الهجرة العكسية من المركز إلى الهامش: التداعيات الاقتصادية لهروب رأس المال البشري

الهجرة العكسية من المركز إلى الهامش: التداعيات الاقتصادية لهروب رأس المال البشري
بقلم: طارق عبداللطيف ابوعكرمة
تُعد الحروب والصراعات المسلحة أحد أبرز العوامل التي تُحدث تحولات عميقة في هيكل الاقتصاد ونمط توزيع السكان. وفي الحالة السودانية، شكّلت الحرب المستعرة منذ منتصف أبريل 2023 نقطة تحول حادة، ليس فقط على مستوى الخرائط الجغرافية والسياسية، بل كذلك على مستوى إعادة تشكيل العلاقة بين المركز والأطراف. لقد أفرزت هذه الحرب ظاهرة غير مألوفة في سياق التنمية السودانية وهي الهجرة العكسية، أي انتقال أعداد كبيرة من المواطنين – وبالأخص ذوي التعليم والمهارات المتوسطة والعليا – من العاصمة الخرطوم نحو الأقاليم، التي كانت تُوصف تاريخيًا بالهامش. وتُمثل هذه الهجرة واحدة من أكثر الظواهر الاقتصادية والاجتماعية تعقيدًا في الراهن السوداني، نظرًا لما تحمله من تداعيات على رأس المال البشري، وسوق العمل، والأنشطة الإنتاجية، والطلب على الخدمات، بل وعلى مستقبل التوازن التنموي نفسه.
لطالما شكّلت الخرطوم بوصفها العاصمة مركز جذب اقتصادي واجتماعي وإداري طوال العقود الماضية، حيث تتركّز فيها مؤسسات الدولة، والبنية التحتية المتقدمة نسبيًا، والجامعات، والمستشفيات، والأنشطة الصناعية والخدمية الأساسية. وعلى مدى أكثر من نصف قرن، تمركز رأس المال البشري، بكافة مستوياته، في هذا المركز، بينما ظلّ الهامش يعاني من ضعف التمويل العام، وغياب فرص العمل الرسمية، وهشاشة التعليم والصحة، ومحدودية الوصول إلى الخدمات. وقد ساهم هذا الوضع في تعزيز مركزية الدولة السودانية وتركيز الثروة، لكنه في الوقت نفسه خلق فجوات عميقة في التوزيع المكاني للفرص، وأسس نمطًا مشوّهًا من التنمية.
مع اندلاع الحرب في الخرطوم، وما تبعها من تدمير واسع للبنية التحتية، وتعطيل للمرافق، وانهيار لسلاسل الإمداد، وانعدام الأمن، وجدت شرائح كبيرة من السكان – لا سيما ذوي الدخل المتوسط والمهن الحرة، وأصحاب المشروعات الصغيرة، والموظفين والمهنيين – أنفسهم في مواجهة خيار حتمي بالفرار من العاصمة نحو مناطق أكثر استقرارًا نسبيًا. ولم تكن هذه الهجرة مقصورة على فئة اجتماعية محددة، بل شملت معلمين وأطباء ومهندسين وحرفيين وطلاب جامعيين، ما يعني أن رأس المال البشري، الذي يُعد أهم عنصر في معادلة النمو الاقتصادي، بات يتسرب من المركز بشكل عشوائي وغير مخطط.
اقتصاديًا، تُمثل هذه الهجرة العكسية سيفًا ذا حدين. فمن جهة، يمكن أن تؤدي إلى تخفيف الضغط السكاني على العاصمة المدمّرة، وتُشكّل فرصة لإعادة توزيع الكفاءات والمهارات نحو الأقاليم التي كانت تعاني من نقصها. إذ يمكن أن يساهم وجود أطباء ومعلمين ومهنيين في تحفيز الاقتصاد المحلي، وتحسين الخدمات، وتشجيع إنشاء مشروعات جديدة، خاصة في مجالات الصحة، التعليم، التجارة، الزراعة، والخدمات اللوجستية. ومن جهة أخرى، فإن هذا الانتقال المفاجئ وغير المخطط له، يضع ضغوطًا كبيرة على الأقاليم التي تفتقر في الأصل إلى بنية تحتية مناسبة، وقد يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات دون أن يقابله نمو في المعروض، مما ينتج عنه ارتفاع في الأسعار، واختلالات في السوق، واحتكاكات مجتمعية ناتجة عن التنافس على الموارد النادرة.
أكثر ما يثير القلق في هذه الظاهرة، هو أن الدولة السودانية، في ظل ظروف الحرب، ليست في وضع يسمح لها بوضع سياسات استيعاب وتنمية محلية مرنة. إذ تفتقر الإدارات المحلية إلى الموارد والسلطات، وتُعاني المؤسسات الرسمية من ضعف القدرة على التخطيط والاستجابة. وفي هذا السياق، فإن تدفّق رأس المال البشري نحو الهامش قد يُفرغ المركز من قواه العاملة الأكثر تأهيلاً، ويُضعف من فرص إعادة الإعمار لاحقًا، ويزيد من تدهور المؤسسات الكبرى، لا سيما في مجالات التعليم العالي، والقطاع المصرفي، والأنشطة البحثية، وهي مجالات تحتاج إلى سنوات لإعادة بنائها إذا تم فقدان كوادرها بالكامل.
كما أن انتقال المهارات والخبرات إلى مناطق غير مجهزة اقتصاديًا قد يؤدي إلى ما يُعرف بـ “الإهدار الصامت”، أي عدم القدرة على الاستفادة القصوى من الكفاءات بسبب غياب الفرص النظامية أو المشاريع القادرة على استيعابهم. وهذا ما يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الاقتصاد المحلي في الأقاليم، ومدى قدرته على التحول من اقتصاد معيشي إلى اقتصاد إنتاجي، قادر على توظيف هذه الطاقات والاستفادة منها في مشاريع استراتيجية على المستوى القطري.
وعلى المدى البعيد، فإن هذه الظاهرة قد تُفضي إلى نتائج متباينة. فإما أن يُعاد بناء نموذج اقتصادي جديد أكثر عدالة وتوازنًا يقوم على التوزيع الأفقي للفرص، وتطوير الهياكل المحلية، وخلق أقطاب إنتاج جديدة في خارج العاصمة، أو أن تتحوّل هذه الهجرة العكسية إلى مرحلة انتقالية نحو المزيد من الهجرة الخارجية، حيث يسعى رأس المال البشري إلى الخروج من البلاد نهائيًا. وفي الحالتين، فإن مستقبل التنمية في السودان مرهون بإجابات الدولة والمجتمع عن هذا التحدي الراهن.
إن إعادة صياغة السياسات الاقتصادية في ظل هذا الواقع الجديد تقتضي فهمًا دقيقًا للمتغيرات السكانية، وتقييمًا موضوعيًا لقدرات المناطق المستقبِلة، وإرادة سياسية لصياغة رؤية تنموية تتجاوز المركزية المدمِّرة، نحو لا مركزية ديناميكية تشجع على التوطين الذكي لرأس المال البشري وتخلق بيئة حاضنة للإنتاج والإبداع. وفي غياب هذا الإطار، فإن الهجرة العكسية ستبقى مجرد استجابة اضطرارية مؤقتة لأزمة أعمق، وقد تكون مقدّمة لانهيار أكبر في البنية الاقتصادية والاجتماعية للسودان. إن الرهان الحقيقي ليس فقط في استيعاب من هربوا من الحرب، بل في بناء بيئة يُختار العيش والعمل فيها، لا الهروب منها.