الطريق إلى جنيف (جدة) .. الإسلامويين وآخر مرّاحل صدمة خسارّة السُّلطة.!!
الطريق إلى جنيف (جدة) .. الإسلامويين وآخر مرّاحل صدمة خسارّة السُّلطة.!!
أحمد ضحية..
°الواقع الآن يقول، أن الاستمرار في حالة “اللاحرب واللاسلم أو شبه حرب”، لا يقل كُلفة إنسانية ومادية عن الاستمرار في (حرب كاملة)، والحالتين لم يعد لجنرالات الجيش الذين يختبئ الإسلامويين خلفهم، القُدرّة على الاستمرار فيهما، خصوصاً بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع الحصار، على بعض المواقع الاستراتيجية كالفاشر وسنار والنيل الأبيض وغيرها، وبدأ الخناق الاقتصادي يضيق على النيل الأزرق وشرق السودان وشماله!
°الخسائر التي مُني بها جنرالات الجيش وحلفائهم من الحركات المسلحة؛ لا يمكن تعويضها بسهولة. ومع ذلك لا يلوح في الأفق المعلن أو القريب، رّغبة صادقة للإسلامويين في إيقاف الحرب. رُغم أن من العسير عليهم تجاهل المفاوضات المزمع إجراؤها في جنيف (18 أغسطس 2024). فثمن تجاهلها سيكون غالياً جداً، خصوصاً أن السودان منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 بالنسبة لأميركا ملف أمني، كغيره من الدول الرّاعية للإرهاب، وقد أكد حلول كتائب الإسلامويين محل الجيش في هذه الحرب، لا مخاوف أميركا فحسب من تحول السودان إلى رحم لانتاج الدواعش، بل مخاوف كل دول الجوار والإقليم أيضاً!
°تكمن أهمية هذه المفاوضات التي دعا إليها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (23 يوليو 2024)، أنها مخصصة للتباحث حول “وقف إطلاق النار وضمانات تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى محتاجيها”. وصحيح أنها محادثات بوساطة الولايات المتحدة، إلا أنها أيضاً برعاية السعودية و الاتحاد الإفريقي ومصر والإمارات والأمم المتحدة.
°من الواضح لأي مراقب مهتم بالسياسة الخارجية الأميركية وعلاقتها بالداخل الأميركي، أن مشكلة الحرب في السودان أصبحت الآن بالتحديد، ملفاً مهماً من ملفات الديمقراطيين، في تحسين صورّة حزبهم. ما يعني أن نجاحهم في إيقاف الحرب في السودان، والقضاء أو إضعاف التشكيلات والكتائب الداعشية للإسلامويين، ووضع السودان في طريق التحوّل المدني الديمقراطي، من الأوراق الانتخابية المهمّة التي سيلعب بها الديمقراطيين، لصالح مرشحهم المرتقب كمالا هاريس، التي ستخلف جو بايدن وفقاً لتصورهم لهذه الانتخابات.
°في هذا السياق يجب أن نشير إلى أن إدارة بايدن، أبرز ما يأخذه عليها خصومها الجمهوريين في السياسة الخارجية، هو الانسحاب من أفغانستان والفشل في الحرب على أوكرانيا وحرب غزة، ولذلك نجاحها في حل مشكلة الحرب في السودان، يُعد انتصاراّ كبيراّ، يرفع من أسهم كمالا هاريس، المرشحة لمنصب سيدة المكتب البيضاوي ويرفع حظوظها في هزيمة ترمب. والتي قطعاً لن تتسامح مع أي طرف يحرمها هذا الانتصار، الذي يسعى إليه بلينكن بعزم وجد، لن تجدي معه المراوغات المعتادة، التي درج البرهان على انتهاجها مراراً وتكراراً، لإفشال مفاوضات جدة أكثر من مرّة!
الدعوة الأمريكية لمفاوضات جنيف، تأتي والبرهان ليس في أفضل حالاته، فإلى جانب هزائمه العسكرية، ومشكلاته السياسية في الإقليم والعالم، فإن حلفائه من الإدارة الأهلية في شرق السودان التي نزح إليها، بعد خسارته مقرّه في العاصمة الوطنية الخرطوم، وكذلك الحركات المسلحة، لا يكفون عن التذمر خلف مختلف العناوين، بعد أن بدأت مصالحهم في التضرر بسبب تطاول أمد الحرب، وانهيار ثقتهم في الحركة الإسلاموية و جنرالاتها؛ كحلفاء وشركاء غير أوفياء في الالتزام بالعهود والوعود!
°وكما ذكرنا في مقال سابق رّغبة هؤلاء -قادة الحركات المسلحة- التي أفصح عنها (مناوي) بوضوح قبل شهر من انعقاد مؤتمر القاهرة (6 يوليو 2024) -بعد أن أطاح الواقع الميداني باتفاقية جوبا- أن يكون لهم ممثلين ضمن ممثلي الجيش، في أي مفاوضات جادّة بين طرفي الحرب الأساسيين، لضمان مصالحهم كشركاء في هذه الحرب الصفرية.
وبطبيعة الحال يرفض الإسلامويين و واجهاتهم في الجيش، فكرّة أن يكون للحركات المسلحة، أي دور يتعدى حدود “المشاركة الميدانية” في الحرب.
فالحركة الإسلاموية و جنرالاتها، كانت قبل الحرب وفي بداياتها، قد بذلت وعوداً كبيرة سال لها لعاب حلفائها وشركائها المحتملين وقتها، لتحفيز الحركات المسلحة على القتال إلى جانبها ضد الدعم السريع.
وقد بُنيت هذه الوعود أساساً على قُدرة الجيش على كسب الحرب، ولم تضع في اعتبارها احتمال الخسارّة، وحتى لو كانت الحركة الاسلاموية قد كسبت الحرب، لما أوفت بوعودها والتزاماتها تجاه حلفائها وشركائها المهمشين، وهو ما بدأت الحركات المسلحة مؤخراً تدركه وتتمرد عليه، بحثاً عن مخرج آمن يحافظ لها على مكتسباتها غير المشروعة، التي جنتها في عقابيل التوقيع على اتفاقية جوبا (3 أكتوبر 2020)، وفترة الانقلاب (25 أكتوبر 2021)، والاتفاق الإطاري (ديسمبر 2022)، وأثناء هذه الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023.
°من الجهة الأخرى عبر بيان ما يسمى “إتحاد العلماء والأئمة والدعاة” الأخير (23 يوليو 2024)، الواجهة التي ظل الإسلامويين ينشطون من خلالها، لابتزاز عواطف البسطاء واشواقهم الدينية، والذي كان قد تم تجريب فعالية دوره في مناسبات مختلفة، أبرزها الحملات المسعورّة عبر المساجد والزوايا والتكايا، ضد تغيير دكتور القراي للمنهج التعليمي، وضد اتفاقية جوبا والاتفاق الاطاري وسيداو!!
عبر بيان هذه الشرذمة عن مدى ما بلغه الإسلامويين من ارتباك، إزاء الدعوة التي قدمها وزير خارجية أميركا “أنتوني بلينكن” للتفاوض في جنيف منتصف الشهر القادم!
وبدى واضحاً أن بيانهم، لا يزال رهين ذاكرة الفترّة الانتقالية المُنقلب عليها!
لقد تغيرّت الظروف التي نجح فيها “إتحاد العلماء والأئمة والدعاة” المزعوم، في إلحاق الضرر باتفاقية جوبا و الإطاري و سيداو، لذلك لا يعدو أن يكون بيانهم الآن سوى حنين لتثبيت موقف دون اكتراث للمتغيرات الزمكانية والظروف المحيطة، كما أن منطلقات هذا البيان، تتناقض مع فحوى البيان الرّسمي لحزب المؤتمر الوطني (21 يوليو 2024)، وكلا البيانين بمثابة تعبير عن ما بلغه الإسلامويين من ارتباك، تحت وطأة الهزائم والضغوط الإقليمية والدولية، ما جعلهم لا يميزون بين الممكنات ونقائضها!
°المهم هنا أن هذا الاتحاد المزعوم للعلماء والأئمة والدعاة، دعا البرهان للعمل على تفريغ الجيش لإدارة شؤون الحرب وإنهاء الفراغ السياسي، وتكوين حكومة كفاءات غير حزبية، وإبعاد سفارات الدول الوسيطة في مفاوضات المنامة وجدة وجنيف، ومنعها من ما أسماه “التدخل في شؤون الدولة”، بل وذهب إلى أكثر من ذلك، بأن دعا لإدانة الدول، التي زعم أنها ساندت ودعمت (التمرد)، كما نصح بضرورة اللجوء إلى حليف أو حلفاء أقوياء (لدحر العدو). باختصار بيان “إتحاد العلماء والأئمة والدعاة”، ينطوي على توجه في العلاقات الإقليمية والدولية، ناحية الدول المعادية للولايات المتحدة (ايران وروسيا، الخ)، وبالتالي هو وجه آخر للتصريحات التي درج ياسر العطا، على إطلاقها على عواهنها، مدفوعاً بمراكز القوى الاسلاموية التي تقف خلفه، داخل الجيش و داخل الحركة الاسلاموية! وربما هو توزيع أدوار بين العطا و البرهان، لإجهاض مفاوضات جنيف مسبقاً!
°بيان “اتحاد العلماء والأئمة والدعاة” المزعوم، عبر بوضوح عن ظن الإسلامويين، أن استمرارهم في خوض (شبه حرب)، كالنوع الذي نراه الآن! قد يضمن لهم الاستمرار بالتمتع (بهامش السلطة)، الذي منحهم له النزوح إلى بورتسودان، كما أكد بأنهم لا يكترثون لمفاوضات جنيف المرتقبة، وزعمهم أنه لا يزال في جعبتهم، الكثير من الكروت، التي بإمكانهم استخدامها لصالح استمرار الحرب. مع أن كل الشواهد تقول أن الإسلامويين يعيشون الآن أسوأ مراحل تاريخهم، وأن الحرب قد استنزفت قدراتهم وطاقاتهم إلى أقصى حد!
°مثلي مثل كثيرين يحاولون إيجاد تفسير عام لكل هذه الفوضى، أو الإجابة عن سؤال: لماذا يصر الإسلامويين حتى الآن على الاستمرار في حرب خسروها منذ أسابيعها الأولى؟! ولماذا كان أمثال الدباب المهووس أنس عمر ورفاقه الداعشيين، يتحدثون بهذه العنجهية والصلف، حتى خالوا أنفسهم قد خرقوا الأرض أو بلغوا الجبال طولاً؟
لماذا هم بهذا الإصرار الغريب، رُغم علمهم التام أنهم مرفوضين داخلياً وإقليمياً ودولياً؟! وكيف نفسر تفاعلهم الضعيف الآن مقابل كل هذا الحراك في الإقليم والعالم، لإيقاف الحرب وانقاذ الناس من المجاعة -والذي يجري على قدم وساق- كأن الأمر لا يعنيهم، رغم أنهم جند أساسي في نقاش سُبل إيقاف هذه الحرب وإغاثة الشعب!
°ربما حريٌ بنا للاجابة عن هذه الأسئلة، العودة إلى الوراء قليلاً ومناقشة سلوكهم، لفهم ما الذي كان يجعلهم واثقين في أنفسهم، على هذا النحو المرضي من الإسفاف والابتذال؟ وادعائهم أن حواء لم تلد من يفوقهم رجولةً وشجاعة؟ فما الذي ملأهم بهذا النوع الشاذ من التفكير المرضي، الذي هيأ لهم أنهم هم الشعب والأرض، وبدونهم ليس هناك وجود لشعب أو أرض أو دولة؟
هذا الانفعال المرضي الجياش في خطابات الإسلامويين الترهيبية قُبيل الحرب (رمضان 2023)، لم يكن يصدر عن أشخاص طبيعيين كبقية خلق الله، يرون الواقع كما هو على الأرض، إذ ظل الإسلامويين خلال ما يزيد عن ثلاثين عاماً حسوماً، يرون الواقع كما هو في أذهانهم هم وحدهم!
وهذا الانفعال الذي رأيناه بعد اندلاع الحرب وحتى الآن، في أكاذيب خوابير القنوات الاستراتيجيين، واللايفاتية وإعلاميين الأُجرة والظروف المالية وتحويلات بنكك، لا شك أنه كان يصدر عن مرضى مصدومين، لا يصدقون ما آل إليه حالهم!
°ليس هناك أدنى شك في أن سقوط نظام الحركة الاسلاموية في السودان، تحت وقع ضربات ثورّة ديسمبر 2018 السلمية المجيدة، بقدر ما كان مباغتاً مفاجئاً للقوى السياسية، كان بقدر مضاعف صادماً وغير متوقعاً البتة، لقادة التنظيم الإسلاموي وأعضائه وحلفائه في الداخل والإقليم والعالم.
لكن القوى السياسية لوهلة، استوعبت حقيقة أن نظام الإسلامويين أخيراً -على الأقل- قد سقط رسمياً. وسرعان ما استجمعت قواها، و انخرطت في مناخ الثورّة وشعاراتها. الأمر الذي فشل فيه الإسلامويين المصدومين، الذين كانت خطاباتهم التطمينية لبعضهم البعض، تردد على الملأ: “نحن بخير. لا زلنا نتحكم في مصائر الناس و أقدراهم. نحن نعز من نشاء ونذل من نشاء، بيدنا مفاصل الدولة. الحركة الإسلامية على كل شئ قديرة”.. أو كما عبر الداعشي أنس عمر، ومن قبله حسين خوجلي بلغة مختلفة، لكن المضمون هو المضمون!
°لقد كانت صدمة الحركة الاسلاموية ولا تزال، تفوق قُدرّة التنظيم على استيعابها وهضمها وتجاوزها. فظل قادتها يُنكرون زوال سلطانهم رسمياً، طيلة الفترّة الانتقالية المُنقلب عليها. وكان هذا الإنكار -في تلك اللحظة- يتم تحت وطأة الوّعي بمواقف الماضي؛ على شاكلة “ما تجيبو حي. ما تعملوا لينا عبء اداري”، وعلى شاكلة جرائم الإبادة التي راح ضحيتها أكثر من 200 ألف شخص في دارفور وحدها وshoot to kill، فضلاً عن الإغتصاب والتعذيب والتهجير، وعلى شاكلة “علمناكم أكل البيرقر والهوت دوج وأنا رب الفور وما بشبهونا”!..
ولربما كان ذلك هو الوّعي نفسه، الذي دفع المخلوع البشير في أحد الإفطارات الرمضانية، بمنزل الانتهازي الطفيلي التيجاني السيسي، للاعتراف في لحظة تجلي: “لقد قتلنا ناس دارفور بلا سبب!”.
الجرائم التي أُرتكبت، والممارسات الفاسدة؛ ومقولاتهم التي سار بها الركبان، خلال أكثر من ثلاثين سنة، احتشدت في لحظة سقوط نظامهم، و منذها أخذت تمر أمام أعينهم كشريط سينمائي. تربكهم فينكرونها ويتساءلون أسئلة غير صحيحة “كلماذا لجنة التفكيك تستهدفنا نحن بالتحديد؟ لماذا يظلمنا هؤلاء القوم؟”.
وبدلاً عن التريث والتفكير بموضوعية، في إجابات هذه الأسئلة، كانت الأسئلة التي يسألونها لأنفسهم تثير غضبهم، فيردون بمزيد من الإنكار، الذي لا يتعدى أكثر من كونه دفاع غير مجدي عن تنظيم، كل الحقائق و الوثائق تفيد أن قادته وأجهزته السرية وميليشياته، في الجيش والقوى النظامية. تورطت في ارتكاب كل أنواع الجرائم التي تخطر على بال، والتي لا تخطر على بال بشر!
°ولا شك أن غضبهم كشف لهم بوضوح، أن الإنكار ورفض تحمل مسؤولية الأفعال والتصريحات العدائية المحتقنة بمشاعر الغضب، لا يمكن أن يستمر كل ذلك إلى الأبد، ومن هنا كانت محاولات مساوماتهم للدعم السريع وللقوى السياسية! والتنقل بين سياستي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد!
ففي أذهانهم أن هذه هي الخيارات المتاحة، التي قد تمكنهم من الحفاظ على نمط ومستوى الحيّاة الذي اعتادوا، واعتادت عليه أسرهم في حياتها المخملية (بعد الفتح في 30 يونيو 1989)، هذه الحياة التي ما كان لشخص فقير مغمور بائس حُرم من المواهب الطبيعية، -لكن يمتلك طموح جبار- كأمين حسن عمر، أن يحلم يوماً بعيشها أو توفيرها لأسرته، لولا انغماسه في فساد الحركة الاسلاموية!
°كل المساومات التي تسرّبت خلال الفترّة الانتقالية، كانت تؤكد أن الحركة الاسلاموية على استعداد، لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على منهوباتها من شعب السودان، بأن تعود إلى السلطة، ولو من خلف حجاب!
°وإذا نجحت المساومات وقتها جزئياّ مع الدّعم السريع، وبشكل كامل مع حركات مسلحة كحركات (جبرين، مناوي وعقار)، فقد نجحت أيضاً مع أفراد كنبيل أديب وغيره من أعضاء حزب الموز كمحمد وداعة وأردأ زول وهجو وترك والمك عجيب وغيرهم، ممن لعبوا أدواراً استخبارية أو تخريبية خطيرّة في الفترة الانتقالية وصولاً إلى الحرب!
لكن كل ذلك لم يكن كافياً، لتعبيد طريق عودة الحركة الإسلاموية للسلطة، فقد بات واضحاً أن عودتها بحاجة إلى نوع من المعجزات، لم يُحظى به السيد المسيح نفسه!
°فالدعم السريع كان قد أدرك مبكراً، أن عودة الإسلامويين مرّة أخرى إلى دست السلطة، أشبه بأحلام زلوط، و أن ذلك لو حدث، سيكون هو شخصياً أول ضحايا عودتهم في سبيل توطيد سلطانهم، والتحكم في رقاب البلد والناس مرةً أخرى. فغادر حميدتي مركب أحلامهم دون تردد أو وجل!
°ومع ذلك لم يفارق الإسلامويين الأمل، بفقدانهم لحليف قوي وخطير، بما يخبئه في صناديقه السوداء من أسرارهم، التي يعجز العقل عن تصديقها. فقد اعمتهم الصدمة؛ التي جعلتهم يُنكرون تقدير قوّة الدعم السريع حق قدرها، وفاتت عليهم حقيقة أن كونهم رسمياً خارج السلطة، ذلك يجعلهم لا حول لهم ولا قوّة، حتى لو امتلكوا مصادر هذه القوّة: في الجيش والشرطة والأمن والمخابرات والكتائب السرية والمساجد والتكايا والزوايا، ودعموا كل ذلك بشراء ميليشيات حركة عقار وحركات دارفور وشرذمة الموز!
لكنهم على الرُغم من كل ذلك؛ تمسكوا بأهداب الأمل، كغريق يتمسك بقشة، الأمر الذي جعلهم يشعرون براحة زائفة!
الأمل أن بإمكانهم فعل أي شيء، لتأجيل المصير المحتوم.. بمعنى عيش حياة عادية، خالية من السلطة والتسلط والسفر بالجوازات الدبلوماسية، وأن لا تكون حياة أسرهم كحياة أسر الملوك، على قفا شعب السودان المحروم من أبسط شروط الحيّاة الإنسانية الكريمة. هذا الأمل الواهن هو ما ظل يحرك أفعالهم وردود أفعالهم!
وبطبيعة الحال لمن اعتاد على السلطة مثلهم، والتسلط على عباد الله، كلما تطاول أمد الأمل، كلما بدأ هذا الأمل يتبدد شيئاً فشيئاً، فيشعل هذا الشعور بالتبدد فتيل المخاوف والظنون، ويقود إلى قرارات صفرية، لا تأبه لقيمّة الإنسان أو الحيّاة، ولا تخضع لأي معيار أخلاقي!
ومن هنا ولد القرار الكارثي بالحرب. فهو قرار ولد في حضن الإنكار، وشب وترعرع في مشاعر الغضب، و لعبة المساومات. وبلغ أشده في نهاية أحلام أوهام العودة، ونُفذ في لحظة يأس لم تُبق ولم تذر!
°وكما كان متوقعاً.. مثلما فشل الإسلامويين في إدارة الدولة، وتوظيف موارد السودان المهولة في التنمية، وتنزيل قيّم السماء التي زعموها على الأرض، وفشلوا في إحلال السلام في السودان، و ظلوا يتنقلون بهذا السودان من حرب إلى أخرى في أطرافه، منغمسين في الوقت نفسه في فساد غير مسبوق، ونهب منظم للثروات والموارد. نجدهم كذلك قد فشلوا في نهاية مطافهم في هذه الحرب، التي لن يرحمهم التاريخ، عندما يسرد أسبابها ومآلاتها.. مجرياتها ووقائعها.. ضحاياها وخسائرها، وكُلفتها المادية والإنسانية والمعنوية!
°والآن في هذه اللحظة ونحن نراقب، حركة العالم والإقليم الدؤوبة، لفتح المسارات الآمنة للاغاثات، وانخفاض صوت الإسلامويين، في الوقت ذاته الذي بدأت فيه لهجة هذا الصوت تتغير منذ انعقاد مؤتمر القاهرة، فأصبحوا يميلون إلى وضع البندقية -كما ذكر بيان حزبهم الأخير- الذي في جوهره أن يُتركوا في حال سبيلهم دون حساب أو عقاب، وأن يظلوا في المشهد السياسي، ولا يتم تغييبهم..
وأيا كانت استنتاجات المراقبين حول لغة البيان المراوغة وفحواه، والرسائل التي وضعتها هذه اللغة المخاتلة، في بريد مختلف الأطراف، يظل من المؤكد بالنسبة لي، أن هذا البيان على عكس بيان “إتحاد العلماء والأئمة والدعاة” المزعومين، بمثابة أعلى تعبير حتى الآن، عن التغييرات التي تجري داخلهم.. هذه التغييرات رغم تدليلها على الاقتناع أخيراً بالهزيمة، إلا أنها ليست دليلاً على الإستسلام!
°صحيح أنهم بُعيد مؤتمر القاهرة، وما تلاه في أديس وكمبالا وجوبا، الخ.. وغيرها من مفاوضات لم يكونوا طرفاً في بعضها، وتغيير نبرة الوسطاء الإقليميين والدوليين.. صحيح أن كل ذلك أسهم في إقرارهم لأنفسهم بالهزيمة، لكنهم من الواضح حتى الآن، لا يريدون تقبل هذه الهزيمة! ومع ذلك انخفاض أصوات التجييش داخلهم، والتغييرات الطفيفة في خطاباتهم وخطابات منسوبيهم، وقادة قطعانهم من الإعلاميين والدعائيين. كل ذلك مؤشر على أن الطريق لإيقاف الحرب، بات ممكناً المضي فيه قدماً، رغم أنف ما عبر عنه بيان “إتحاد العلماء والأئمة والدعاة” وبيان المؤتمر الوطني.
°يجب أن يستوعب الإسلامويين، أن أحلامهم في السلطة اليوم، أبعد من أي وقت مضى في تاريخ الحركات الاسلاموية، وأنهم إذا ارادوا لملمة بقايا تنظيمهم بعيداً عن المشهد السياسي، والحفاظ عليه من الانقراض، عليهم الاعتراف بجرائمهم وأخطائهم، وتقبُل ما يصدر ضدهم من أحكام، وإدراك أن لا فائدة تُرجى من المقاومة، فهذه هي خاتمة مطافهم مع السلطة، التي استولوا عليها بليل بالتآمر والقتل والغدر والخيانة بانقلاب 30 يونيو 1989، الذي حمل المخلوع إلى القصر رئيساً، وذهب بالترابي إلى السجن حبيساً، في أكبر خدعة يشهدها التاريخ السياسي للسودان!
°آخيرا، ربما يمدهم الاعتراف بجرائمهم، وتقبل الهزيمة بسلام داخلي، يبدد مخاوفهم وآلامهم في خسارة السلطة والشعب. ويجعلهم آخيراً يفهمون، أن مصائر الأفراد والتنظيمات السياسية والكتائب المسلحة، لا يمكن ربطها بمصائر الشعوب، فالشعوب باقية في أوطانها مهما تم تهجيرها أو تغريبها، والميليشيات والأحزاب المسلحة إلى زوال، مهما تدججت بالأسلحة واحتمت بالترسانات والفتاوى.