الوليد مادبو: انكسار الجناح الأيمن: في رثاء الحركة الإسلامية السودانية

دكتور الوليد مادبو.
د. الوليد آدم مادبو
في البدء كانت الكلمة، وكان الوعد أن تكون هذه الكلمة هادية لا مفسدة، جامعة لا مفرّقة، شاهدة على الناس لا جاثمة على صدورهم. حين خرجت الحركة الإسلامية في السودان من بطون المساجد ومجالس الفكر في منتصف القرن الماضي، خرجت بوعدٍ كبير: أن تقدم مشروعًا أخلاقيًا يُصلح السياسة لا أن يبتلعها، وأن تنحاز للفقراء لا أن تستغلهم، وأن تقيم العدل لا أن تبرر السلطان.
لكن ما بين البدايات التي خطّها نفرٌ من أهل الورع والفكر، والنهايات التي نتجرع مراراتها اليوم، انكسر الجناح الأيمن، وفسدت السلسلة، وانحرف الميزان.
ولأن الفكرة كانت يومًا نقية، فقد انجذب إليها نفرٌ من أنبل السودانيين: الطيب زين العابدين، حسن البيلي، أحمد عثمان المكي، جعفر شيخ إدريس، الصادق عبدالله عبدالماجد، مبارك قسم الله، دفع الله الحاج يوسف، إلى آخره. لم يكونوا أنبياء، بل بشرًا يخطئون ويصيبون، لكنهم حافظوا على الحد الأدنى من التوازن بين الغاية والوسيلة، بين المبدأ والمصلحة، بين الشريعة والحياة.
لكن اليوم، حين أنظر حولي، لا أجد من تلك القيم سوى أطلالٍ رمادية تتناثر تحت أقدام القونات (المغنيات الهابطات)، وألسنة العاهات الفكرية، ومواخير الصحافة السودانية. إنها لعنة كل حركة عقائدية حين تتكئ على العسكر: أن تُسحق وتُفسد في آن واحد. لم يكن الإسلام السياسي في السودان استثناءً. حين أوغل في جسد الدولة، لم يطهّرها، بل تسمّم بها. وحين سلّم مفاتيحه للجنرالات العسكريين والأمنيين، فقد رسالته ومعناه، ثم باع نفسه بثمنٍ بخسٍ في سوق الفساد والاستبداد.
لقد اختطفت المؤسسة العسكرية المشروع، كما اختطفت الوطن كله، وسارت به إلى الهاوية. وتماهى بعض الإسلاميين مع هذا الاختطاف، حتى صاروا شهود زورٍ على دماء تُسفك، وبيوت تُحرق، وشعوب تُسحق. وما الحرب التي نشهدها اليوم سوى تتويج لهذا الانهيار. حرب لا مشروع لها ولا رؤية، تُدار بعقلية ثأر لا بعقل دولة، وبمنطق مافيا لا بمنطق أمة. حرب تُخاض لاستعادة “ملك” زائل، لا لنصرة حق، ولا لدرء ظلم.
قال ابن خلدون في مقدمته: “إذا دخلت الدولة في طور الهرم، صار السلطان لا يحكم إلا بالمكر والخديعة، ويستعين بالسفلة من الناس”. لست أدعو إلى إقصاء الإسلاميين، بل أدعوهم إلى التبرؤ من هذا الانحراف. أدعوهم إلى مراجعة جذرية، وإلى نقدٍ ذاتي مؤلم، لعلهم يستعيدون المعنى الذي ضاع. نحن لا نرفض التوجه الإسلامي كفكرة، بل كتحالف أمني جهوي. ولا نطالب بإقصاء الإسلاميين من الساحة، بل بتحريرهم من اختطاف العسكر، وابتزاز الأمن وسوق الرداءة والبذاءة.
لقد انهارت الدولة المركزية، لا بفعل التمرد، بل بفعل الجرم المتراكم. وبقدر ما تبدو الحرب همجية، فإنها في عمقها انهيارٌ أخلاقي لمنظومة حكم استعلائية عجزت عن إدارة التنوع، وازدرت حضارة الشعوب السودانية، وأدمنت المركزية كأداة للقهر والتسلط. لا يحتاج السودان إلى “معركة كرامة وجودية”، يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد: يحتاج إلى عقل يقر بالفشل أولًا وإلى قلب يؤمن بأن الكرامة الإنسانية هي أساس الحكم، لا الولاء الأيديولوجي أو الجغرافي.
ختامًا، ما نعيشه اليوم ليس فقط انحطاطًا سياسيًا، بل سقوطًا أخلاقيًا لحركة ادّعت التغيير باسم الإسلام، فإذا بها تعيد إنتاج أسوأ وجوه الطغيان باسم “المشروع الإسلامي”! لقد آن لأصحاب الفكر النزيه أن يتبرؤوا من هذا الإنحراف، لا دفاعًا عن الماضي، بل حمايةً لما تبقى من صدقية المعنى.
لم يعد كافيًا أن يعتذر البعض بصوتٍ خفيض بينما يعلو ضجيج الحرب باسمهم. لم يعد كافيًا أن يتم تدارك الأخطاء بالمقالات، فيما تُدار المعارك بأجساد البسطاء. لقد انتهى زمن المجاملة وبدأ زمن المكاشفة، ولن يكون المستقبل ممكنًا ما لم يتصدّ الإسلاميون العقلاء – من بقي منهم – لقطع صلتهم بحلفائهم من العسكر والمخبرين والعنصريين الوالغين في دماء السودانيين، وأن يشاركوا بصدق في صياغة وطنٍ يتسع للجميع، تُنزع فيه القداسة عن السلطة، ويُردّ فيه الحق لأهله، بلا مناورة ولا طلبًا للغنيمة.