فاطمة لقاوة: عبدالمنعم الشوين .. رحيل الصوت الحر في زمن الانحناء

فاطمة لقاوة
في زمنٍ تمادت فيه خيبات المركز، واشتدت فيه المحن على الهامش، رحل الناظر عبدالمنعم الشوين، ناظر عموم المسيرية الفلايتة، الرجل الذي لم يكن مجرد زعيم أهلي، بل كان ضميرًا جمعيًّا و”صوت رعوي” نادر لا يعرف المساومة حين يتعلق الأمر بكرامة الناس وحقوقهم.
كان الناظر الشوين رجلًا بصبر الجبال، وشدة البادية، وحكمة المجرب، عاش مع أهله تفاصيل المعاناة ولم يختبئ خلف الألقاب أو الواجهات البروتوكولية،قاوم منظومة المؤتمر الوطني في عز سطوتها، ورفض إهانة الرعاة الذين طالما استخدمتهم السلطة كوقود لحروبها أو أصوات تُشترى في مواسم الانتخابات،دفع الشوين ثمن موقفه غاليًا، وسُجن في سجن الفولة، لكنه خرج منه أكثر نقاءً وصلابة.
هذا التاريخ المقاوم لم يكن سلوكًا لحظةً أو رد فعلٍ غاضب، بل كان قناعة متجذرة وموقفًا ثابتًا، تجلّى بأوضح صوره عقب اندلاع الحرب في 15 أبريل، عندما قررت نخبة الخرطوم الإسلامية والعسكرية إعادة إنتاج المركز بالعنف والدم،حينها لم يتلعثم الشوين، بل اختار أن يقف في خندق قائد المهمشين الفريق أول محمد حمدان دقلو موسى، وانحاز لقضية كانت عنده أكبر من الولاء للسلطة أو الرغبة في رضا المركز.
كان من أوائل من فهموا أن هذه الحرب ليست معركة بين “جيش ودعم سريع”، بل صراع بين السودان القديم والسودان الجديد، بين من يريدون عودة “الكيزان” من نوافذ بورتسودان، ومن يدفعون نحو سودان يليق بالمهمشين وأحلامهم المنهوبة.
رحيل الناظر عبدالمنعم الشوين اليوم لا يُحسب فقط كخسارة للإدارة الأهلية، بل هو فقد لرؤية وطنية نادرة كانت ترى في وحدة
الهامش قوة، وفي المقاومة السياسية حقاً لا تهزمه الدبابات،لقد كانت مواقفه جزءًا من معركة الوعي التي تحاول إعادة تعريف موقع الرعاة في المعادلة السياسية، بعد عقود من التهميش المزدوج،من المركز، ومن بعض أبنائهم الذين رضوا بدور “السماسرة”.
إن غياب الشوين يُفقد دار المسيرية رُكنًا متينًا، وهي الآن في مواجهة منعطف تاريخي خطير، حيث تتكالب المشاريع الخارجية، وتنشط شبكات شراء الولاءات، وتُستغل البنية الأهلية لتمرير خطط لا علاقة لها بأهل البوادي.
في مثل هذا التوقيت، كانت دار المسيرية تحتاج لصوته القوي، وعقله النظيف، وسيرته التي لم تُدنّس بالدم أو المال.
رحيله صدمة للذين رأوا فيه نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه الإدارة الأهلية حين تخرج من عباءة السلطان وتلبس جلباب الناس الحقيقيين.
لكن التاريخ لا يكتب بالدموع وحدها، بل بالمواقف التي تترك أثرًا،والشوين ترك لنا سيرة رجل شريف، علّمنا أن الإدارة الأهلية يمكن أن تكون جبهة نضال، وأن الوقوف مع المهمشين ليس خيانة، بل شرف لا يدركه من باع نفسه في أسواق النخب.
رحم الله الشوين،
وألهمنا الصبر على فقده،
وألهم دار المسيرية رجالًا على شاكلته.
إنا لله وإنا إليه راجعون.