جمعه حراز: السودان الجريح .. من فوضى السلطة إلى حلم الدولة العادلة!

بقلم: جمعه حراز
لا يمكن لأي ضمير حي أن يمرّ على الجراح النازفة في جسد السودان دون أن يتوقف أمام هذا الكم الهائل من الألم، ومن الحيرة، ومن الأسئلة التي بلا إجابات. كيف لوطنٍ حباه الله بكل مقومات النهوض من موارد طبيعية هائلة، وتنوع بشري وثقافي فريد، وموقع استراتيجي جاذب، أن يغرق في فوضى السياسة، ويُعاقَب بالفقر والحرب والتشظي؟
إن السودان، منذ فجر استقلاله، لم يعانِ من نقصٍ في الإمكانات، بل عانى من فائض في الصراعات، وفوضى في السلطة، وغياب في الرؤية. والنتيجة: وطن منكوب، وشعب مشرد، وحلم مكسور على قارعة التاريخ.
لقد كانت معضلة السودان، في جوهرها، أزمة حكم وأزمة سلطة، لا أزمة ثروات ولا كفاءات. نخب المركز، منذ الاستقلال، احتكرت مقاليد السلطة والثروة، وأقصت الهامش، وكرّست لعقلية استعلائية سلطوية لا ترى في أطراف السودان إلا خزانات بشرية تُستدعى وقت الحروب، وتُهمّش وقت السلم.
أُدير التنوع الثقافي والعرقي واللغوي بطريقة سلبية، وأُهملت الأقاليم المنتجة، وتُركت بلا بنى تحتية، بلا صحة، بلا تعليم، بلا ماء، بلا طرق. وهكذا، كانت النتيجة الطبيعية أن تفجّرت الأزمات، وتناسلت الحركات المسلحة، وتشرذم الوطن، وصار الموت خبزاً يومياً لملايين السودانيين….
من دارفور إلى جنوب كردفان، ومن النيل الأزرق إلى الشرق، تشكلت الحركات، وانفجرت الصراعات، كرد فعل مشروع على التهميش والإقصاء. فبدلاً من معالجة جذور الأزمة، واجهتها الحكومات المتعاقبة بالقمع أو الوعود الزائفة أو التجاهل، فكان الانفجار الكبير، وحدث ما لم يكن يُتخيل: انفصال الجنوب، ومن بعده انطلاق حرب 15 أبريل 2023 من قلب الخرطوم، لا من أطراف البلاد كما جرت العادة.
لقد أصبحت العاصمة، ولأول مرة، ساحة حرب مفتوحة، بين جيشين بينما الشعب يُذبح تحت نيرانهم، والبنية التحتية تُدمَّر بلا رحمه والمؤسسات تنهار، والمدن تتحول إلى أطلال، في مشهد عبثي لا يشبه سوى نهايات الدول الفاشلة.
لم تكن نخب المركز وحدها مسؤولة، بل شاركتها نخب الهامش في الجريمة، عندما تحالفت مع السلطة بحثاً عن مكاسب شخصية ضيقة، وأدارت ظهرها لأشواق مواطنيها. فباتت اللعبة السياسية، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، ساحة للمساومة، لا ميداناً للخدمة العامة.
الحل يبدأ من الجذر .. لا من القشور
لقد آن الأوان أن يعترف الجميع: لا سلام، لا تنمية، لا استقرار، ما لم نعالج جذور الأزمة السودانية، لا نتائجها. فالحرب ليست هي الأصل، بل هي عرضٌ لمرضٍ عميق اسمه “الظلم التاريخي”. ولا فائدة من تسويات فوقية تتجاهل العدالة، ولا من محاصصات باردة تغفل جوهر الدولة…
خارطة الطريق نحو الدولة العادلة تشمل:
- الوقف الفوري للحرب وفتح ممرات آمنة للمساعدات.
- التحول الديمقراطي الحقيقي لا الشكلي.
- تبني النظام الفيدرالي الذي يحترم التنوع، ويوزع السلطة والثروة بعدالة.
- إعداد دستور دائم يجيب عن سؤال “كيف يُحكم السودان؟” لا “من يحكمه؟”.
- تبني نظرية العقد الاجتماعي على قاعدة المواطنة لا الجهة.
- تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة كل من أجرم في حق الشعب.
- تشكيل حكومة انتقالية كفاءات من الداخل والشتات، تدير البلاد سبع سنوات، تعيد الإعمار، وتؤسس للديمقراطية الحقيقية، ثم تسلم السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة.
السودان اليوم جريح، ينزف بين أقدام سلطة متوحشة وثورة مخطوفة. لكنه لم يمت بعد. فالحلم لا يزال ممكناً، والدولة العادلة لا تزال ممكنة، بشرط واحد: أن نمتلك شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وجرأة الذهاب إلى الجذور، وإرادة صناعة مستقبل لا يشبه ماضينا.
فلنوقف حفلة الدم، ولنستيقظ من غيبوبة السلطة، ونكتب تاريخاً جديداً… فيه الوطن أولاً، والشعب أولاً، والعدالة فوق الجميع.