ابراهيم ادم يكتب: بنيوتي “كازقيل” .. رائد صناعة الجبنة في كردفان.

212

ابراهيم ادم يكتب: بنيوتي “كازقيل” .. رائد صناعة الجبنة في كردفان.

بعد إستقلال السودان وعودة الجيش الإنجليزي لبلادة تخلّف عن الرجوع معهم الشقيقان كوستا وبنيوتي رابتلس وهما من أغاريق اليونان وقد حضرا مع الجيش الإنجليزي في مهام عسكرية خاصة .

إتجه كوستا لمدينة كوستي وعاش فيها حتي قبر هناك ولا أدري إن كان لأسمة علاقة بمدينة كوستي أم هي الصدفة وحدها التي ربطت بين الإسمين ، أما بنيوتي فقد إتجه لجهة الجنوب وظل يجوب البلاد بفراسة خبير مُتمرّس بحثاً عن مكان وادع يلبي طموحاته الكبيرة ويحقق أحلامة يطيب له فيه المقام فكانت كازقيل عروس الفرقان ودرة الوديان ، وصل بنيوتي لكازقيل وسط حفاوة الناس وطيبة أصلهم وقد أحسنوا إستقباله مع كثير من نظرات الدهشة والإستغراب من ذلك الخواجة الأبيض الذي جاءهم برداء وقميص وبرينطة ويود العيش بينهم ، لكن الخواجة الذكي سرعان ما أذهب عنهم تلك الدهشة وأستطاع التعايش معهم في وئام ومحبة .

بعد إستقراره بفترة قصيرة بدأ بنيوتي في صناعة الجبنة وإتخذ من رجلٍ إسمه (الشمو) كان له حمار و( خُرج ) شريكاً له إذ كان يستغل حماره والخُرج في جلب الألبان من الفرقان ، بدأ بنيوتي عمله بسيطاً حال البدايات الأولي لكنه مع الأيام صار يكبر في تصاعد ملحوظ حتي إذا ما أحسّ الخواجة بأنه بدأ يستقر عاد لليونان وجاء بزوجته لتكون بقربه ليعمل بذهنٍ صافي ويقينه في ذلك أن الإستقرار يساهم في زيادة الإنتاج وفعلاً تطورت صناعة الجبنة عنده فبني أول معمل لصناعة الجبن في كردفان وبكل المواصفات الصحية المطلوبة مُسيّجاً بالنملية الناعمة وعين الأرنب منعاً لدخول الذباب ، كان المعمل يستقبل يومياً أربعين برميل لبن من الحَلّال والفرقان المجاورة لكازقيل لينتج منها الجبنة البيضاء والمضفورة والمِش وأخيراً الجبنة الرومية فكانت عملية تعبئة ولحام الصفائح تتم تحت إشرافه الشخصي حِفاظاً علي إسمه ومكانته ثم يرسل منها للخرطوم وأمدرمان 500 صفيحة جبنة تُشحن في عربتان سفنجة Brand New تتبعان له إشتراهما من بورتسودان ويتم الإستلام في مركز لتوزيع الجبنة في تم إنشاءه بواسطة أثنين من الأغاريق هما تاكي وسيمي كانا يعملان في الأبيض في بار نكولا أنطوناكس الذي كان يفتح علي جزارة السوق الكبير من جهة الغرب للشرق وقد سافرا بعد تقفيل البار واستقرا في بحري ويعتبر بنيوتي أول المصدرين للجبنة الرومية لخارج السودان فقد كانت جِبنته تُعبّأ بعد التغليف بورق مقوي ثم تُلف بالقصدير بصورة جيده وترسل لأثينا عبر مطار الخرطوم في صناديق بديباجة مكتوب عليها ( مصانع بنيوتي رابتلس لصناعة الأجبان بكازقيل)

ساهم معمل الجبنة هذا في تشغيل معظم شباب ورجال كازقيل ومنه تعلموا جميعاً كيفية صناعتها وكانوا يعملون بنظام الورديات صباح مساء إذ كانت ليلاً تضيئه أنوار الرتاين .

مع نجاح المعمل فتح الرجل للناس طاحونة لتسهيل سُبل العيش دون أن يحتاجوا للسفر بعيداً لإحضارالدقيق من الأبيض ومع الطاحونة جاء المخبز وقد كان حدثاً وقتها لكازقيل وأريافها من القُري والفرقان وكان هو أول من أدخل تربية الدواجن في الحظائر وحظائره تُعد واحدة من أكبر الحظائر التي يتم منها شراء البيض والفراخ ويصل أغلب إنتاجها للأبيض ومعها جاء للناس بثقافة تربية طيور الزينة . بعد كل تلك الأعمال الكبيرة قام بنيوتي بحفر بئر إرتوازيه لتوفير الماء سقيا لأهل كازقيل وتجارياً لقطعان الماشية التي تأتي من الفرقان حولها . كان ذلك الإغريقي صاحب عقلية تجارية مبتكرة فنظير توفير الألبان له لصناعة الجبنة من مناطق (الغانيم) و (الروابة) وبقية المناطق المجاورة كان يعمل علي راحة أولئك الناس بتوفير الذرة والسكر والملح والشاي الأسود والأرز من بورتسودان وشحنها في عربة قطر يتم استلامها في الأبيض ثم ترسل لمخازنه في كازقيل إنتظاراً لفصل الخريف لبيعها لرعاة الأبقار بنظام المقايضة حتي يستقروا في مناطقهم بالقرب منه ، ولما عرف بتهافت الناس علي جبنة كازقيل ومِشّها عمل علي تحفيزهم للحضور فكان يهدي لمن يشتري كيلو من الجبنة البيضاء وكيلو من الجبنة المضفورة كيس مِش مُعتبر مجاناً وإمعاناً في إكرام وفادة ضيوفه القادمين من الأبيض ومن غيرها من المدن قام الرجل بجلب ثلاجة تعمل بالجاز وضع فيها البيبسي والكوكا كولا وقد كانت مظهراً من مظاهر التمدّن والتطور في ذلك الزمن البعيد .

ظل بنيوتي متفرداً في كل تفاصيل حياته متوفقاً علي الجميع بفكره الخلّاق وعبقريتة المتوهجة ففي واحدة من دورات معرض الخرطوم الدولي دخل في منافسة مع عدة جهات تصنع الجبنة وطلبوا منهم أن يصنعوا الجبنة البيضاء والمضفورة والرومية والمش من برميل واحد أمام لجنة تحكيم من دكاترة بيطريين فأكتسحهم بنيوتي جميعاً وفاز بالميدالية الذهبية لصناعة الأجبان علي مستوي السودان .

عاش بنيوتي بين أهله في كازقيل كما كان يسميهم بمأثر عديدة كريماً مُقدّرا تخلّق بأخلاق أهل تلك البلاد يحبهم ويحبونه مشاركاً لهم في كل مناسباتهم ( يخت في كشفوفات الأعراس ) وفي الوفيات يرسل الماء والدقيق مجاناً لأسر المتوفين كما كان يقرض المزارعين في مؤسم الخريف للزراعة لحين السداد بعد الحصاد ويعفي الذين لم تنجح ذراعتهم من من الدين ، أما الطلبة العائدين للدراسة في الخرطوم فكانوا يسافرون مع عربات الجبنة مجاناً والفقراء من تلاميذ وتلميذات المدرسة الإبتدائية كان نصيب كل واحد منهم ( حشوة جبنة أو مِش) ، جوار طاحونته كانت تفرش حجة فاطمة الفول فكان كلما أحس بسوقها ( مُش ولابد) يمازحها ضاحكاً من سوقها الباير ثم يهديها كيس من الخبز مع بعض الدقيق . ولما همّ أهل القرية ببناء المسجد تبرع لهم بعربته والماء وبناء الساس وكان فكِهاً خفيف الظل يمازح الجميع والطرفة تحكي :

أنه في سنة من السنوات تأخر الخريف وجمع الأهالي مبلغاً إشتروا به عجل صغير وذبحوه وبعد الصلاة جاتهم رشة خفيفة وبعد يومين جاب بنيوتي تور كبير فصلّ الناس ونزل المطر غزيراً فضحك بنيوتي عليهم قائلاً جبتو عجل صغير ادوكم ( مترة ) شوية وجبنا تور كبير ادونا متر كتير .

رزق بنيوتي أثناء إقامته في كازقيل ببنتين سمي الأولي كازقيل محبةً وإمتناناً لأهلها ولديار منحته الإسم والصيت والخير الوفير وسمي الأخري لومبيه وقد نالتا تعليمها في مدارس كمبوني الأبيض وبما أنه كان كثير الحضور للأبيض لمتابعة تعليم بنتيه وأعماله التجاريه فقد كان له بيت غرب بنك النيلين في السوق الغربي يأتيه من وقتٍ لآخر .

خلق بنيوتي خلال تواجده في كازقيل العديد من العلاقات المميزة فكانت تربطة بجدنا شيخ الجزارين عثمان دفع الله علاقة طيبة فالرجلان يعتبرا من مؤسسي كازقيل ونحن نفخر بأن لنا فيها نسب ومصاهره وإخوة وأخوات وعمات وخالات وجنينة تهدي الناس طيب الثمر وبيت مازال يقف شامخاً في قلب القرية يحدّث عن أيام صاحبه كما ربطته علاقات مميزة مع العمدة المك الطاهر ومحمد سلامة وعبدالسلام محمد صالح البعباش والذي كان يسأل عنه حتي بعد رجوعه لليونان .

مع الأيام كبرت البنتان فسافرت كازقيل لدراسة الصيدلة في أمريكا وعادت من هناك بشهادة مقدره وبدأ بنيوتي يحس بتقدم العمر وتسرب السنوات من بين يديه وهو بعيد عن موطنه كل هذه الأعوام ففكر جادا في العودة لبلادة وبدأ في تسوية أعماله التجارية والتخلص من ممتلكاته في مواقف عظيمة سجلها له التأريخ فالرجل بادل الوفاء بالوفاء لمن عملوا معه بإخلاص فقام بدفع وتمليك عرباته اللواري الثلاث (السفنجات) للسواقين الذين عملوا معه فيها طيلة فترة وجوده بينهم كما قام بتمليك الرنجروفر لسائقه كمكافأة نهاية الخدمة وأشترط علي وكيله ألا يُباع المعمل إلا لشخص من أهالي كازقيل وتسربت فكرة سفره لعامة الناس في القرية الصغيرة وبدأ الحزن واضحاً علي وجوه أهلها وأوّكلوا لبعض المقربين له محاولة إثناءه للعدول عن فكرة الرحيل لكن الرجل كان قد إتخذ قراره وحسم أمره وفي صبيحة يوم حزين من ثمانينات القرن الماضي إصطف الناس بالمئات لوداع بنيوتي وعلا صوت البكاء علي كل كلمات الوداع وكانت الدموع هي عنوان المشهد ، سافر الرجل لموطنة لأرض أرسطو وأفلاطون عائداً إليها من جديد لكنه لم يعد مثلما جاء منها بالردِا والقميص والبرنيطة عاد بروح بدوي يشنّق الطاقية يرتدي العراقي والسروال ويلبس سكين الضراع ، عاد وهو يعرف السافل والصعيد وفترات الدمر والنشوق ، عاد بروح تربال ينتظر القبلي والضحوي ويسعد كلما لاح مربط عجيل يمشي علي الشوقارة و(يَسِل) من هدومه الحسكنيت ، رجع بنيوتي بعد أن أكل الزناري والماريق ورقص الربه والهسيس

رجع برئةٍ واحدة وترك الأخري تتنفس بها كازقيل عاد بنصف قلب يوجعه الحنين ستّف حقائبه بجميل الذكريات وبكي لفراق القرية التي أحب لكنه حملها معه إسماً ورسماً وكتبها علي لافتة في قلب أثينا ( صيدلية كازقيل ) جعل من ذكراها عالماً كلما حنّ إليه نظر في عيني بنته فتراءت له القطاطي وبيوت الطين ووجوه الطيبين.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *