إلغاء قمة واشنطن الرباعية حول السودان .. ما التفاصيل؟

وكالات – بلو نيوز الاخبارية
بصيص أمل لاح في الأفق السوداني مع الدعوة لقمة رباعية في واشنطن، تجمع قوى إقليمية ودولية فاعلة، علّها تضيء دروب السلام المفقود. بيد أن هذا الأمل سرعان ما تلاشى، إذ أُجل الاجتماع الحاسِم في اللحظة الأخيرة، ليكشف عن شروخ عميقة وتضارب مصالح خفية بين اللاعبين الإقليميين، ما يؤكد أن جراح السودان أعمق من أن تداويها مبادرات خجولة، وأن طريقه نحو السكينة محفوف بألغام المصالح المتشابكة التي تُغذي نيران حرب بالوكالة، وتهدد بتقطيع أوصال بلد عظيم. فما الأسباب؟
تأجيل بلا توقيت
في تطور دبلوماسي لافت، أُجل اجتماع وزاري حاسم كان يُنتظر أن يجمع الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر لمناقشة الأزمة السودانية بناء على دعوة واشنطون، وذلك إثر خلاف وصف بالحاد حول صياغة البيان المشترك النهائي.
هذا التأجيل، الذي كشف عنه مصدران دبلوماسيان لوكالة فرانس برس، سلط الضوء بوضوح على عمق الانقسامات وتضارب المصالح بين القُوَى الإقليمية الفاعلة، مما يُلقي بظلاله على جهود إحلال السلام في السودان الذي تمزقه الحرب، وهو ما تأكد بمجرد تشكيل هذه الرباعية، التي عكست إدراك واشنطن بأن القوى الإقليمية المعنية ليست مجرد وسطاء محتملين، بل لاعبون مؤثرون بعمق في مجريات الصراع، قادرون على تأجيجه أو إخماده.
تفاصيل الإلغاء
تباينت الروايات حول الأسباب المباشرة لإلغاء اجتماع الرباعية.
فمن جانب، تشير مصادر دبلوماسية مطلعة إلى أن الإلغاء جاء نتيجة رفض مصري حازم لمقترح أمريكي يدعو إلى إطلاق مرحلة انتقالية سياسية تُستثنى منها طرفا النزاع المباشرين – الجيش وقوات الدعم السريع – في محاولة لصياغة تسوية تقودها شخصيات مدنية محايدة برعاية دولية.
وطبقا لمتابعات “راينو” فإن الرفض المصري جاء استنادًا على علاقاتها الوثيقة والراسخة مع المؤسسة العسكرية الحاكمة في السودان، فاعترضت على هذا المقترح واعتبرته “استهدافاً غير مباشر لحلفائها العسكريين في السودان”.
وأكد دبلوماسي عربي لوكالة فرانس برس، مفضلاً عدم ذكر اسمه، أن الاجتماع أُلغي بسبب “خلاف لم يُحل” حول البيان المشترك النهائي. كما أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أن القاهرة تعتبر “الحفاظ على مؤسسات السودان الوطنية” أمرًا في غاية الأهمية والاستراتيجية.
هذا التباين الجوهري في الرؤى بين مصر والولايات المتحدة حول مستقبل السودان يجعل بناء التوافق أمرًا بالغ الصعوبة، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى انتقال بقيادة مدنية شاملة، بينما تمنح مصر الأولوية لهيكل يهيمن عليه الجيش، باعتباره الشريك الأكثر موثوقية لمصالحها الأمنية والاقتصادية.
الروايت الخرى لم تذهب بعيدا عن تعكير القاهرة لصفو الاجتماع ووقوفها مانعا أمام قيامه، حيث فسرت الروايات تأجيل الاجتماع، بالخلاف بين مصر والإمارات حول البيان الختامي. وذكر مصدر دبلوماسي عربي لـ فرانس برس أن الإمارات أدخلت “تعديلاً في اللحظة الأخيرة” ليشمل “عدم وجود للجيش وقوات الدعم السريع في العملية الانتقالية المستقبلية”، وهو ما وصفه المصدر بأنه “غير مقبول على الإطلاق” بالنسبة لمصر.
في المقابل، ذكر مصدر آخر مقرب من المفاوضات أن الولايات المتحدة عممت مسودة وافق عليها الجميع، بما في ذلك الإمارات، لكن مصر لم تقبل الجزء الذي ينص على “عدم سيطرة أي من الأطراف المتحاربة على الفترة الانتقالية”.
من لندن يرى المحلل السياسي إيهاب محمد الحسن في حديثه لـ”راينو” أن المشهد يشير إلى درجة عالية من المناورة الاستراتيجية وانعدام الثقة بين أعضاء الرباعية، حيث يمكن أن يكون التعديل الإماراتي لمنع توافق قد لا يخدم مصالحها بالكامل، خاصة إذا كان هذا التوافق يؤيد ضمنياً الدور المستمر للجيش أو خارطة طريق لا تتحكم فيها الإمارات.
في ذات السياق، وجه رئيس تحرير صحيفة السوداني عطاف محمد مختار، اتهامًا مباشرًا إلى الإمارات بأنها من عطّلت اجتماعات الرباعية في أمريكا. ووفقًا لعطاف، كان هناك اتفاق أبرمته الرباعية يقضي بعدم قيام الدعم السريع وظهيرها السياسي “تأسيس” بإعلان أي حكومة، تفاديًا لتفاقم الأوضاع.
ويزعم عطاف أن الإمارات “نقضت هذا الاتفاق، وحثّت الدعم السريع لتسريع إعلان حكومتهم، لتسافر إلى واشنطن وهي تحمل ألغامًا تُفجّر الاجتماع، بهدف استمرار الحرب”.
دون أن يشرح وجه استفادة الدعم السريع من استمرار هذه الحرب.
عمليا استبقت قوات الدعم السريع الاجتماع، وأعلنت مع حلفائها في تأسيس عن تشكيل حكومة موازية في المناطق التي تسيطر عليها قبل أيام قليلة من اجتماع الرباعية، وهي خطوة يرى عطاف أنها “كان بالإمكان ألا يقدم عليها الدعم السريع دون مباركة من بعض الدول، لأنها تعقد من المشهد أو أي رؤية لحل الأزمة وتهدد وحدة البلاد”.
تحليلات أخرى دعمت وجهت نظر عطاف وترى أنه إذا صحت هذه المزاعم، فإن إعلان هذه الحكومة الموازية، بدعم خارجي محتمل، يهدف إلى رفع مكانة الدعم السريع من قوة شبه عسكرية إلى “فاعل دولة”، مما يمنحها نفوذًا أكبر في أي مفاوضات مستقبلية وربما يضفي الشرعية على سيطرتها على المناطق الغنية بالموارد، ويرى أنصار تلك الرؤية أن هذا يتعارض بشكل مباشر مع الهدف المعلن للرباعية المتمثل في انتقال سياسي موحد، ويضمن فعلياً استمرار النزاع من خلال ترسيخ سلطتين متنافستين.
المصالح الإقليمية المتضاربة
وبحسب متابعات “راينو” في تفسير مواقف دول الرباعية تجاه أطراف الحرب في السودان، فإن سياسات مصر تجاه السودان تفسر من منطلق رؤيتها في النظام العسكري الحالي “الضامن الوحيد لمصالح القاهرة الأمنية والاقتصادية”. ويرى إيهاب الحسن أن هذه الرؤية تنبع من اعتبارات استراتيجية عميقة تتعلق بأمن حدودها الطويلة مع السودان ومكافحة التهديدات الإرهابية المحتملة. وأضاف: “اقتصاديًا، تهتم القاهرة بضمان حصتها من مياه النيل، خاصة في سياق الخلافات المستمرة حول سد النهضة الإثيوبي الذي أعلنت إثيوبيا عن افتتاحه رسميًا في سبتمبر القادم، مما يزيد من حساسية هذه القضية بالنسبة لمصر. فضلًا عن أن مخاوف مصر تتجاوز الجانب الأمني والاقتصادي لتشمل الجانب السياسي، فالقاهرة لديها مخاوف من أن الديمقراطية في السودان يمكن أن تنتشر إلى مصر، مما يهدد استقرار نظامها العسكري القائم”.
في المقابل، بحسب إيهاب، تُعد الإمارات العربية المتحدة الموصوفة بالداعم الرئيس لقوات الدعم السريع، وتستفيد بشكل كبير من المصالح الاقتصادية الواسعة في السودان، بما في ذلك قطاع الذهب، حيث تُعد الإمارات المشتري الرئيسي للذهب السوداني. كما أن السودان يُنظر إليه على أنه “سلة غذاء” للإمارات التي تستورد 90% من غذائها، مما يجعل الاستثمار في الأراضي الزراعية السودانية أولوية قصوى لأبوظبي. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الإمارات للسيطرة على الموانئ الاستراتيجية على البحر الأحمر، مثل ميناء أبو عمامة، لتعزيز نفوذها التجاري والجيوسياسي في المنطقة. وأضاف: يرى البعض أن الإمارات مهيمنة بشكل كبير على البنية التحتية المالية السودانية من خلال البنوك الإماراتية التي سهلت التحويلات المرتبطة بعائدات الذهب”.
وعلى النقيض من الإمارات، يرى الحسن أن المملكة العربية السعودية تدعم الجيش بقيادة البرهان. وقال: “تعود جذور هذه العلاقة إلى مشاركة القوات السودانية، بقيادة البرهان، في التحالف الذي تقوده السعودية في حرب اليمن، حيث نسجت الرياض علاقات قوية مع القيادة العسكرية السودانية، لذا يُنظر إلى الصراع في السودان بشكل متزايد على أنه حرب بالوكالة بين السعودية والإمارات، اللتين تتنافسان على النفوذ الإقليمي في أفريقيا. ويغذى هذا التنافس أيضاً اختلاف وجهات النظر حول الحركات الإسلامية، فالسعودية أكثر تساهلًا أو حتى داعمة لبعضها، بينما تعتبر الإمارات الجماعات الإسلامية تهديدًا لاستقرارها، بالإضافة إلى المنافسة الاقتصادية”.
تشابك وتعقيدات
كثيرون يرون أنه لا يمكن فهم تعقيدات الأزمة السودانية بمعزل عن التقاطعات الداخلية المتشابكة بشكل وثيق مع التدخلات الإقليمية، مما يخلق بيئة يصعب فيها تحقيق أي حلول مستدامة، أو نجاح للمبادرات المطروحة.
ويرى المحلل السياسي الرشيد حسب الرسول في حديثه لـ”راينو” أن “غياب الإرادة الوطنية يلتقي مع غياب الإرادة الإقليمية لإنهاء الحرب في السودان”. وقال: “عقد الكثير من السودانيين آمالهم وتطلعاتهم في إيقاف الحرب ووضع حد لمعاناتهم عبر اجتماع ومبادرة الرباعية بقيادة (أمريكا، السعودية، مصر، الإمارات) الذي كان مقررًا له حسب ما راج إعلامياً نهاية يوليو الجاري، وكما راج إعلامياً أنه تأجل لموعد لم يحدد ولا عن أسباب الإلغاء”.
واعتبر حسب الرسول أن فشل إيجاد حلول ليس فقط لغياب الإرادة بل أيضًا لوجود تعقيدات داخلية أهمها الحركة الإسلامية التي تقف حجر العثرة أمام أي مبادرة أو رؤية لإيقاف الحرب لأنها صاحبة المصلحة الحقيقة في إشعالها واستمراريتها بهدف خلط الأوراق والعودة للسلطة مجدداً. وقال: “أعتقد أن هناك العديد من الشواهد التي كانت تؤشر لعدم رغبة المجتمع الدولي ودول الإقليم في إيقاف الحرب، مثل إقدام الدعم السريع على إعلان حكومته قبل أيام، وهي الخطوة التي كان بالإمكان ألا يقدم عليها دون مباركة من بعض الدول لأنها تعقد من المشهد أو أي رؤية لحل الأزمة وتهدد وحدة البلاد. كذلك كان بالإمكان ألا يقدم عليها إذ كان هناك فعليًا مبادرة حقيقية من أطراف الرباعية أو رغبة صادقة في إنهاء الحرب”. وتابع: “كذلك ليس هناك أي بوادر لإنهاء الحرب بضغط دولي في الفترة الحالية مطروح على الطاولة، خصوصاً في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة ودون الخوض في تفاصيلها لكن يظل أهمها والذي يشكل السودان فيه دورًا محوريًا ما يتعلق بسد النهضة الذي أعلنت إثيوبيا بشكل رسمي افتتاحه في سبتمبر القادم، وهو ما يجعل دول بعينها تحرص على عدم استقرار السودان حتى ذلك التاريخ”. وأكد حسب الرسول أنه في خضم كل هذه الأحداث “تطل الحقيقة في أن أي مشروع لإيقاف الحرب في السودان لا يستند على إرادة وطنية حقيقية عبر جبهة شعبية عريضة رافضة للحرب في حدها الأدنى لبرنامجها المطروح، هو حل فوقي لن يوقف الحرب ولا يحقق للسودانيين على الأقل وحدة بلادهم وسيادة أراضيها”.
تداعيات الإلغاء على التسوية
الوقائع تشير إلى أن لإلغاء قمة واشنطن الرباعية تداعيات خطيرة على جهود التسوية الدولية ومستقبل السودان، حيث تكشف عن عمق الانقسامات وعرقلت مسارات الحل بشكل لافت. ويرى المحلل السياسي عمر سفيان سالم في حديثه لـ”راينو” أنه “من خلال تمسكها بخيار العسكر في السودان، تضعف مصر فرص الحلول التوافقية الدولية وتُعرقل المساعي لبناء نموذج انتقال سلمي شامل”. وتابع: “إن رفض القاهرة لمقترح استبعاد الأطراف العسكرية من المرحلة الانتقالية، على الرغم من موافقة السعودية والإمارات على مناقشة الأمر والتوافق عليه، أطاح فعليًا بجهود الرباعية الدولية وعرقل ما كان يُعتبر محاولة مهمة لبناء توافق بين الدول الأربع بشأن تسوية النزاع. هذا التمسك بالخيار العسكري يقلل من احتمالات التوصل إلى حلول مقبولة دولياً ويزيد من تعقيد أي عملية انتقالية مستقبلية”.
واعتبر سفيان أن ما حدث “يسلط الأزمة الضوء على فشل الرؤية الغربية الموحدة لما بعد الانقلابات العسكرية، وتُعيد طرح التساؤل حول جدوى تدخلاته المتناقضة في شؤون القارة. فبينما تدعو الولايات المتحدة إلى انتقال مدني وتهميش الأطراف العسكرية، فإن حلفاءها الإقليميين يتبنون مواقف متضاربة، مما يعكس عدم وجود استراتيجية غربية متماسكة للتعامل مع الأزمات التي تنشأ عن الانقلابات وتأثيرها على الديمقراطية. وتابع:”هذا التضارب يقلل من مصداقية الجهود الدولية ويترك فراغًا يمكن للقوى الإقليمية أن تملأه وفقًا لمصالحها الخاصة”. وأضاف: “تُعد قدرة الرباعية على تحقيق التوافق معرقلة بشدة عندما يكون اثنان من أعضائها الرئيسيين (السعودية والإمارات) منخرطين بنشاط في صراع بالوكالة داخل السودان. هذا يجعلهم جزءًا من المشكلة بدلًا من أن يكونوا جزءًا من الحل فقط. إن هذه الصراعات والتفاعلات بالوكالة تعني أنه حتى لو تم التفاوض على وقف إطلاق نار محلي، فمن غير المرجح أن يصمد ما لم يتم معالجة المنافسة الإقليمية الأساسية. كما أن الخلافات حول من يمثل الأطراف السودانية في أي عملية سلام (مثل رؤية مصر لـ’أمل’ ورؤية الإمارات لـ’تأسيس’) تزيد من تعقيد المشهد وتجعل أي اتفاق وقف إطلاق نار عرضة للانهيار”.
نقلا عن وكالة راينو