تكاد تصرخ بسردٍ صامت لتخبرنا عن عمال المناجم الذين سحقتهم حمى المعدن الأصفر، فيما تُظهر منحنيات البيوت الاستعمارية ذات النوافذ المزركشة والجدران الملونة، لوحات باروكية تحاكي تعرجات الجبال المحيطة.
وعلى الرغم من صعوبة التواصل باللغة البرتغالية السائدة فقد خففت عني الصديقة العزيزة غلاديس ليتشيني من جامعة روساريو الأرجنتينية أمر التواصل بالترجمة إلى اللغة الإنجليزية. فقد كان من حسن الطالع أن هذه الأستاذة المرموقة التي تمتد معرفتي بها إلى أكثر من عقدين من الزمان تجيد البرتغالية تحدثا وكتابة.
كما يقف متحف “كازا دوس كونتوس” شاهدا على تاريخ معقّد يتقاطع فيه الثراء الاستعماري مع معاناة العبيد الأفارقة. بُني هذا القصر في القرن الثامن عشر في قلب المدينة، وكان جزءًا من منظومة اقتصادية اعتمدت بشكل كبير على العمل القسري للعبيد الذين نُقلوا من إفريقيا.
ويستطيع الزائر ملاحظة الدور الذي قام به العبيد الأفارقة في بناء المدينة، من المناجم إلى العمارة إلى الحياة اليومية. وتُجسّد “كازا دوس كونتوس” هذا الواقع، ليس فقط من خلال فخامتها التي بُنيت بجهد هؤلاء العبيد، بل أيضًا من خلال القبو الحجري أسفل المبنى والذي كان يُستخدم كسجن لهم، ويُعدّ اليوم من أكثر أجزاء المبنى إثارة للمشاعر. لقد ذكرني هذا الموقع ببيت العبيد و باب اللاعودة في جزيرة غوري السنغالية التي زرتها منذ سنين خلت.
تحولت “كازا دوس كونتوس” اليوم إلى متحف ومركز ثقافي يعرض وثائق ومقتنيات من الحقبة الاستعمارية، لكنها تظل أيضًا مساحة للتأمل في الإرث العميق للعبودية، ولتسليط الضوء على الدور المحوري الذي لعبه الأفارقة في تشكيل هوية أورو بريتو وتاريخ البرازيل.
ومع ذلك لم تكن أورو بريتو فقط مكانًا للعبودية، بل كانت أيضًا مكانًا للمقاومة. ولعل من أبرز القصص المعروفة هناك قصة تشيكو ري، وهو رجل إفريقي تم استعباده، لكنه استطاع أن يشتري حريته، ويحرر آخرين معه، بل وأصبح فيما بعد مالكًا لأحد المناجم. قصته أصبحت جزءًا من تراث المدينة.
ولا شك أن تأثير الثقافة الإفريقية لا يزال واضحًا في أورو بريتو حتى اليوم. نراه في رقصة الكابويرا (Capoeira) وهي فن قتالي برازيلي ذو طابع راقص، يجمع بين عناصر القتال، والرقص، والموسيقى، والحركات البهلوانية، وفي مهرجانات الكونغودو(Congado) وهي احتفالات ثقافية-دينية أفرو-برازيلية، تجمع بين الموسيقى، والرقص، والطقوس الدينية.
ورغم مرور قرون من التهميش، لا تزال الثقافة الأفرو-برازيلية حية وموجودة بقوة، سواء في الاحتفالات، أو في شوارع المدينة القديمة التي أصبحت جزءًا من مواقع التراث العالمي.
صعود الأفروبرازيلية:
وعلى الرغم من أن البرازيل نالت استقلالها عن البرتغال عام 1822، فإن العبودية لم تُلغَ رسميًا إلا في عام 1888، عندما وقّعت الأميرة إيزابيل، وريثة العرش البرازيلي (القانون الذهبي). وبذلك أصبحت البرازيل آخر دولة في نصف الكرة الغربي تلغي العبودية.
وقد أدى العدد الكبير من الأشخاص المستعبدين الذين نُقلوا إلى البرازيل خلال حقبة تجارة الرقيق إلى تشكيل غالبية سكانية من السود والمنحدرين من أصل إفريقي. وفي ظل تصاعد الاتجاهات العنصرية في أواخر القرن التاسع عشر، سعت الحكومة البرازيلية إلى “إضفاء الطابع الأبيض” على التركيبة السكانية للبلاد، عبر تنفيذ سياسة ممنهجة تشجّع الهجرة الجماعية للأوروبيين البيض، خصوصًا من إيطاليا والبرتغال وإسبانيا. وعلى الرغم من أن هذه السياسة لم تقضِ على الوجود الأسود، إلا أنها عززت فكرة أن “البياض” يمثل الطموح الاجتماعي، وأن الزواج من شخص أبيض يعد وسيلة للارتقاء الطبقي.
وفي ظل التهميش التاريخي الذي عاناه الأفروبرازيليون بعد إلغاء العبودية، برزت عوامل حاسمة ساهمت في نهوض ثقافتهم.
1)- بدأ التحرك السياسي مع تأسيس “الجبهة السوداء البرازيلية في ثلاثينيات القرن العشرين، التي ركزت على تعزيز الوعي الاجتماعي ومحاربة التمييز عبر الصحافة والنشاط الميداني، مثل صحيفة “صوت العرق” (A Voz da Raça)، التي أشادت بإسهامات السود في بناء البرازيل.
2)- وفي الأربعينيات، حمل المسرح التجريبي للسود (Teatro Experimental do Negro) لواء المقاومة الثقافية، بقيادة عبدياس دو ناسيمنتو، عبر إنتاج أعمال فنية تستعيد الهوية الإفريقية وتفضح الصور النمطية العنصرية.
3) كما أن سياسات التصنيع والتحضر في عهد جيتوليو فارغاس (1930–1945) ساعدت في جمع شتات المجتمعات السوداء في المدن، مما عزز التضامن وخلق منصات للتعبئة الجماعية، رغم محاولات النظام استيعابها عبر تشريعات العمل التي استهدفت الطبقة العاملة دون التركيز على البُعد العرقي.
4) من ناحية أخرى، لعبت الجهود الرامية إلى تفكيك أسطورة الديمقراطية العرقية دورًا محوريًا في إعادة تعريف الهوية الأفروبرازيلية. فبعد عقود من سياسات “تبييض” المجتمع التي شجعت الهجرة الأوروبية، استعادت الحركات الثقافية مثل “كويلومبو (Quilombo) في الأربعينيات والخمسينيات التراث الإفريقي عبر الشعر والموسيقى، بينما كشفت بعض الأحداث العنصرية عن التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع، مما أدى إلى إقرار “قانون أفونسو أريانوس” المناهض للتمييز.
5) في السبعينيات، اتسع النشاط عبر “الحركة السوداء الموحدة” (MNU)، التي ربطت بين المطالب السياسية والهوية الثقافية، مدعومة بقوانين التعليم مثل القانون الذي صدر عام 2003 وأدرج التاريخ الأفروبرازيلي في المناهج الدراسية.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أن المتحف الأفرو برازيلي في ساو باولو يضم أكثر من 6000 عمل فني وتاريخي، ويعدّ الأكبر من نوعه في أمريكا اللاتينية، مخصصًا لتوثيق وتسليط الضوء على مساهمات البرازيليين من أصول أفريقية. ومنذ عام 1960، يُحتفل سنويًا بيوم الوعي الأسود في 20 نوفمبر تكريمًا لزومبي، أحد أبرز رموز المقاومة السوداء في تاريخ البرازيل.
ولعل من بين الشخصيات البرازيلية الإفريقية الشهيرة: أسطورة كرة القدم بيليه، والنجم رونالدينيو، والعالِم والسياسي عبد الله دو ناسيمنتو، والسياسية بينيديتا دا سيلفا، أول امرأة سوداء تُنتخب لعضوية مجلس الشيوخ البرازيلي.
وختامًا:
لا تزال العديد من التحديات مثل الفقر الممنهج وتراث الاستبعاد الاجتماعي تمثل عوائق أمام تحقيق المساواة الكاملة، مما يجعل النضال الثقافي والسياسي مستمرًا حتى اليوم. إن رحلة سفن الرقيق من لواندا عبر الأطلنطي إلى مدارس السامبا في ريو، ومن مناجم الذهب في أورو بريتو إلى شوارع بيلو هوريزونتي العصرية، تقف كلها شواهد على الروابط الراسخة بين البرازيل وإفريقيا. إنها قصة معاناة وصمود، وقمع وإبداع. ولا شك أن هذه الزيارة الميدانية قد أسهمت في تعميق فهمي لهذا الإرث المُعقّد، وجعلتني متفائلًا بأنه من خلال التذكير والتقدير، يُمكن للبرازيل أن تُواصل تحويل تاريخها المؤلم إلى مصدر فخر ووحدة.
هذا اللقاء الحضاري، المتجذر في مأساة تجارة العبيد، قد ازدهر ليصبح شيئًا فريدًا من نوعه – شهادة على قوة الذاكرة والمقاومة والاندماج الثقافي. ألم تصبح البرازيل قوة صاعدة في النظام الدولي اليوم وتمثل صوتا مسموعا في التجمعات الدولية مثل مجموعة العشرين و”البركس”؟ نحن بحاجة إلى استخدام هذا الميراث التاريخي لدعم الروابط بين دول الجنوب العالمي من أجل تأسيس نظام عالمي جديد أكثر عدالة وإنصافا.