إسماعيل هجانة يكتب: الموتى المتحركون .. حين انكشف الممثلون قبل أن يُرفع الستار

11
اسماعيل هجانة

 

“الموتى المتحركون .. حين انكشف الممثلون قبل أن يُرفع الستار”

إسماعيل هجانة

في الفاشر، المدينة التي تحولت إلى ساحة لاختبار الضمير الإنساني، لم تكن المأساة فقط في الحصار أو في الجوع الذي ينهش أجساد الأطفال والنساء، بل في أولئك الذين اختاروا أن يحوّلوا الموت إلى مادة دعائية، وأن يُصوّروا الألم مشهدًا سينمائيًا رخيصًا.
الناس هناك لا يبحثون عن دور في مسرحية… بل عن لقمة، عن ممر، عن نجاة.
لكن القوات المشتركة، بتوجيه من قيادات عسكرية وسياسية على رأسها مناوي، جبريل، والبرهان، اختاروا طريقًا آخر. لم يكتفوا بمنع الغذاء، بل منعوا حتى الخروج. جعلوا من المدنيين دروعًا بشرية لتغذية روايتهم الزائفة، ولسدّ الفراغ الأخلاقي الذي صار ينهش عظامهم كما تنهش المجاعة أرواح سكان المدينة.
قبل عام، طرح الدعم السريع مقترحًا لتحييد مدينة الفاشر وجعلها منطقة خارج نطاق الحرب، مقترح كان كفيلًا بإنقاذ الأرواح.
لكنهم رفضوا.
رفضوه لأن السلام لا يُدرّ مالًا، ولأن الضمير كان قد بيع في مزاد التحالفات الملوثة.
فضلوا الانخراط في مشروع “الخريف الكبير”، مشروع لا يستهدف فقط دارفور، بل يطحن ما تبقى من أمل في السودان كله.
باعوا الأمن مقابل الدراهم. باعوا الفاشر مقابل طموح بائس للسلطة.
دخلوا الحرب إلى جانب البرهان، لا لنصرة قضية، بل لحماية مصالح الدولة العميقة، ولضمان مكانهم في مشهد ما بعد الدم.
واليوم، حين انكشفت عوراتهم، خرجوا من جديد… لا ببيان شرف أو تراجع، بل بمشهد تمثيلي عنوانه “مجزرة مزعومة”.
فيديو مسرّب فضحهم، وهم يُلقّنون من انتحلوا دور الضحايا كيف يسقطون، ومن ادّعوا الإصابة كيف يصرخون، ومن لبسوا الزي الطبي كيف يتصنعون الهلع.
لكن المهزلة لم تبدأ بالكاميرا… بل ببياناتهم المشبوهة.
بيانات تهاجم منظمات الإجلاء، وتصف إخلاء المدنيين بالمؤامرة للتهجير القسري!
أي قسري وقد كان الناس يدفعون أرواحهم للهروب؟
أي كذب وقد شهدت الناجيات – بالصوت والصورة – أنهن خُيّرن بين الموت تحت القصف أو دفع الثمن؟

منعوا الإجلاء… وصوّروا المجزرة، ثم بكى الذئب بدموع التماسيح
لم تكن المأساة فقط في منع آلاف المدنيين من مغادرة الفاشر ومعسكرات النزوح، بل في أن من أغلق الممرات الآمنة، ومنع المبادرات الإنسانية، وهدد الفارين من الموت باعتقال أو تهمة الخيانة… هو ذاته من أعدّ مشهد “المجزرة الإعلامية”، وصوّر الضحايا المزيفين بالكاميرات المدفوعة من خزائن الدعاية، ليعرضها لاحقًا على العالم، ببرود مريب وبكاء تمثيلي قائلاً:
“انظروا ماذا فعلوا!”
لكن الحقيقة سبقت المونتاج، وفضحت المؤامرة قبل أن تكتمل حبكتها.
لقد انكشف المستور، وسقطت ورقة التوت، وبانت أنياب الذئاب التي لبست ثياب الوداعة وتغنت بشعارات حماية المدنيين والإنسانية.
إنها مأساة تُكتب بالدم والعار معًا…
ففي الوقت الذي كانت فيه النساء تدفعن “أثمان النجاة” في جنح الظلام، وفي الوقت الذي كان فيه الجوع يفتك بالأطفال، والقناصة يترصدون كل حركة، كان هناك من يضع السيناريو، ويختبر زوايا التصوير، ويُلقن الممثلين كيف يسقطون ومتى يصرخون.
خلف الكاميرا، لم تكن هناك إنسانية.
كان هناك تخطيط، وتواطؤ، واستثمار قذر في معاناة شعب، من أجل صناعة لحظة درامية تُباع للعالم على أنها “الحق”، وهي لا تمت للحقيقة إلا بمقدار ما يمتزج السم بالعسل.
كل من شارك في هذه المسرحية، من أمر، ومن نفذ، ومن صوّر، ومن صمت، كان شريكًا في جريمة مركبة: جريمة حجب النجاة، وجريمة تسويق الموت الكاذب، وجريمة خيانة المعنى الحقيقي للكرامة الإنسانية.
وفي المقابل، لم يكن الضحايا في حاجة إلى عدسة… كانوا في حاجة إلى ممر.

شهادات من الجحيم
قالت امرأة بصوت مرتجف:
“قالوا لينا لو مشيتوا حنعتبركم خونة… لكن نحنا كنا بنموت بالبطيء، نحنا خرجنا بقدرة ربنا وبعون شباب ما خافوا.”
وقالت أخرى:
“ما عندي قروش، قالوا لي: امشي ورا الشجرة أنا بحصلك… الجنس مقابل النجاة، أعمل شنو؟ الروح أغلى، والقعاد مع الجوع غلبني.”
لقد تحوّل النزوح إلى صفقة قذرة، تُدفع فيها الأموال والكرامة، بل وحتى الأجساد، مقابل المرور.
قوات مشتركة، استخبارات، سماسرة، وجيش… كلهم متورطون في تسعير النجاة.

الطرف الآخر من المشهد: تحالف السودان التأسيسي
بعيدًا عن عدسات التمثيل، وفي صمت الكرامة، تحرك شباب وشيوخ وأطباء ومتطوعون ينتمون لتحالف السودان التأسيسي – ذلك التحالف المدني العسكري الذي ضم قوات الطاهر حجر، الهادي إدريس، سليمان صندل، الدعم السريع، وغيرهم – وبدأوا عملية إجلاء حقيقية.
بلا دبابات، بلا طائرات، بلا بيانات متلفزة… فقط بإيمان عميق بإنسان دارفور.
وفروا وسائل النقل، كوّنوا فرق طبية، أمنوا الطرق، وفتحوا مسارات الخروج، وساعدوا في تهريب العائلات تحت قصف القناصة.
نجحوا، لأنهم لم يمثلوا، بل أنقذوا.

لماذا رُفضت الممرات الآمنة؟
السؤال الأخلاقي والسياسي الذي يفرض نفسه:
لماذا رفضت تلك القوى خروج المدنيين؟
لأنهم ببساطة لا يرون في المدنيين أرواحًا… بل أرقامًا يمكن استخدامها في المفاوضات وفي الكسب السياسي والإعلامي وإدارة للادانة أو ضحايا يمكن تصويرهم لاحقًا بعد أن يرحلوا هم إلى المنطقة الخضراء.
من منع الإجلاء هو ذاته من صوّر المجزرة، ومن ضرب المستشفيات هو ذاته من صرخ سابقًا بالانتهاكات، وكان يخطط مع سبق الإصرار والترصد، وبعد انتهاء إعداد الفيديو الكاذب، كان يستعد لبثه بكاميرا دعائية قائلاً للناس والعالم: “انظروا ماذا فعلوا!”.
لكنهم لم يتوقعوا أن تنكشف المسرحية مبكرًا… قبل أن يعلّقوا الأكاذيب على حبال التعاطف الدولي.
سقط القناع، وتهاوى المسرح، وبقي المشهد الحقيقي: شعب يئن من الوجع، وآخرون يختبئون خلف عدسات مزيفة.

بين من يُمثّل الموتى… ومن يدفنهم. هناك من دفن أطفاله بيديه، لا بيد مخرج سينمائي. هناك من حفر قبور أحبائه بملعقة، لا بكاميرا “درون”. وهناك من لبس المعطف الأبيض في الفيديو، بينما كان يبتزّ النساء للهروب.
فأي رواية تريدون منا أن نصدقها؟
رواية المسرحية؟ أم رواية الأمعاء الخاوية، والدموع الحقيقية، والأمهات المكلومات؟

أمن يُمثّل الموتى… يموت في ذاكرة الأحياء
لقد فشلوا،
فشلوا لأن أرواح أهل الفاشر التي بيعت في سوق نخاسة الدعائية لم تكن أرقامًا في معادلة سياسية، بل كانت أرواحًا مقدسة، عزيزة، لا تُقايض ولا تُساوم.
باعوها على أمل سلطة مأمولة، ونصرٍ مزيف لم يتحقق إلا في خيالاتهم وعلى منصات إعلامهم المُضلّل.
لكن في الفاشر… الأرواح لا تُصنع في استوديوهات، بل تُكرّم، تُبجّل، ويُصلى عليها بدموع القلوب لا بلقطات الكاميرا.
فشلوا لأن الحقيقة، وإن بدت عارية حتى حد الفضيحة، كانت صلبة كالصخر، واقفة كالشمس، فضحتهم في وضح النهار.
أما كذبهم، فكان هشًّا، مغلفًا بالدخان، انهار مع أول نفخة صدق، وانكشفت خيوطه كما تنكشف خيوط بيت العنكبوت في وجه الريح.
وفي الوقت الذي كانت فيه أيادي السودانيين الأحرار من مختلف الجهات والاتجاهات تُمدّ لإنقاذ الأرواح، كانت غرف الظلام تجهّز لمحرقة مصوّرة، مبرمجة بإتقان، لتهيئة البيئة العاطفية والسياسية لإدانة الدعم السريع مسبقًا، حتى لو كانت الأرواح هي الوقود.
لكنهم لم يدركوا أن ما يُبنى على الكذب، ينهار بالكلمة.
الكاميرا التي أرادوها سلاحًا في معركة التضليل، أصبحت سيفًا عليهم. صارت أداة إدانة لا دفاع. وثيقة خيانة لا نصر.
وباتوا هم…
“الموتى المتحركون”
لا لأنهم فقدوا أرواحهم،
بل لأنهم فقدوا ضميرهم، شرفهم، إنسانيتهم، وكل ما يمنح المرء حق البقاء في ذاكرة الأحياء بكرامة.
وسيبقى التاريخ يذكرهم لا بما قالوا، ولا بما مثّلوا، بل بما خانوا.
وسيبقى أهل الفاشر، أهل الكرامة والصمود، أحياء في كل ضمير نقي…
أما أولئك، فقد ماتوا، قبل أن يسقطوا.

 

 

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *