دكتور الوليد مابو: الحرب السودانية .. غياب الرؤية العسكرية وانهيار التخطيط

18
دكتور الوليد مادبو

دكتور الوليد مادبو.

دكتور الوليد آدم مادبو

 

بعد دخولها عامها الثالث، تزداد الحرب السودانية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع عبثية وانفلاتًا. فبدلاً من تطورها نحو معادلة واضحة تسعى فيها الأطراف لحسم عسكري أو فرض شروط سياسية، ظلت الحرب تراوح مكانها، في دوائر من الكرّ والفرّ، والسيطرة المؤقتة، والاستنزاف المتبادل. هذا الركود الدموي لا يمكن تفسيره فقط بالتوازن الميداني، بل هو في جوهره نتيجة مباشرة لغياب التخطيط العسكري الاستراتيجي والتكتيكي، وانعدام البنية التي تُبنى عليها الحروب الحديثة.

 

لعلّ أول ما يلفت النظر هو غياب الهدف الاستراتيجي لدى كلا الطرفين. منذ بداية الحرب في 15 أبريل 2023، لم تُعلن القوات المسلحة عن خطة واضحة لاستعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم، أو إعادة تأهيل وحداتها القتالية لاسترداد المدن الكبرى. وحتى في المرات التي استهدفت فيها قواعد الدعم السريع، مثل الهجوم على قاعدة كرري أو المهندسين أو المدرعات، كانت العمليات تتم دون تنسيق متكامل بين وحدات مختلفة، ودون تمهيد استخباراتي دقيق أو خطة تعبوية تستند إلى حسابات واضحة. وغالبًا ما كانت تنتهي هذه العمليات إما بالفشل أو بخسائر كبيرة، بسبب الاعتماد على نمط هجومي مباشر يفتقر للمفاجأة، والتكتيك، والغطاء الناري الكافي.

 

في المقابل، اكتفى الدعم السريع بتكتيك التوسع الأفقي، بالسيطرة على أكبر عدد ممكن من المدن، دون أن يمتلك القدرة على إدارتها أو الدفاع عنها على المدى الطويل. السيطرة على مدني، ثم سنّار، ثم جبل موية، جرت كلها وفق نمط واحد: هجوم مباغت، انهيار أمني، ثم تمركز فوضوي لا يصمد كثيرًا أمام مقاومة محلية أو ضغط عملياتي مضاد. في كل هذه الحالات، غابت القدرة على تأسيس خط دفاع ثاني، أو بناء منظومة إمداد تحافظ على السيطرة، ما يجعل المدن التي تقع في قبضته قابلة للانهيار في أي لحظة.

 

فوق هذا كله، يظلّ غياب الهدف السياسي من أبرز ملامح عبثية هذا النزاع. إذ لم يسعَ أي من الطرفين إلى تشكيل حكومة فعلية منذ اللحظة الأولى، أو ترسيخ سلطة بديلة تعكس مشروعًا سياسيًا واضحًا. هذا الغموض المتعمد يفتح المجال لتدخلات إقليمية ودولية تُبقي السودان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات وسباق النفوذ.

 

أحد أبرز مظاهر غياب التخطيط العملياتي تمثّل في معركة الخرطوم نفسها، حيث دخل الطرفان في معركة طويلة داخل مدينة مكتظة بالمدنيين، دون وجود قواعد خلفية محصّنة أو خطط لإجلاء السكان أو حماية البنية التحتية. لم يسبق أن خيضت حرب بهذا الحجم وسط عاصمة دون مراعاة لأدنى معايير العمليات الحضرية. لم نرَ خطة للتطويق، أو لقطع خطوط الإمداد، أو لعزل مسارح العمليات. وبدلاً من أن تكون المعركة ذات مسار محدد، تحوّلت إلى حرب شوارع طويلة الأمد، تُستخدم فيها المدفعية الثقيلة داخل الأحياء السكنية، وتُخلى وتُعاد السيطرة على نفس المناطق مرارًا دون مكاسب استراتيجية تُذكر.

 

أما على مستوى القيادة والسيطرة، فقد كان الانقسام الإداري داخل المؤسسة العسكرية واضحًا. فبعد انطلاق الحرب، تبعثرت مراكز القرار بين هيئة الأركان في بورتسودان، والقيادة العامة في الخرطوم، وقادة المناطق العسكرية في الفاشر وكوستي. هذا التشتت جعل القوات المسلحة تتحرك وفق ردود أفعال وليس وفق خطة موحدة، ما أضعف قدرتها على المبادأة. ونفس الأمر ينطبق على الدعم السريع، حيث تفككت بنيته إلى مجموعات شبه مستقلة في دارفور، كردفان، والخرطوم، كلٌّ منها يخوض معركته بمعزل عن الأخرى، ويعتمد على الغنائم أكثر من اعتماده على خطوط إمداد منضبطة.

 

وتظهر هشاشة البنية القتالية في مشهد فقدان القوات المسلحة لمشاة فعّالين ومدرّبين، بعد توقف عمليات التجنيد والتدريب النظامي لسنوات طويلة. فحين اندلعت الحرب، اعتمد الجيش على وحدات مدرعة وسلاح الجو، دون قوة مشاة قادرة على تثبيت الأرض بعد الضربات الجوية، ما جعله يستعيد مناطق بسرعة ويفقدها بذات السرعة. وقد تكرّر هذا في محاور الخرطوم وأم درمان تحديدًا. أما الدعم السريع، فقد اعتمد على كثافة المقاتلين، ولكن دون أي تدريب على قتال المدن أو التعامل مع الخطوط الدفاعية، ما جعله يخسر المئات في معارك استنزاف عشوائية، كما حدث في معركة طيبة الحسناب، وشرق النيل.

 

غياب منظومة الإمداد كان كارثيًا على الطرفين. فالمعارك لا تُحسم بالشجاعة فقط، بل بالوقود، الذخيرة، الإجلاء الطبي، والغذاء. في الفاشر مثلاً، بقيت القوات المشتركة لأشهر مُحاصرة دون أن تستطيع القوات المسلحة إيصال مؤن أو ذخيرة إليها من مناطق سيطرتها الأخرى، مما أدى إلى تآكلها التدريجي. وعلى ذات النسق، أُجبرت وحدات من الجيش في جنوب الخرطوم على الانسحاب مرارًا نتيجة انقطاع خطوط الإمداد من الجزيرة والنيل الأبيض، بسبب السيطرة النسبية للدعم السريع على طرق النقل البري.

 

تُختتم هذه الفوضى بانعدام تام للانضباط الأخلاقي والعملياتي. فالحرب خرجت سريعًا من أيدي القادة الميدانيين، وأصبحت تُدار بمنطق إعلامي وقبلي، أكثر مما تُدار بمنطق عسكري احترافي. ظهرت جبهات تدار بعناصر عشائرية أو مليشيات محلية، كما حدث في غرب كردفان وجنوب دارفور، حيث أُديرت المعارك بالتحالفات اللحظية، دون انضباط عسكري أو أهداف واضحة. هذه الانزلاقات حولت الحرب إلى حرب أهلية مركّبة، متعددة الأطراف والولاءات، لا يمكن لأي طرف أن يحسمها أو يديرها دون تكلفة وطنية فادحة.

 

ختامًا، إن ما ينقص هذه الحرب ليس السلاح، بل الرؤية. ليست المسألة في التفوق العددي أو النوعي، بل في وجود قيادة تفكر على المدى المتوسط، وتخطط لكل مرحلة، وتربط بين السياسة والميدان، وتحترم حياة المدنيين. فالحسم لا يتم بالمدافع ولا بالبيانات الحماسية، بل بإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أسس علمية ومهنية، وبوضع نهاية لمسار الفوضى — حالة أشبه بإقطاعيات يديرها أمراء حرب، الأمر الذي لا يؤدي إلا إلى خراب شامل وانهيار ما تبقى من الوطن.

 

وإن كان غياب التخطيط سببًا في إطالة أمد المعركة، فإن غياب الهدف السياسي هو ما يجعلها بلا نهاية، ويحوّل السودان إلى فراغ استراتيجي مفتوح على كل احتمالات التفكك والتدويل والانهيار.

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *