لا تسقظ وحدك يا (عمسيب) .. انت ذهنية ولست فرداً
أ. يوسف عزت
لست متفقاً معك يا (عبد الرحمن عمسيب) في ما ظللت تطرحه من آراء وأفكار، وقد تعرفت على صفحتك بموقع (فيسبوك) بواسطة أحد أصدقائك.وأكتب لك اليوم ليس إعجاباً بما كتبته وتكتبه، بل تقديراً للوضوح الذي تميزت به، وتبنيك علنًا لفكرة ( دولة البحر والنهر) كحل أمام (الشماليين) الذين ظلت جرائم الدولة تحاصرهم دوماً، وهي ترتكبها باسمهم، والذين ظلوا يدفعون ثمن ممارسات النخبة التي تقتل وتنتهك حقوق الآخرين باسمهم، حفاظاً على امتيازاتها المتحققة في الخرطوم، والمتمثلة في شركات وبنوك وسيارات فارهة وقصور .. الخ، بينما فقراء الريف في الشمال يعيشون الفاقة وضنك العيش، ليس لهم نصيب من ذلك الامتياز التاريخي الذي يمارس باسمهم، سوى التفاخر الزائف بالحكم والسلطة والجاه، وممارسة طقوس الفولكلور المصاحب له نثراً وشعراً وتغني، يعبرون عنه من خلال (العرضة)، وترديد الأغنيات التي ترفع قدرهم عن من سواهم من بقية شعوب السودان ( نحن أولاد بلد نقعد نقيف على كيفنا)، ليعودوا بعدها إلى ديارهم المظلمة ومواجهة الحقيقة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء سائلين الله السلامة والنجاة من لدغات العقارب السامة!
وشخصيًا أظنك يا (عمسيب) من الفئة الأخيرة، التي لم تجني من سياسة التميز والاحتكار الشمالي للوطن سوى المفاخرة والتعالي والإحساس الزائف بالتفوق والتميز عن بقية الشعوب السودانية، خصوصًا وقد عرفت مؤخراً انك (مغترب)، مثلك مثل بقية الملايين من الشباب السوداني الذين خرجوا – بل أخرجوا- من البلاد بعد أن ضاقت عليهم وهي رحيبة، فهاجروا
إلى أرض الله الواسعة، بعضهم خرجوا بإقامات عمل لتربية المواشي وهم يحملون أعلى الدرجات العملية، وبعضهم عبر البحر ليصبحوا وليمة لحيتان البحر الأبيض المتوسط، ومن وضع منهم أقدامه في أرض أوروبا، تجده يعمل في المهن الهامشية، بحثاً عن تحقيق أحلام خاصة وبسيطة، سرقها منهم اللصوص، تارة باسم الدين، وأخرى باسم الامتيازات التاريخية والقرابات الأسرية الخاصة، ودائماً باسم (الشمال) الذي تعبر أنت باسمه، وعلى طريقتك!وبما إنك شاب سوداني شريف ولديك أفكار عنصرية أختلف معها من حيث المبدأ، لكن اختلافي مع أفكارك مهما كانت حدته، فلن يمنعني قطعًا من مخاطبتك، وما دفعني إلى ذلك حقيقة ما اقرأه وأسمعه عنك، واتهام الناس لك بالعنصرية. وشخصياً لا أختلف مع من يتهمونك بالعنصرية، فأنت كذلك، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل أنت وحدك العنصري؟ أم أنت العنصري الواضح الذي يجب مناقشته، وعبرك تتم مناقشة تيار عريض يختبئ خلف شعارات خداعة، لا يملكون شجاعة المواجهة والإفصاح عن مكنون النفس مثلك، مع إنهم يتفقون معك شكلاً وموضوعاً، بل يفوقونك قدرة في تحويل هذه الأفكار ووضعها موضع التنفيذ على أرض الواقع، كذلك هم أكثر خطورة منك لأنهم يمتلكون أدوات العنف، فماذا تملك أنت سوى (صفحة فيسبوك) وربما مساحة ضيقة أخرى على منصة (X)؟!
أصدقك القول، إن ما تكتبه على صفحتك سبق وسمعته شخصياً من شخصيات قيادية يمينية ويسارية وليبرالية، وحتى من بعض الذين يطرحون أنفسهم كنخب ومفكرين للمشروع الوطني السوداني! وأما (الكيزان)، فعنصريتهم معلنة ومعلومة، وما أنت إلا ثمرة من ثمار محصولهم، وقد سمموا أفكار المئات بل الآلاف من الشباب. وهنا تستحضرني حكاية حدثت معي جديرة بأن تروى في هذا المقام، حيث كنت في زيارة إلى السودان في العام 2012، وقمت بتأجير شقة مفروشة في منطقة (الخرطوم 2)، وعلى مدخل البناية كان يجلس في الأمسيات بعض الشباب صغار السن، أحييهم ويحيونني، وحدث ذات مرة أن استوقفوني على باب العمارة ليسألوني: (عمو أنت جنسك شنو؟) فادركت حينها ان أبناء القبائل الجبهجية الذين سطوا على الحكم باسم الإسلام قد نقلوا سؤال الريف البعيد إلى قلب العاصمة، وأنا ابن بادية، أتفهم طبيعة وعادية السؤال في الأرياف البعيدة بحكم تركيبة المجتمعات القبلية، وسطوة القبيلة التي حلت محل الدولة في غيابها المطلق، لكني لم أتوقع مطلقاً أن يطل أمامي سؤال القبيلة من باب عمارة تقع في منطقة تعتبر من أكثر المناطق الحضرية في العاصمة، بل في السودان برمته. ومن شباب لم يبلغوا العشرين من أعمارهم، وفي عصر العولمة!!
جميعنا تضرر من تجربة الإسلام السياسي في السودان، وجميعنا تذوقنا مرارتها وعنفها العنصري بطريقة أو أخرى، ومهما وصلت من غلو في العنصرية فأنت لا تقارن بأمثال (الطيب مصطفى) و(نافع علي نافع) ، وآخرين يطول المقال لحصرهم، وقد كانوا أكثر جرأة ووضوحاً، بل أكثر عنجهية وكراهية منك، وقد وصلت حدود عنصريتهم إلى خطاب الدولة وفي قمتها، حد ان (البشير) رئيس نظامهم كان يرى بان اغتصاب المرأة (الدارفورية) من قبل ابناء قبيلة (شمالية) أسماها، ما هو إلا (شرف) لها، شهد بهذا الحديث وقاله عرابهم ومؤسس نظامهم الإجرامي (الترابي) صانع كل الكوارث الوطنية ، ما تقدم منها وما تأخر !
ورغم ذلك الحديث بالغ الخطورة والذي تترتب عليه الكثير من الأشياء لم نقرأ بيان استنكار من الأحزاب السياسية، تقدمية كانت أو يمينية، أو قضية جنائية تم رفعها من المحامين أو المنظمات الحقوقية السودانية، أو المدافعات عن حقوق المرأة! قلت لك أنت لست وحدك يا عمسيب، فعنف الدولة والاغتصاب يستند على عقلية تحولت إلى دولة بكل مؤسساتها العسكرية والمدنية، ترى في الآخرين وأرواحهم مجرد (حشرات) قتلهم وسحقهم يتم بقرارات تصدر من اجتماعات رسمية دون أن يرمش لمصدري تلك القرارات جفن، ويشعرون بإن ما يقومون به من الإمور الطبيعية.
وإن وصلت لمركز القرار مثلهم، ستمارس ما يمارسون براحة ضمير كاملة، وفي حالة عجزك عن الوصول للسلطة أو تراجعت وحوصرت سلطتك التي تراها تعبر عنك، لاشك أنك سترى الحل في تأسيس دولتك الخاصة (دولة البحر والنهر) بدون أن يعكر صفوها (الغرابة أو العبيد)، والأشياء في مثل هذا الوقت يجب أن تسمى كما هي يا عمسيب، فـ(زمن الغطغطة والدسديس) قد ولى – كما قال القائد محمد حمدان دقلو – لأنك وأمثالك، وهم كُثر، ليس لديكم من حلول لإدارة التنوع في هذا الوطن العملاق، فإما أن تخضعوا الناس وتحكموهم بقوة السلاح وهم صاغرين، أو أن تذهبوا لحكم أنفسكم بعيداً من الذين تعتبرهم، ومن معك، أقل درجة منك وأدنى منزلة اجتماعية. وما قاله (البشير) عن شرف (الغرابية) لا يختلف عن ما تقوله أنت، وخطورة حديثه لا تتوقف عليكم وحدكم، بل تتعدى ذلك، لتشمل آخرين قد لا يتفقوا معكم من أبناء تلك القبيلة التي ذكرها (البشير)، يعرفهم أهل الغرب كتجار وموظفين، وعاشوا بينهم كجلابة، ولم يروا منهم إلا كل تقدير واحترام، بل صاروا جزءً من نسيج الغرب الاجتماعي. ولولا الحروب واللغة الجارحة والعنتريات التي أشعلتها حكومة (الإنقاذ)، وما يواصل التعبير عنها أمثالك اليوم، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، فعقلية التعالي العرقي التي تحملونها قادت وتقود لحروب ومن بينها الحرب الراهنة التي دفع ثمنها شعب السودان في كل مكان.
السيد عمسيب، أنت لست وحدك أيضاً في التاريخ الإنساني، والهجوم الذي تتعرض له اليوم، فقط لأنك أوضحهم تعبيراً والأعلى صوتاً والأكثر جرأة وبجاحة في التعبير عن التعالي والعنصرية، إذ أن بعض السياسيين من الوسط الذي أنت منه يحملون عقليتك، وهم ربما الأغلبية وسط السياسيين والمثقفين، لكنهم يستطيعون تغليف ذات القناعات التي تعبر عنها أنت، ولكن بلغة سياسية وثقافية، ومصطلحات أكثر تهذيباً وحياءً، واضح انك لا تعرفها، لأنك أكثرهم وضوحاً، ولكن بدرجة وعي وثقافة أقل، فالكراهية تأخذ أكثر مما تعطي!
واليوم تعيش أنت أزمة بالغة، وشعور مرير، لأن موقفك الداعم للحرب ضدنا مرتبط بتوقع لحظة انتصار، ومهرجان (يعرض) فيه الناس على جثثنا، أو نعود منكسرين لبنات عمومتنا، يطاردنا جيش (ياسر العطا) وكتائبه حتى فرقاننا وبوادينا، أو كما قال! ونحن أيضاً يا (عمسيب) تحسبنا لذلك، وقررنا أن نموت حتى آخر (ولد) منا، على أن نعطيك أنت ومن معك من دهاقنة الكراهية والعنصرية، الذين أشعلوا هذه الحرب، أتعلم لماذا؟ لأن هزيمتنا لن ندفع ثمنها وحدنا، بل سيدفع ثمنها كل الشعب السوداني، حتى الذين تصنفهم من خارج دائرة عنصريتك، فانتصارك ومعك كل الذين أشعلوا هذه الحرب، بما فيهم قيادة الجيش و (علي كرتي) الذي نعلم جيدًا ما يخبئه خلف إسلاميته من قذارة ونتانة، كذلك نعلم دوافع قائد كتيبة (البراء ابن مالك) والمليشيات الإسلامية الأخرى، التي تعلم أنها لا تقاتل كفار، بل تقاتل أشخاص أقل منزلة إجتماعية – في تقديرهم وقناعاتهم – ولكنهم كدأبهم ليس لديهم أغطية وأغلفة، يدارون بها
سوءاتهم، سوى أغطية الدين وأغلفة الجهاد!
وإن ما تعيشه اليوم من قلق وإحباط، سببه أنك تنتظر بأن يخرج لك (بطل) من النيل لينتصر لفكرتك، وذلك ما ظل ينتظره النازيون، ولا يزالون يعيشون حالة انتظار (هتلر) جديد، لأنهم في قرارة أنفسهم يعتقدون كما تعتقد أنت بأن عرقهم أفضل من الأعراق الأخرى، وأنهم يجب عليهم – كجنس آري – أن يحكموا الآخرين، ويجب على الآخرين الإقرار بهذا التميز والرضوخ لحكمهم، أو فعليهم أن يواجهوا القتل بالحرق أحياء في أفران الموت، كما حدث لليهود، ما قاد إلى حروب عالمية لا تزال تبعاتها مشتعلة حتى هذه الساعة! وعقليتك أنت وأمثالك قادت لحروب مستمرة منذ استقلال البلاد وحتى اللحظة الراهنة، فهل أحصيت عدد ضحايا هذا الوهم الذي أنت فيه؟؟
أنت يا (عمسيب)، ومن معك، تعيشون أزمتكم الخاصة، لكنكم ورطتم معكم بسطاء لا يملكون في هذا الوطن الشاسع غير مساحات زراعية ضيقة على ضفاف النيل، (غلابة) وطيبون مثلهم مثل بقية أهل السودان، يبحثون عن دولة خدمية تقدم لهم الدواء والمدارس لأطفالهم وكل سبل العيش الكريم، تجلب لهم المصانع لتصدير منتجاتهم الوفيرة. دولة لا تجلب لهم الكراهية والأحقاد من بقية شعوب السودان، بل دولة يستطيعون فيها ممارسة تجارتهم كأشخاص عاديين، لا تفوق فيها لأحد بالعرق والنسب، فكل مجتمعات السودان كريمة وعزيزة ومعتزة بأصلها وحسبها ونسبها، ولن تستطيع أنت ومن هم على شاكلتك إذلال الناس بسلاح الدولة، ومن حق شعب الشمال أن يعيش في سلام مع الآخرين في دولة سودانية موحدة جديدة أساسها المواطنة المتساوية، وهذا ليس فيه هزيمة لك، بل فيه انتصارات جمة للجميع بمن فيهم أنت، فقط عليك الجلوس مع نفسك ومواجهتها مواجهة حقيقية، والإجابة على الأسئلة الصعبة بكل صدق، ومنها (ما الذي ستحققه لو إن أفكارك وأفكار كرتي ومن معه من البراؤون قد انتصرت؟)، ثم قارن ذلك بانتصار الشعب السوداني في تحقيق دولة القانون والعدالة والمواطنة؟
يوجد الآن يا (عمسيب) في مسرح العمليات المئات من (الشماليين) يقاتلون جنبًا إلى جنب مع (أولاد أبوك)، ومع (أبو شوتال)، و (كيكل)، وإدريس، وأدروب، وكل فئات الشرق مع أهل البطانة والجزيرة والهوسا والفلاتة، جميعهم يحاربون في معركة التأسيس، دافعهم وحلمهم هزيمة عقليتك، ومن هم على شاكلتك وصناعة وطن يجمعهم بكل عدالة وإنصاف ومساواة، وإنهم قريباً لمنتصرون. حينها سترى اللوحة زاهية، وسيكون المهرجان أجمل، والمستقبل أفضل لكل الشعب السوداني في دولته الوطنية الجديدة.