خالد كودي: موت شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” .. قراءة في وهم استعادة لحظة ديسمبر!

8
خالد كودي

موت شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”: قراءة في وهم استعادة لحظة ديسمبر”

خالد كودي، بوسطن

 

مدخل:
من بين شعارات ثورة ديسمبر 2018، برز شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” كشعار مركزي ووجداني، عبّر عن مطلب مشروع بفصل المؤسسة العسكرية عن المجال السياسي، وحل المليشيات، وعلى رأسها قوات الدعم السريع التي ارتبطت في الوعي الجمعي بفظائع دارفور ومجزرة القيادة العامة في يونيو 2019. كان الشعار في حينه استجابة منطقية لسياق الانتفاضة ضد نظام عمر البشير، ومحاولة لتأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على مدنية الدولة، وسيادة القانون، ووحدة القوات النظامية تحت قيادة مهنية غير مسيّسة.
لكن، بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الثورة، وانفجار الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، وما تلاها من انهيار مؤسسات الدولة، وتفكك العاصمة، وتهجير أكثر من ثمانية ملايين سوداني داخليًا وخارجيًا، أصبح التمسك الميكانيكي بهذا الشعار أشبه بالحنين القهري إلى لحظة لم يعد لها وجود سياسي موضوعي اصلا. فالعسكر لم يعودوا في الثكنات ولا خارجها، بل أصبحوا أطرافًا متصارعة في حرب أهلية مركّبة، والدعم السريع لم يُحل، بل صار ندًّا عسكريًا ومسيطرًا فعليًا على نصف البلاد، ودخل في تحالفات جديده بمشروع جديد.
إن إعادة تكرار هذا الشعار اليوم، خارج أي سياق تحليلي موضوعي، وليس فقط انقطاعًا عن الواقع، بل يمثل أداة لتخدير الخيال السياسي، وتأجيل مواجهة الأسئلة الحقيقية التي فرضها واقع الحرب. كما أنه يتحوّل إلى سردية سلبية مضادة للتغيير الجذري، يُستخدم في الغالب من قبل قوى ونخب عاجزة عن إنتاج أدوات جديدة، وتخشى التحول من شعار المقاومة إلى برنامج التأسيس.
هذا المقال يسعى إلى تفكيك وهم استعادة لحظة ديسمبر بكل شعاراتها، من خلال تحليل متعدد التقاطعات – سياسي، قانوني، تاريخي، ونفسي – ليبيّن أن اللحظة الثورية الراهنة تقتضي رؤية جديدة، أدوات جديدة، وتحالفات تأسيسية جديدة تتجاوز الدولة القديمة ومفرداتها المهترئة، نحو وطن جديد وسودان لا يُبنى من المركز، بل من هامشه المحترق.

أولًا: التحليل التاريخي – من الشعار إلى المأزق البنيوي:
عندما طُرح شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” في ذروة الحراك الشعبي أواخر عام 2018 وبدايات 2019، كان ذلك في سياق الانتقال السياسي الذي بدأ بعد سقوط عمر البشير في 11 أبريل 2019، وفي خضم مفاوضات قوى إعلان الحرية والتغيير مع المجلس العسكري الانتقالي. في تلك اللحظة، ساد اعتقاد واسع بأن الدولة السودانية يمكن إصلاحها عبر نموذج الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وأن الجيش، كمؤسسة، لا يزال قابلاً للإصلاح، فيما تُحل المليشيات كالدعم السريع – وحركات الكفاح المسلح (الدارفورية) في إطار عملية إصلاح أمني مؤسسي شامل.
لكن هذا الرهان سرعان ما أثبت محدوديته، لا سيما بعد مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو 2019، والتي نفذتها قوات الجيش و الدعم السريع وقوات ملحة تتبع للنظام القديم، كما أشارت تقارير عدد من المنظمات الحقوقية. ورغم ذلك، وُقع في 17 أغسطس 2019 الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية، التي ثبتت شراكة معلّقة ومضطربة، ووضعت المؤسسة العسكرية في موقع السيادة، بينما استبعدت مساءلة فعلية عن جرائم النظام السابق والقيادة العامة.
الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، أطاح عمليًا بالشراكة وأعاد السلطة المطلقة للمكون العسكري، وأثبت أن الجيش لم يكن شريكًا في الانتقال، بل خصمًا تكتيكيًا، يخوض مفاوضات من موقع الهيمنة، لا من موقع المساواة. هذه اللحظة كانت نهاية عملية إصلاح الدولة من الداخل.
ثم جاءت الحرب المفتوحة التي اندلعت في 15 أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، لتُسقط بشكل نهائي الوهم القائل بوجود مؤسسة عسكرية موحدة يمكن إعادة تأهيلها. فقد كشفت الحرب عمق الانقسام البنيوي في مؤسسات الدولة الأمنية، وأثبتت أن الجيش نفسه لم يعد كيانًا وطنيًا جامعًا، بل أصبح طرفًا في شبكة ميليشياوية متشظية، تتنازع فيها قوات الدعم السريع، القوات الخاصة، الاستخبارات، وفلول النظام السابق، النفوذ والسلطة والثروة.
الواقع اليوم يؤكد أن الدولة السودانية منذ الاستقلال عام 1956 تأسست كبنية فوقية مركزية عنيفة، تستند إلى احتكار إثني–جهوي للسلطة، وأن مؤسساتها، وعلى رأسها الجيش، لم تكن يومًا محايدة أو مهنية، بل أدوات في يد النخب الحاكمة لإعادة إنتاج الهيمنة. وهذا ما فشلت كل التجارب الانتقالية في تغييره، لأنها تعاملت مع الدولة كإطار يمكن ترميمه، لا كمنظومة يجب تفكيكها جذريًا وإعادة تأسيسها من الهامش.
من هنا، فإن شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” لم يعد يمتلك أي وظيفة سياسية حقيقية، لأنه يفترض وجود مؤسسة يمكن عزلها عن المليشياوية، في حين أن كليهما – الجيش والدعم السريع – نابعان من نفس المنظومة العنيفة، ويتشاركان في إعادة إنتاج الدولة القديمة الي ان وقعت قوات الدعم السريع علي تحالف “تأسيس” لتتغير المعادلة والموقف من بنية دولة السودان القديم.

ثانيًا: التحليل السياسي – من سردية التظاهر إلى بنية الصراع الجديدة:
التمسك الحالي بشعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” يعكس في جوهره تعلقًا بسردية سياسية تاريخية مألوفة في السودان، نشأت وتكررت منذ ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985 وحتى ثورة ديسمبر 2018. تقوم هذه السردية على نموذج تغيير تقليدي يبدأ باندلاع العصيان المدني أو الإضراب السياسي، غالبًا من الجامعات أو المدن المركزية، ثم انضمام النقابات وطلائع الطلاب، قبل أن يتحرك الشارع في العاصمة، لتتكرر في النهاية اللحظة الحاسمة: انحياز بعض ضباط الجيش للمطالب الجماهيرية، واستلام السلطة باسم “المرحلة الانتقالية” .

غير أن الواقع يكشف أن ما يُسمى بـ”المرحلة الانتقالية” لا يقود إلى تحول ديمقراطي حقيقي، بل ينتهي دومًا بإجراء انتخابات شكلية تُدار في ظل اختلال بنيوي عميق، تُهيمن عليه نخب تسيطر على مفاصل الثروة والسلطة. تُنتج هذه الانتخابات حكومات مركزية تُعيد تدوير نفس القوى الحزبية والمدنية التقليدية، بينما يُمنح الهامش تمثيلًا رمزيًا هشًا لا يمتلك أي تأثير فعلي.
ورغم الشعارات المرفوعة عن “المدنية” و”التحول”، فإن هذه الحكومات لا تمس البنية الأمنية للدولة، بل تبقي على الأجهزة القمعية كما هي، وتُدير العملية السياسية داخل إطار الحرب والتهميش، ما يضمن في كل مرة عودة النخبة نفسها تحت مسميات جديدة، ومن دون أي تغيير جوهري في بنية السلطة.

الأهم من ذلك، أن هذه الانتفاضات لم تكن يومًا صناعة مركزية خالصة. ثورة ديسمبر 2018 مثلًا بدأت من الدمازين اولا، ثم عطبرة، وتحرك الهامش في وقت كانت فيه النخبة السياسية في المركز تائهة بين صمت وانتظار. كذلك، انتفاضة أبريل 1985 اندلعت تحت ضغط الانهيار الاقتصادي الذي فجرته تكاليف الحرب في الجنوب، وهو نفس النمط الذي يتكرر: الحرب على الهامش تستهلك موارد الدولة، وتدفع بالمركز إلى أزمة اقتصادية تؤدي إلى انفجار اجتماعي، وقد لعبت الحركات المسلحة دورًا أساسيًا في هذا المسار التاريخي.. فرضت هذه الحركات على الدولة حالة من الإنفاق الأمني الدائم، أخلت بأولويات الميزانية، وسحبت موارد الأنظمة الديكتاتورية، ما عمّق الأزمة المعيشية في المركز، وساهم في تهيئة الظروف لاندلاع الانتفاضات.
لكن في كل مرة، كان يتم تفريغ الانتفاضة من بعدها البنيوي، وتحويلها إلى مناسبة لإعادة تدوير السلطة في الخرطوم، تحت نفس الشعارات التي تنادي بـ “إبعاد العسكر”، في حين أن بنية الدولة ذاتها، التي ولّدت هذا النوع من العسكر والمليشيات معًا، تظل قائمة دون مساءلة حقيقية.
لذا فإن من يكرر هذا الشعار اليوم، دون ربطه بالسياق الجديد الذي فرضته حرب 15 أبريل 2023، إنما يعيد إنتاج وهم سياسي تجاوزه الواقع:
– لأننا لم نعد في معركة انتقال مدني ضد سلطة انقلاب، بل في حالة تفكك كامل للدولة المركزية
– لأن الجيش لم يعد مؤسسة يمكن فصلها عن المليشيات، بل هو جزء منها.
– لأن من يحاول إحياء سردية “انحياز الجيش للشعب” يغفل أن هذا الجيش نفسه قتل ويقتل الشعب و تشظّى داخليًا، وصار أداة صراع لا وسيلة إصلاح.
– ولأن القوى الثورية الجديدة، خصوصًا تحالف “تأسيس”، تعمل على تأسيس جيش جديد على أسس غير مركزية وتمثيلية شاملة، بدلًا من إصلاح منظومة قمعية انتهى عمرها السياسي والتاريخي وأصبحت غير قابلة للاصلاح.
إن استدعاء هذا الشعار اليوم لا يعبّر عن تمسك بالثورة، بل عن إنكار لبنيتها الجديدة، وتجاهل لما أحدثته الحرب من تفكيك شامل للمنظومة القديمة. إنه نداءٌ لإعادة ترتيب مشهدٍ لم يعد قائمًا، بينما الثورة الحقيقية تتحرك بالفعل، ولكن من خارج الخرطوم، من مواقع المقاومة لا من مكاتب الورش، ومن مشروع جذري لا من أدوات الماضي .

ثالثًا: التحليل القانوني – من الجريمة إلى مشروع المحاسبة المؤسسية:
في القانون الدولي الإنساني، لا يُحاسب الفاعل فقط على أفعاله الفردية، بل تُساءل المؤسسة عندما تكون بنيتها التنظيمية قائمة على العنف أو الانتهاك المنهجي. ولهذا، فإن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يتحملان، كلٌّ من موقعه، مسؤوليات جسيمة نتيجة سجلهما الطويل من الجرائم والانتهاكات، بدءًا من دارفور، مرورًا بمجزرة القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وصولًا إلى الفظائع التي وقعت منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023.
لكن التمييز الانتقائي بين هاتين القوتين – بالدعوة لحل الدعم السريع وحده وتبرئة الجيش ليعود للثكنات ويعيد تأهيل نفسه – يُكرّس ازدواجية خطيرة في العدالة، ويفرغ مبدأ “عدم الإفلات من العقاب” من مضمونه
في هذا السياق، يُعد توقيع الدعم السريع على ميثاق تأسيس نقطة تحوّل قانونية–سياسية مهمة. فالتحالف لا يبرّئ، بل يُلزم، وينص بوضوح في مواضع متعددة على:
– العدالة التاريخية كمدخل لإعادة بناء الدولة على أسس الإنصاف
– عدم الإفلات من العقاب بوصفه مبدأً مؤسسًا لأي انتقال سياسي حقيقي
– خضوع كافة القوات، بما فيها الدعم السريع، للقيادة السياسية المدنية
– إنشاء آليات عدالة انتقالية مستقلة ومحايدة
وقد عبّر القائد عبد العزيز آدم الحلو، أحد القادة المؤسسين لتحالف تأسيس، بوضوح عن هذا الالتزام بقوله:
. كل من ارتكب جريمة ضد المدنيين، أيا كان موقعه، لن يفلت من العقاب
وعلى النقيض من ذلك، فإن التعديلات التي أجراها الفريق عبد الفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية في أعقاب انقلابه في 25 أكتوبر 2021، جاءت لتكرّس سلطة الجيش وتمنحه صلاحيات مطلقة، من أبرزها:
– المادة التي تمنح مجلس السيادة (الخاضع للعسكر) صلاحية إعلان الحرب دون الرجوع لسلطة مدنية.
– إلغاء أو تعطيل إنشاء المجلس التشريعي الذي يمارس الرقابة على القوات النظامية.
– تغييب مبدأ مساءلة الجيش وجهاز الأمن أمام القضاء.
– الإبقاء على الحصانات القانونية لقادة المؤسسة العسكرية.
لقد تحولت هذه الوثيقة، بفعل التعديلات، إلى مظلة تشريعية للسلطة العسكرية المطلقة، تُغلق المجال السياسي أمام أي مساءلة أو تحول ديمقراطي حقيقي.
وهنا تتجلى المفارقة: فبينما تُمنح المؤسسات العسكرية حماية دستورية من المحاسبة، يقدّم تحالف “تأسيس” ميثاقًا ثوريًا يُلزم كل أطرافه بالمساءلة دون استثناء. وهو ما يجعله أول تحالف في تاريخ السودان يربط بين الشرعية السياسية والمشروعية الأخلاقية–القانونية.
تاريخيًا، تؤكد تجارب مثل جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، وكولومبيا بعد اتفاقات السلام، أن الاعتراف السياسي بالانتهاكات، والقبول بالمساءلة، ودمج القوى المسلحة ضمن مشروع سياسي مدني مشروط، هو ما يسمح بإنهاء العنف دون التضحية بالحقيقة أو العدالة.
وبناء على ذلك، فإن فرصة الدعم السريع في تحسين وضعه القانوني لا تقوم على الإنكار أو الإنفلات، بل على الالتزام الكامل بما ورد في ميثاق تأسيس من محاسبة ومساءلة وعدالة تاريخية، وهي شروط لا تميّز بين فصيل وآخر، بل تقيم العدالة على قاعدة مشتركة: لا حماية لأحد، ولا تبرئة لأحد.

رابعًا: التحليل النفسي–الثقافي – الحنين كآلية دفاع، والذاكرة كحقل فني مشتبك:
في علم النفس التحليلي والاجتماعي، يُعرف التمسك بالشعارات التي فقدت فعاليتها وسياقها العملي بآلية دفاع نفسية تُسمى بـالاجترار الرمزي
(Symbolic Rumination)
هذه الآلية، كما فصّلها ليون فيستنغر ضمن إطار نظريته حول التنافر المعرفي، تُستخدم لتفادي الاعتراف بانهيار المرجع، أو لمقاومة إدراك التناقض بين الواقع الجديد والمعتقدات القديمة. العقل الجمعي، في لحظات الانكسار، لا يبحث عن الحقيقة، بل عن الثبات، وعن ما يمنحه شعورًا بالانتماء والاستمرارية، حتى وإن كان ذلك على حساب الفهم النقدي أو السياسي العميق.
وفي الحالة السودانية، تحديدًا بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، لا يزال قطاع واسع من الناشطين والقوى المدنية يتمسك بشعارات من زمن آخر، وعلى رأسها شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”، دون مساءلة ما إذا كانت شروط ذلك الشعار لا تزال قائمة، أو ما إذا كان أصلاً السياق السياسي والاجتماعي والمؤسسي يسمح له بأن يكون أداة فاعلة في مواجهة الواقع
التمسك بهذه الشعارات، في عمقه النفسي، ليس فعلًا سياسيًا خالصًا، بل طقس دفاعي ضد الصدمة، وضد الانهيار الرمزي الذي تعرض له مشروع ديسمبر. فالحنين إلى تلك اللحظة التي توهّجت فيها الجماهير في الشوارع، والتي تغنّى بها الشعراء، وغنّاها الفنانون، ورسمها التشكيليون، وألهبتها الجداريات في القيادة العامة، ليس مجرد تذكّر، بل هو عملية استعادة داخلية لهوية جمعية كانت واعدة، وموحدة، ومضيئة، قبل أن تتشظى تحت وقع البارود..
وبوصفي كاتب هذا النص وكفنان بصري، فقد كنت ولا ازال جزءًا من هذا الجهد الرمزي والجمالي الذي رافق ثورة ديسمبر. أنتجت أعمالًا بصرية وتراكيب تحتفي بروح الثورة، بالضحايا، بالشوارع التي تحوّلت إلى أمكنة مقدسة. رسمتُ لوحات تُخلّد الهتاف، تُكرّس المجد، وتُشيّد المعنى الثوري في فضاءات الفن. وكنت ولا ازال، مثل كثيرين من التشكيليين، مؤمنًا أن الفن يمكنه أن يحرس الذاكرة، أن يُقاوم النسيان، وأن يُطيل عمر اللحظة الثورية إلى ما بعد سقوط النظام…..
لكن، مع مرور الزمن، ومع اشتداد تناقضات الدولة، ثم انفجارها، صار واجبًا علينا أن نعيد النظر، لا في جماليات تلك اللحظة فقط، بل في قابليتها لأن تُستعاد كما هي كأداة سياسية. فكما يحذر يان أسمان في دراسته حول الذاكرة الثقافية، فإن الشعوب التي لا تنتقل من ذاكرة المجد إلى ذاكرة النقد، تتحوّل شعاراتها إلى أنصاب حجرية، مجمدة، ومعطّلة للخيال السياسي.
ففي السودان، تحوّلت شعارات مثل:
“حرية، سلام، وعدالة”
“يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور”
“الشعب أقوى والردة مستحيلة”
من أدوات تحشيد ثوري إلى أيقونات شعرية وموسيقية تُستعاد في المناسبات، دون أن تُحرّك استراتيجيات سياسية جديدة!
ما جرى هو نقل للثورة من المجال السياسي إلى المجال الرمزي–العاطفي. الشعراء كتبوا، الفنانون رسموا، الأصوات علت، لكن السؤال المؤجل ظلّ هو: ما العمل؟، لا ماذا قالوا؟، ولا ماذا غنّينا؟
تجارب كثيرة تؤكد هذه المفارقة. ففي ثورات الربيع العربي، وخصوصًا في مصر وتونس، استُعيدت شعارات مثل “الشعب يريد إسقاط النظام”، حتى بعد سقوط الأنظمة، وظلّ الحنين إلى الميدان (ميدان التحرير في القاهره، شارع الحبيب بورقيبة في تونس) يُستخدم كبديل عن البرنامج، فيتحوّل إلى قيد رمزي بدل أن يكون أداة تحرير. وهو ما وصفه بول ريكور في دراسته حول الذاكرة والهوية، بأن الذاكرة حين لا تُصحب بالنقد، تتحول من أداة تحرر إلى جهاز إنكار جماعي.
في السودان اليوم، حين نسمع تكرار:
“نحن دايرين نرجع الميدان”،
علينا أن نسأل:
أي ميدان؟
وأين هو الآن؟
ومن يملكه؟
وأي جيش نخاطبه ليعود إلى الثكنات؟
هل هو الجيش الذي تمزق؟
أم مليشيات الحرب التي نشأت من أحشائه؟
وأي حل سياسي؟ في أي مدينة؟ وبأية مؤسسات؟
إن الثورة لا تعني فقط تكرار الشعارات، بل تعني تفكيك أسباب انهيارها، وإعادة إنتاج أدواتها من داخل الأسئلة الصعبة لا من ذاكرة المجد.
وإن مسؤولية الفنان، والمثقف، والناشط، لا تنتهي عند تخليد اللحظة، بل تبدأ من مساءلتها.
أن نحب ديسمبر لا يعني أن نُقفل الباب أمام ما بعدها،
وأن نحترم الشهداء لا يعني أن نُجمد التاريخ عند قبورهم،
بل أن نبني طريقًا جديدًا يحميهم من النسيان، ويحمينا من الاجترار.

خامسًا: علم الاتصال السياسي – من الشعار إلى العجز التعبوي والبنية الإثنية للخطاب:
في إطار دراسات الاتصال السياسي، وتحديدًا ضمن ما يُعرف بـ”ديناميكيات التأطير الرمزي”
(Symbolic Framing Dynamics)
يُنظر إلى الشعار السياسي كوسيط تعبوي لا يعمل في الفراغ، بل يستمد قوته من ارتباطه بسياق اجتماعي–سياسي واقعي، قابل للتحول والتحدي. وعندما ينفصل الشعار عن هذا السياق، أو يُستعاد في ظرف مغاير لمولدِه، فإنه لا يفقد فاعليته فقط، بل يتحوّل إلى أداة تشويش معرفي، أو إلى صدى رمزي يكرّس الشلل ويمنع التطوّر.
من هذا المنطلق، يصبح شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”، الذي صيغ في مرحلة ما بعد فض الاعتصام، تعبيرًا عن رغبة مشروعة في إبعاد المؤسسة العسكرية والمليشيات من المجال السياسي. إلا أن استمرار استخدام هذا الشعار اليوم دون مراجعة نقدية، يُنتجه بوصفه وسيطًا بلاغيًا لتأجيل الأسئلة الحاسمة حول مشروع بناء الدولة، والقوة، والمساءلة.
في هذا السياق، فإن الأبحاث الكلاسيكية في علم الاتصال السياسي، مثل دراسات إليزابيث نويل نيومان حول دوامة الصمت، تؤكد أن الشعارات التي تنفصل عن الفعل السياسي، تتحول إلى أدوات تُخلق فيها حالة وهمية من الاتفاق العام، بينما هي في الواقع تُخفي غياب الاستراتيجية والانقسام داخل الحقل الاجتماعي. وقد وصف جورج أورويل هذا النمط حين حلّل كيف تُستخدم اللغة السياسية كساتر رمزي لإدامة الجمود ومنع التحول.
إن تكرار شعار مثل “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” دون استيعاب واقع الانقسام العسكري والميليشياوي، ودون تقديم مشروع بديل، يندرج ضمن ما يسميه علم النفس السياسي بـ”الإشباع الرمزي الخادع”
(Symbolic Saturation)
– وهو نمط تتكرر فيه الشعارات حتى تغدو بديلاً مريحًا عن الفعل، وتُنتج وهم التمكين، لا التمكين ذاته
الأخطر من ذلك، أن الشعار نفسه يُعيد إنتاج تقسيم إثني مستبطن داخل الخطاب السياسي. فحين يُفصل بين “الجيش” و”الجنجويد”، دون مساءلة البنية التي أنشأتهما معًا، فإن هذا الفصل يُخفي حقيقة أن الجيش السوداني، كمؤسسة، هو تعبير تاريخي عن السلطة المركزية، ومصالحها، وأدوارها القمعية ضد الأطراف. جيش تم تكوينه منذ الاستقلال ليحرس الدولة لا ليحمي المجتمع، وليؤمّن امتيازات النخبة لا حقوق الهامش.
بينما “الجنجويد”، رغم استخدامهم في مهام قذرة لصالح المركز، فإن تكوينهم الاجتماعي–القبلي–الجغرافي، ينتمي للهامش، وإن تسيّس لاحقًا وتحوّل إلى فاعل مأزوم. هذا التعقيد لا يمكن تجاوزه بشعار يُشيطن طرفًا ويُبرّئ الآخر، خاصة حين يكون أحدهما قد استفاد تاريخيًا من شرعية الدولة، والآخر استُخدم كأداة ضمن هندسة القمع نفسها.
إن شعار “السلطة سلطة شعب والثورة ثورة شعب”، رغم شاعريته، ظلّ يعاد إنتاجه بنفس الطريقة، دون ربطه بسؤال: من هو الشعب؟ ومن يمثّله؟ وهل المركز، المتحكم تاريخيًا في السلطة والثروة، يمكنه الحديث باسم “الشعب” دون مساءلة بنيته؟ وهل الجيش، الذي ظل يحرس بنية الدولة الإثنية–الطبقية، يمكن فصله عن مشروع الهيمنة فقط لأنه يرتدي الزي الرسمي؟
إن استمرار استخدام هذا النوع من الشعارات، دون مساءلة حقيقية للبنية الإثنية للسلطة، يساهم في إدامة مركزية القرار، واحتكار التمثيل السياسي من قبل نخب ترى في التقدّم نحو ميثاق جديد انبثق من الهامش تهديدًا مباشرًا لمواقعها التاريخية
نموذج مشابه نراه في الولايات المتحدة ما بعد حركة الحقوق المدنية. فشعار:
“We Shall Overcome”
الذي كان تعبويًا في الخمسينات والستينات، تحوّل لاحقًا إلى رمز فارغ، يُستخدم في سياقات خالية من الفعل الراديكالي/ الجذري. كما بيّنت أنجيلا ديفيس، فإن الشعار أصبح وسيلة استدعاء للنوايا الأخلاقية، لا أداة لبناء بديل جذري.
بالمثل، فإن شعارات ديسمبر، حين تُستخدم اليوم كأدوات تجميلية، تخلق بيئة سياسية تحتمي باللغة وتمنع الخيال السياسي من تجاوز الخرطوم ومفردات نخبها. فيتحوّل الخطاب من وسيلة تحرير إلى حلقة مغلقة من التكرار، تمنع إعادة التفكير، وتحاصر كل إمكانية للانتقال إلى مشروع تأسيسي جديد.
في الاتصال السياسي الناجح، الشعار ليس مجرد صيغة تحفيزية، بل تجسيد مكثّف لرؤية كاملة تُنتج أدواتها ومؤسساتها. وإذا غابت الرؤية، أو تغيّر السياق، فإن الشعار يتحوّل إلى حجاب رمزي يحجب الضرورة التاريخية لإعادة البناء من الجذور
وعليه، فإن السؤال ليس: كيف نُكرّر الشعار؟ بل: هل لدينا مشروع يعيد تعريف من هو الشعب، ما هي الدولة، وما هي القوة؟ وهل الشعار اليوم يُحرّك الناس نحو التأسيس، أم يُعيدهم إلى ترديدٍ مريح يُعفيهم من التفكير؟
إن الخطاب السياسي الذي لا يحرّر الجماهير من الوهم، هو جزء من المنظومة التي يسعى لإسقاطها.

سادسا: نحو بديل جذري – من تفكيك المليشيات إلى تفكيك الدولة:
لا يمكن بناء دولة جديدة على أنقاض شعارات فقدت صلاحيتها التاريخية، تمامًا كما لا يمكن تحميل المليشيات وحدها مسؤولية الانهيار، بينما يُبرّأ الكيان الذي أنشأها، وشرعنها، وغذّاها لعقود. إن اختزال الأزمة السودانية في صراع بين مليشيات متفلتة يُخفي الحقيقة الجوهرية: أن الدولة السودانية نفسها – منذ استقلالها عام 1956 – لم تكن يومًا دولة مواطنة، بل كانت دولة مليشياوية في شكلها المؤسسي، إثنو–مركزية في تكوينها، وعنيفة في جوهرها..
فمنذ نشأتها، مارست الدولة المركزية وظيفة حماية امتيازات طبقة سياسية ضيقة على حساب الأغلبية المهمشة. وقد استخدمت لتحقيق ذلك، أدوات عسكرية نظامية وغير نظامية، حيث كانت القوات المسلحة، والدفاع الشعبي، والشرطة، وحتى المليشيات القبلية المدعومة، جزءًا من آلة السيطرة التي توزّع العنف باسم السيادة.
ومن هنا، فإن الدعوة إلى “هزيمة المليشيات” دون الاعتراف بأن الدولة نفسها كانت أكبر مليشيا مؤسسية، ليست سوى استعادة لخطاب الوهم والإصلاح التدريجي الذي فشل مرارًا. المطلوب اليوم ليس مجرد تغيير الفاعلين داخل اللعبة، بل تفكيك قواعد اللعبة نفسها.
ما نحتاجه فعليًا، وبلا مواربة، هو ما يلي:
– تأسيس جيش جديد لا يستمد شرعيته من “التاريخ العسكري” أو من المركز السياسي، بل من عقد اجتماعي جديد يضمن التمثيل العادل لكل أقاليم السودان، ويُعيد تعريف “الوطنية” باعتبارها التزامًا بالعدالة، لا بالولاء الجغرافي أو الإثني. جيش تُبنى عقيدته على حماية المواطن لا النظام.

اخيرا: لا مستقبل يُبنى على شعارات قد استُهلكت – وفضح احتكار النخب لزمن الثورة:
لقد فقد شعار “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل” وظيفته كتعبير سياسي حيوي. ليس لأنه كان خاطئًا في جوهره، بل لأنه أُفرغ من مضمونه، وتحول إلى ملاذ لغوي للإنكار، وغطاء نفسي للهروب من مواجهة الحقيقة: أن الدولة القديمة انهارت، والجيش لم يعد كيانًا يمكن إصلاحه، وأن الصراع بات بين مشروعين، لا بين انقلاب ومرحلة انتقالية.
في قلب هذا الإنكار، تقف النخب السياسية المركزية – بوجهها المدني المزيَّف – عاجزة عن توليد بديل، لكنها ترفض الاعتراف بانتهاء عصرها، فتتمسّك بالشعارات لا لأنها تؤمن بها، بل لأن أي تقدم خارج هذه الشعارات يُهدد مكاسبها التاريخية ومواقعها الرمزية.
إن تمسّك هذه النخب، من مواقع النفوذ وخلف واجهات “الدعوة للمدنية”، بشعار انتهى فعليًا، ليس إلا محاولة لمنع انتقال القرار السياسي والاجتماعي إلى الفضاءات التي لا تسيطر عليها: الهامش، المقاومة المسلحة، الشتات، المخيمات، والقرى التي لم تُمثل يومًا في مجلس وزراء أو وثيقة دستورية.
إن الشعار، في هذا السياق، يُستخدم كسلاح دفاعي لإعادة احتكار الحديث باسم الثورة. فكل تقدم نحو مشروع جديد، نحو ميثاق ينطلق من الهامش، نحو جيش لا مركزي، نحو عدالة تاريخية لا تختزل في المحاكم الانتقالية – يُقرأ من طرف هذه النخب بوصفه تهديدًا لمكانتها، لا بوصفه تطورًا للمشروع الوطني.
لكن الزمن لا ينتظر امتثال النخب.
الثورات لا تتردد.
وما يُبنى اليوم خارج الخرطوم، خارج الوزارات، وخارج غرف التفاوض، هو مشروع حقيقي لسودان جديد
السؤال لم يعد: كيف نُعيد الجيش للثكنات؟
بل: كيف نمنع عودة الخرطوم القديمة إلى التحكم في مستقبل السودان؟
كيف نُنهي الدولة التي تضع قرار الحرب والسلام والعدالة والمواطنة في يد طبقة سياسية ترى في كل تغيير تهديدًا لامتيازاتها؟
إننا لا نقطع مع الشعار فقط، بل مع عقل سياسي تم تشكيله في المركز، واشتغل على إدارة الأزمة لا حلّها، وعلى إعادة إنتاج السلطة لا تفكيكها.
إن الطريق إلى الدولة الجديدة لا يمر عبر بوابة “العودة إلى ديسمبر”، بل يمر عبر الاعتراف بأن ديسمبر، رغم عظمتها، لم تكن كافية، وأن الطريق الآن هو ما نرسمه من قلب المحرقة، لا ما نُعيد ترتيله من شرفات النخب.
ولذلك، فإن من يتمسكون اليوم بالشعار ليسوا أوفياء للثورة، بل حراسٌ متأخرون لأسوار الماضي، يحرسون مصالحهم القديمة باسم شعارات الحرية.
وما لا يُقال في هذا الصمت العام: أن الخوف الحقيقي ليس من المليشيات، بل من أن تتحوّل الثورة إلى ما لا يستطيعون السيطرة عليه!!
النضال مستمر والنصر اكيد.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *