حاتم الياس: دِفَاعًا عَنْ مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ أَمْ دِفَاعًا عَنْ مُؤَسَّسَاتِ الطَّبَقَةِ؟

25
حاتم الياس

من أكثر الأطروحات الآن في الخطاب السياسي للحرب، التي تحمل قدراً عالياً من الكثافة الأيديولوجية، هو الحديث عن الدفاع عن الدولة ومؤسسات الدولة لتبرير التحشيد والتعبئة للجيش (واقع الأمر للجهة التي تحاول أن تعيد تشكيل الجيش بما يتلاءم مع مشروعها السياسي).

فكرة الدفاع عن الدولة ومؤسسات الدولة ضد غزو الدعم السريع التشادي النيجري وعرب الشتات ، تحيلك إلى صورة غرائبية جداً عن جهاز الدولة، مناسبة للغاية لأفلام الخيال العلمي. وكأنك تدخل إلى إحدى مؤسسات الدولة، فتقوم الطرابيز والدواليب والكراسي الفارغة تماماً بإنجاز معاملتك، ثم تخرج شاكراً للفراغ الأمين والمثابر خلفك، وأنت تثني على براعة الأشياء وحرصها!

الماكر في خطاب الدفاع عن الدولة ومؤسساتها، يُحيلك ايضا وبشكل ساخر جداً إلى عربة الترحيل التي تأتي صباحاً لتقل الموظفين إلى أماكن عملهم، حيث دولاب العمل الروتيني والبيروقراطي يتحرك يومياً نحو غاياته “الطبيعية”. وللطرافة أكثر، فإن الحالة الطبيعية، كما في فكر  فلسفة الأنوار، تتلاءم بشكل كامل مع خطاب وبرولقاندا  “مؤسسات الدولة التي يُراد أن يُدافع عنها”، حيث يبدو أنها جهاز ومؤسسات دولة تنتمي إلى طبيعة الأشياء: فمثلما هنالك شجرة لبخ قديمة في شارع النيل، هنالك وزارة ثروة حيوانية أو مؤسسة طرق وكباري. الفرق بينهما أن اللبخة تتغذى بعروقها من باطن الأرض، ومؤسسات الدولة وجهازها تتغذى من باطن الطبقة الاجتماعية . (عجبني الوصف هنا وكنت أدّخره لبوست أخر).

رغم أن لويس ألتوسير هو أعظم من كتب عن الطبيعة الأيديولوجية في كتابه “أجهزة الدولة الأيديولوجية” (إن كنت أسعفتني الذاكرة)، ورأى السلطة الأيديولوجية المبثوثة في المؤسسات المختلفة للدولة كلها تتراصف في تشييد البناء الايدلوجي  للسلطة كحالة احتكار للمعنى واحتكار للسلطة معا ، ثم جاء بعده ميشيل فوكو (ليُزرزر) السلطة في السجن، والمشفى، والعيادة النفسية، وحتى في خطاب الجنون؛ حتى إنك لتساورك شكوك بعد أن تكمل قراءة فوكو في ذرات الهواء من حولك معباءة باوكسجين السلطة . وفوكو مناسب جدا كمنهج لحربنا هذي

عليه، بالمختصر، الحديث عن مؤسسات الدولة وأجهزتها، يُحاول أن يُضفي قداسة وطنية، مع سعي حثيث للتكثيف الرمزي لكل الرمزيات والأيقونات؛ ربما ستجد فيها نشيداً أو كبري توتي  أو حتى برج القذافي، كله يمكن أن يُصبح لُقْية وجدانية ووطنية يرج مشروبها الوطني المسكر .

فقط، يبقى السؤال الذي يختفي خلف “مؤسسات الدولة” و”الدفاع عنها”، وقد حلّ ببراعة لا تتوفر حتى للاعب حريف مثل ميسي محل “الدفاع عن شريعة الله”! يتنازل عن الدفاع عن السماء والقداسة، للدفاع عن مؤسسات الدولة، حتى لكأنك تتساءل: ماذا حدث للسماء؟ لكن ربما سيأتيك الرد: السماء، والدين، والملائكة، ومؤسسات الدولة، التي تتعرض الآن لهجمة واااحدة… بالله شوف التضليل الأيديولوجي ده كيف! من الدفاع عن السماء وشريعتها للدفاع عن مؤسسات الدولة في الأرض.

لكن السؤال المهم: عن ماذا كانت تعبّر مؤسسات الدولة؟ وما المشروع الاجتماعي والسياسي الذي تمثله وسعت لأن تُكوّنه منذ لحظة “السودنة”، حينما نال جنوب السودان ٤٪ من وظائف السودنة التي تركها الإنجليز، إلى آخر “تمكين” الذي قُدِّم للعمل “بشهادة القوي الأمين”؟

يبقى المهم، والذي يحتاج لتفكيك قبل ما “تخُمّنا” بمعركة الكرامة والدفاع عن مؤسسات الدولة، هو الفصل الضروري بين فظائع الحرب المادية، التي لا ينكرها أحد، ومن “الدعم السريع” ذاته عشان ماتختني في حتت دفاع مجاني وتضيع لي  مضمون المكتوب! ، وبين خطاب الحرب الراهن  المتبنى، الذي يُحاول أن يفصل بين “مؤسسات الدولة” والطبقة المستفيدة التي تُدير جهاز الدولة، والتي ترفع الآن راية الحرب والقتال، بالفعل دفاعاً عن الدولة ومؤسساتها ولكان الدولة تحولت إلى كيان برئ محايد يقف على سلامة وآمن المجتمع الذي تدير شؤونه

لكن يبقى السؤال : أي دولة هنا ؟ بالتأكيد  عن الدولة ومؤسساتها التي تُعبّر عن مصالح الطبقة الاجتماعية والسياسية التي تنتج خطاب الحرب نفسه في الواقع هي تدافع عن نفسها عبر القول بأنها تدافع عن مؤسسات الدولة .

 

 

انوه ان المكتوب أعلاه لاتصلح معه المداخلات الهتافية

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *