خالد كودي: “علي كرتي” .. أمير الظلام في جمهورية الدم، حين يصير الانفصال مشروعًا للحاكمية

14
خالد كودي

“علي كرتي” .. أمير الظلام في جمهورية الدم، حين يصير الانفصال مشروعًا للحاكمية

 خالد كودي، بوسطن

ضد الذاكرة القصيرة: تفكيك خطاب علي كرتي حول انفصال دارفور ومسؤولية الحركة الإسلامية عن مشروع الإبادة في السودان:
حين يُطلّ علي كرتي – أحد كبار مهندسي النظام الإسلامي السوداني السابق– ليقترح “انفصال دارفور كمخرج سلمي”، فإنه لا يقدم حلاً بقدر ما يكشف جوهر الخطاب الذي حكم السودان لثلاثة عقود: خطاب عنصري، فاشي، ينظر إلى “الآخر” السوداني كعبء، لا كشريك. إنه منطق القرن السادس عشر، وقد تلبّس لغة الدولة الحديثة. ومن واجبنا – قانونيًا، أخلاقيًا، وتاريخيًا – أن نرد على هذه الدعوة، لا بالاستنكار الخطابي، بل بالتفكيك الجذري لمنطقها، ومساءلة من أطلقها.

أولًا: حين يُقترح الانفصال كوسيلة للهرب من العدالة:
من يُشعل الحروب لا يملك حق اقتراح الانفصال… وكرتي لا يقترح “تقرير مصير”، بل يكرّس “تقرير عنصرية”
في مناخ أخلاقي مشبع بالإنكار، خرج علينا علي كرتي، أحد أركان المشروع الإسلامي الذي حكم السودان لثلاثة عقود بالإقصاء والقهر، ليقترح ما سمّاه “انفصال دارفور كمخرج عقلاني”. لا يقدّم كرتي هنا “حلًا سياسيًا”، بل يكشف بمنتهى الوضوح عن ذهنية استعمار داخلي عميق: لا يرى في الآخر السوداني شريكًا في الوطن، بل عبئًا يستحق الفصل أو الإبعاد حين يطالب بالمساواة.
إنّ خطاب كرتي لا ينفصل عن ما صرّح به لاحقًا القيادي الإعلامي في الحركة الإسلامية، الطاهر حسن التوم، الذي قال بصراحة:
“إذا كان ثمن إيقاف هذه الدماء أن تصبح دارفور دولة، فلتكن دولة. لماذا نرفض مثل هذه الدعوة الموضوعية؟”
هذه ليست دعوة للسلام، بل ترجمة دقيقة لنفس البنية التي أنتجت مشروع “التمكين” و”الاستعلاء العرقي” و”الحرب المقدسة”. إنها محاولة لنقل “ثمن الجريمة” إلى الضحية، لا إلى الجاني؛ إلى من تم تدميره، لا من دمّر. وبدل أن يعتذر النظام الإسلاموي عن ثلاثين عامًا من الإبادة والاغتصاب والنزوح، ها هو يعرض على دارفور… خريطة خروج!
في علم الاجتماع السياسي، تُعرف هذه النزعة بـ”منطق الإنكار المصحوب بالاستبعاد”، حيث لا تُعترف الجريمة، بل يُقترح استئصال الضحية كحلّ. وكما كتب
:Zygmunt Bauman
.”الاستبعاد هو أبسط صيغة للسيطرة، حين تعجز عن التعايش مع المختلف”
هنا لا يتحدث كرتي ولا الطاهر التوم عن “تقرير المصير” بوصفه حقًا ديمقراطيًا، كما نصّت عليه المادة (1) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. بل يعيدان صياغته بوصفه وسيلة “لطرد سياسي ناعم” يخدم غرضًا واحدًا: محو سجلّ الدولة المركزية من جريمة دارفور، دون مساءلة، دون محاكمات، دون ذاكرة
وكما قال المفكر
:James Baldwin
.”الامتياز يفضّل تدمير كل شيء على أن يرى نفسه متساويًا مع من احتقره يومًا”
هذا ما يفعله كرتي تحديدًا: بدل أن يقف أمام محكمة عدل تاريخية، يقدّم نفسه كصانع “حلول”، ويقترح تقطيع البلاد مرةً أخرى، لا لشيء سوى أن الوحدة أصبحت مرآة للجرم الذي لا يودّ رؤيته
هذا ليس “تقرير مصير”. إنه، بتعبير
:W.E.B. Du Bois
.”نفيٌ للحق الديمقراطي حين يفشل السادة في قمع العبيد، فيتّهمونهم بأنهم خطر على الكل”
وإن خطاب كرتي، الذي يوازي ضمنيًا بين وجود المهمّشين وتدمير السودان، يتبنى عقلية التفوق المحاصر، وهي كما يشرحها علم النفس السياسي، تلك الحالة التي يشعر فيها “المسيطر” أن مجرد وجود المختلف هو تهديد لهويته وامتيازاته، فيلجأ إلى خيارين: القمع أو الطرد.
وفي خلفية هذه التصريحات تقف مشاريع الفاشية المقنّعة: نفس الفاشية التي استخدمت الدين لتبرير الجهاد ضد الجنوب، والتي سمّت العدالة في دارفور تمردًا، والتي رأت في العلمانية، وحقوق الأقليات، وحق تقرير المصير… مؤامرة غربية لا تُناقش
Pierre Bourdieu
: يحلّل هذا النوع من الهيمنة الثقافية بقوله
.”الطبقات المسيطرة لا تكتفي بفرض سلطتها، بل تفرض تعريفها للحقيقة، ولمن يُحسب ضمن الجماعة”
بهذا المنطق، لا مكان في مشروع الإسلاميين لدارفور، أو النيل الأزرق، أو الجبال، إلا بصيغة التابع، أو الصامت، أو الفصل. وهنا تتقاطع تصريحات كرتي والطاهر التوم مع أسوأ نماذج الفصل الاثني والسياسي التي عرفها التاريخ الحديث
والأرقام لا تكذب:
– في جنوب السودان: أكثر من مليوني قتيل، و4 ملايين لاجئ ونازح؛
– في دارفور: 300 ألف قتيل، ومليونا نازح (بحسب تقارير الأمم المتحدة)؛
– في جبال النوبة والفونج الجديدة: مئات الالاف من القتلى و ملايين النازحين، وتدمير منهجي للقرى؛ كلها بقرارات كانت تصدر من غرف السلطة التي تواطأ فيها كرتي وسوق لها أمثال الطاهر حسن التوم.
ومع ذلك، لا نسمع اليوم اعتذارًا… بل نسمع عرضًا: “اخرجوا، كي نرتاح”
وكما قال
:Frantz Fanon
“الاستعمار لا يُنكر وجود الآخر لأنه لا يراه، بل لأنه يريد أن يُعيد إنتاجه بوصفه تابعًا إلى الأبد”
ولهذا فإن الرد على كرتي لا يكون بنقاش سياسي، بل بتفكيك منهجي للفاشية التي يمثلها. لا باعتباره شخصًا، بل باعتباره صوتًا لتاريخ طويل من الإقصاء والدم
:Toni Morrison كتبت ذات مرة
“الوطن هو حيث لا يُطلب منك أن تبرر وجودك”
ومتى كان الوطن في عقل علي كرتي أو الطاهر التوم يسع من لا يشبههم؟ من لا يصلي صلاتهم؟ من لا يتحدث لهجتهم؟ من لا ينتمي لقبيلتهم؟
إننا لا نرفض دعوة كرتي لأننا نؤمن بالوحدة “كقيد أبدي”، بل لأننا نرفض أن تتحوّل العدالة إلى قسمة ترضية، وأن تصبح المحاسبة مسألة تفاوضية.
وهنا تظهر أهمية المشروع البديل، “مشروع السودان الجديد” الذي يقدّمه تحالف “تأسيس”:
– وحدة على قاعدة العدالة، لا العروبة أو الدين؛
– دولة علمانية تضمن المساواة؛
– دستور يؤسس لحق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية، لا بطردها من جغرافيا الوطن
وكما قال مالكوم إكس:
.”الخطر الحقيقي هو أن يُسمح للجلاد أن يكتب التاريخ”
ولذلك نكتب. لا لندافع عن حدودٍ مرسومة بالدم، بل لنؤسس لمستقبل تُرسم فيه الحدود بمعايير المواطنة الكاملة والحق في الحياة والخيارات.
دارفور ليست عبئًا على السودان. النظام الذي أنجب كرتي والطاه التوم… هو العبء.
وإذا كان لا بد من انفصال، فليكن انفصالًا عن منطق الفاشية، لا عن ضحاياها.

ثانيًا: منطق الإبادة لا يصنع سلامًا… والعنصرية تتجاوز الإسلاميين
دعوة علي كرتي وغيره من الإسلاميين كالمدعو الطاهر التوم لفصل دارفور لا يمكن قراءتها كاقتراح سياسي، بل يجب فهمها كامتداد لذهنية استعمارية داخلية ترى في الآخر عبئًا لا شريكًا. إنها محاولة لإعادة رسم الوطن وفق خريطة عرقية ضيّقة، تختزل التعدد في تهديد، والمطالبة بالمساواة في عداء.
كتب جورجيو أغامبن:
.”حين تعجز الدولة عن ضمان الحياة، تبدأ في اقتراح الموت كحل سياسي”
ما يقترحه كرتي ليس حلًا، بل استئصالًا سياسيًا وأخلاقيًا، يختزل السودان في من يشبهه فقط. وهي عنصرية
مركّبة، دينية واثنية وجهوية، تغذّت على خطاب “الحاكمية لله”، لكنها تترجِم نفسها اليوم كخوف عميق من المساواة. الخوف من أن يرى الآخر نفسه مساويًا، لا تابعًا!
لكن يجب أن نكون صريحين هنا: العنصرية ليست حكرًا على الإسلاميين. إذ لطالما اتهمت النخب المركزية، السياسية والثقافية، المهمّشين بأنهم “دعاة انفصال”، رغم أن أبرز دعوة انفصالية اليوم تصدر عن قيادي بارز في الحركة الإسلامية، ممن حكموا السودان لثلاثة عقود وتثدر علانية وعلي رؤوس الاشهاد – وتصمت وتتواطا النخب!.
فأين هو الغضب؟
أين الأصوات التي ضجّت عندما تحدّث الهامش عن تقرير المصير؟
لماذا يصمتون الآن، حين يُطرح الانفصال من داخل المركز، لا من أطرافه؟
لماذا تُهاجَم الحركة الشعبية، ويلقف عليها ان اعتماد حق تقرير المصير كمبدا دستوري يعني اعتماد الانفصال بينما يُهادن من ينادي بفصل أجزاء من الوطن وإقامة دولة “البحر والنهر”، و”وحدة وادي النيل”، و”السودان العربي الإسلامي” ؟
الحقيقة أن هذه ليست ردود أفعال، بل بنية ذهنية متجذّرة، ترى في كل اختلاف خطرًا، وفي كل مساواة تهديدًا
لقد عاش المركز الحرب للمرة الأولى في 15 أبريل 2023، حين وصلت النار إلى الخرطوم. بينما أهل دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق عاشوها عقودًا، دون تعاطف ولا تغطية إعلامية. ومع ذلك، لم يطالبوا بالانفصال، بل تمسّكوا بوطن لا يعترف بهم. أما الجنوب، فحين لم يجد شريكًا في المواطنة، اختار المغادرة- فقد راي “لارجاء في نخب السودان السياسية” حينها…
اليوم، يُعاد إنتاج نفس الخطاب الذي مهّد لانفصال الجنوب: “دعونا نرتاح من الآخر”
لكن، كما قالت أنجيلا ديفيس:
“لا يمكنك أن تقترح السلام، ما لم تعترف بمسؤوليتك عن الحرب”
قال مالكوم إكس:
“من يطلب منك التنازل، لم يتنازل يومًا عن امتيازاته”
لهذا، فإن كرتي – ومن يمثلهم – لا يملكون لا الشرعية الأخلاقية، ولا السياسية، ليقرّروا من يبقى ومن يُفصل. السودان ليس ملكًا لإثنية علي كرتي ولا غيره، ولا لقبيلة، ولا لدين او لمذهب.

ثالثًا: دارفور… من التهميش إلى الشيطنة:
لم تكن دارفور يومًا “منطقة مشتعلة” لحالها كما يدّعي علي كرتي، بل كانت هدفًا مستمرًا لسياسات التهميش والتجريد من الحقوق منذ الاستقلال. لم يُطلب من الإقليم إلا أن يُقدّم أبناءه جنودًا للسلطة المركزية، بينما حُرم من المشاركة الفعلية في السلطة، والثروة، والاعتراف بالمواطنة المتساوية.
ما سمّي بـ”التمرد” في دارفور لم يكن أكثر من احتجاج سياسي مسلح على نظام لا يرى في السكان المحليين سوى تهديد لتركيبة احتكارية للسلطة. وحين جاءت الحركة الإسلامية، أسقطت كل الأقنعة: كونت وسلّحت وامرت الجنجويد، شرعنت الإبادة، وعمّمت خطاب “التطهير” كعقيدة حكم.
لم تطالب دارفور بالانفصال، بل بالإنصاف. لكن كرتي، الذي كان شريكًا في تفكيك الجنوب، يُعيد اليوم نفس خطاب الإقصاء، لا لأنه يحترم إرادة الشعوب، بل لأنه يرفض أن يرى السودانيين متساوين.
اقتراحه بفصل دارفور ليس دعوة للحل، بل هروب من المحاسبة، وتبرؤ من التاريخ. إنه تعبير صارخ عن عقلية استعمارية داخلية، تُفضل تفكيك البلاد على إعادة هيكلتها بعدل. وكما كتب
W.E.B. Du Bois:
“حين يفقد السادة قدرتهم على السيطرة، يعلنون أن المساواة تهديد للنظام”
ما يفعله كرتي هو إعادة إنتاج هذا المنطق: إنه لا يرى أن الدولة يجب أن تتسع للجميع، بل فقط لمن يشبهونه. ومن هنا، لا يُفهم اقتراحه إلا كجزء من مشروع إقصائي، لا يكتفي بالتهميش، بل يسعى لترحيل من لا ينسجم مع تصوّره المريض للوطن
والسؤال الحقيقي ليس “لماذا تُطالب دارفور بالتغيير؟”، بل “لماذا يخشى كرتي وحركته دولة يتساوى فيها الجميع؟” الإجابة واضحة: لأنهم يعرفون أن المساواة ستُسقط امتيازاتهم، والعدالة ستُدين تاريخهم.
والردّ عليهم ليس بإقناعهم، بل بكشف مشروعهم. فهؤلاء لا يُجادَلون كصانعي حلول، بل يُحاكَمون كصنّاع كوارث ويتم هزيمتهم سياسيا وعسكريا واسقاطهم‫.‬‬
رابعًا: من “الحاكمية لله” إلى تفكيك الوطن باسم العقيدة:
لم يكن مشروع الإسلاميين في السودان تجربة سياسية مدنية، بل نموذجًا مكتمل الأركان لدولة تسلط ديني تغلّف القهر بخطاب شرعي. انطلقت من شعار “الحاكمية لله”، لا باعتباره تعبيرًا عن منظومة قيم، بل كأداة لإقصاء كل من يختلف معهم، وتحويل الدولة إلى امتداد لسلطة طائفية–عسكرية ترى في التنوع تهديدًا، وفي التعدد عدوًا.
منذ إعلان الجهاد على الجنوب، واستخدام الدين لتبرير حروب داخلية، أصبحت عقيدة الحكم عندهم لا تستند إلى المواطنة، بل إلى الولاء العقائدي والجهوي. “أعراس الشهيد” لم تكن شعائر تضحية، بل طقوس تسويغ للموت المجاني، لمنح غطاء ديني لآلة قتل جماعية طالت السودانيين أنفسهم، لا “أعداء خارجيين”
مارسوا ذلك عبر:
– تفكيك المؤسسات القضائية وتحويلها إلى أداة للتأديب الديني؛
– سنّ تشريعات أخلاقية تُجرّم الفقر وتُخضع النساء؛
– عسكرة التعليم والإعلام، وفرض تصور واحد للهوية السودانية؛
– الشباب باسم الدين، وإقصاء كل من لا يندرج في هويتهم المصنوعة.
هكذا، لم تكن الدولة التي بنوها دولةً للسودانيين جميعًا، بل آلية قمع ديني–جهوي أُلبست لبوس القانون.
قال الشيخ أنتا ديوب:
.”الدولة التي تُبنى على التوحيد القسري، تدمّر تعدديتها وتحولها إلى أداة استعمار داخلي”
وهذا تمامًا ما فعلته الحركة الإسلامية: حوّلت السودان إلى ساحة فرز عرقي وعقائدي، حيث تصبح مناطق بأكملها هدفًا مباحًا بحجة “الخروج عن الجماعة.”
اليوم، حين يقترح قادتها انفصال دارفور أو غيرها، فذلك ليس خيارًا سياسيًا، بل إقرار ضمني بأنهم عاجزون عن تخيّل دولة تتّسع لغيرهم. إنهم لا يعترفون بالتعدد، بل يعرضون الطرد كبديل للوطنية.
ولهذا، فإن الرد لا يكون بإصلاح مشروعهم، بل بإسقاطه.
لأن من لم يعترف أبدًا بحق الآخرين في الحياة، لا يصلح شريكًا في صياغة مستقبل تُبنى فيه المواطنة على المساواة، لا الطاعة.
وكل من يساوم على هذه الحقيقة، يشارك في إعادة إنتاج بنية أنتجت الحروب، واستدعت الانفصال، وتواصل اليوم مسارها نحو التدمير الذاتي باسم الله

خامسًا: الردّ على كرتي ليس بالاحتجاج… بل بتأسيس السودان الجديد:
حين يطرح علي كرتي، أحد أبرز رموز النظام الذي أشعل الحروب، فصل دارفور كسبيل للسلام، فإن الردّ لا يكون بنقاش الطرح، بل بمساءلة مصدره. فالحركة الإسلامية – التي كان كرتي أحد عقولها المدبرة – لم تكتف بإشعال الحرب في الجنوب، ودارفور، وجبال النوبة، بل صنعت منظومة سياسية ترى في التنوع تهديدًا، وفي المساواة خطرًا، وفي المطالبة بالحقوق جريمة.
مشروعهم لم يُنتج وطنًا، بل سلطوية مقنّعة بالدين، استثمرت في تفتيت السودان ثقافيًا واجتماعيًا حتى انفجر جغرافيًا. واليوم، بدل الاعتراف بالجريمة، يُقترح ترحيل الضحايا خارج حدود الوطن.
الردّ الجاد ليس في استنكار هذا الهوس العنصري، بل في تقديم مشروع وطني بديل، يُنهي منطق الامتياز، ويضع البلاد على أسس جديدة. وهذا بالضبط ما يقدمه “السودان الجديد”، لا كمصطلح، بل كمشروع تأسيسي.
السودان الجديد يقوم على:
– فصل الدين عن الدولة لصياغة وطن حيادي تجاه معتقدات مواطنيه؛
– حق تقرير المصير بوصفه تعبيرًا ديمقراطيًا عن الاختيار، لا مقدمة للانفصال؛
– جيش قومي جديد لا تديره العقيدة أو القبيلة، بل يُمثل كل السودان؛
– لا مركزية سياسية واقتصادية حقيقية تضمن توزيع السلطة والثروة بعدالة؛
– دستور جديد يؤسس على المواطنة المتساوية لا الامتيازات التاريخية؛
– إعادة كتابة التاريخ من موقع من تمّ إقصاؤهم، لا من موقع المنتصرين
هذه ليست دعوة لتفكيك السودان، بل صياغة شروط بقائه.
أما النخب التي تلوذ بالصمت، أو تكتفي بالتأمل، فحيادها في لحظة يعاد فيها إنتاج خطاب الطرد والتقسيم ليس عقلانية، بل تواطؤ. تمامًا كما حدث قبل انفصال الجنوب: صمت، ثم ذهول، ثم لا شيء!
قال جيمس بالدوين:
.”لا يمكنك أن تُبعد المشكلة عنك، إن كنت أنت المشكلة”
ومن لا يرى في خطاب كرتي والتوم مشكلة، فربما لم ينظر إلى السودان من خارج الخرطوم!
الردّ ليس فقط في تبنّي مشروع “تأسيس” أو الدفاع عن “السودان الجديد”، بل في الوقوف بوجه من يريد أن يختصر الوطن في قبيلته، وعقيدته، وذاكرته الأحادية.
فالسكوت اليوم ليس حيادًا، بل اشتراك في الجريمة القادمة، والذاكرة لاتموت.

أخيرا، لا أهلية لعلي كرتي او الطاهر التوم… لا قانونية، ولا أخلاقية، ولا معرفية.
لا يملك علي كرتي أي شرعية – لا قانونية، ولا سياسية، ولا أخلاقية – لاقتراح مستقبل السودان، بعد أن كان أحد عرّابي نظام قاد البلاد إلى الحروب الأهلية، الإبادة، والانقسام. فالرجل كان من رموز الدولة الدينية التي شرعنت القتل باسم “الجهاد”، وأدارت البلاد بمنطق الإقصاء العرقي والعقائدي.
دعوة كرتي لفصل دارفور ليست رأيًا سياسيًا، بل إقرارٌ صارخ بعجز مشروع الحركة الإسلامية عن التعايش، وعن تأسيس دولة مواطنة. إنه تكرار داخلي لمبدأ “فرّق تسد”، لا يختلف عن ما جرى في مؤتمر برلين 1884 حين قسّم الاستعمار القارة الإفريقية بينه وبين نفسه.
كرتي المشوش علي جهل، لا يتحدث عن حق تقرير المصير بوصفه عدالة تاريخية، بل يقترح الانفصال بوصفه وسيلة للتخلص من مكوّن اجتماعي لا يرغب أن يراه هو وما يمثل شريكًا على قدم المساواة. تلك عنصرية وقحة، لا سياسية حاذقة. وهي عنصرية تُدين صاحبها، ولا تُدين دارفور!
السودان ليس ملكية خاصة، ولا حقًا موروثًا لعلي كرتي او الطاهر التوم او للإسلاميين أيا كانوا. ومن لا يستطيع أن يتخيّل الوطن مشتركًا بين مختلف مكوناته، عليه أن يُسائل مشروعه، لا أن يُقصي من يطالبون بالمساواة.
وكما قال مالكوم إكس:
.”لن تُحل أزمتك ما دمتَ ترفض النظر إلى وجهك الحقيقي في المرآة”
فانظر يا كرتي، لا إلى دارفور، بل إلى نفسك، لترى فشل النظام الذي أنجبك.
مشروعك انتهى إلى انفصال الجنوب، وإبادة في دارفور، وخراب في الخرطوم. والآن، تقترح “الحل”؟
أنتم المشكلة، لا دارفور.
وفي القانون الدولي، ما يطرحه كرتي يقترب من خطاب التحريض العنصري، في مخالفة صريحة لـ
– العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (المادة 2)؛
– اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز العنصري (المادة 4)؛
– مبادئ نورمبرغ التي تجرّم أي دعوة سياسية تؤسس للتمييز أو التقسيم العرقي
أما أخلاقيًا، فإن كرتي – الذي لم يُحاسَب، ولم يعتذر – يمثل ما وصفه باولو فريري بـ”خطاب الطغاة العُميان”
“حين يفشل مشروعهم، لا يراجعون أنفسهم، بل يقترحون التخلّص من الضحية”
دارفور ليست عبئًا على السودان.
أنتم العبء
فليُسجّل التاريخ:
من اقترح التقسيم هم من رفضوا المساواة، لا من طالبوا بها.
ومن ينادون بالسودان الجديد، هم من يقاتلون لأجل أن يبقى هذا الوطن واحدًا، على قاعدة العدالة.
النضال مستمر.
والنصر اكيد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *