عبد الحفيظ مريود يكتب: سودانيون خياليون .!!

115

عبّد الحفيظ مريود 

  • بدون زعل 
  • سودانيون خياليون

عدت أدراجى إلى السودان، وكنت غادرته فى أغسطس الماضى قاصدا تشاد “أنجمينا”، وقد استغرقت رحلتى من أمدرمان “سوق القش”، إلى “أنجمينا” أسبوعين، حيث عبرت ديار الكبابيش، الزيادية، وصولا إلى الفاشر، ولم ندخل الفاشر، لان المدنية كان شهد ثمة اشتباك عنيف، بين الدعم السريع والجيش، نواحي بوابة مليط، وأجزاء من زلط “كتم”، وعبرنا تحت خطوط النيران إلى الطريق الذي يقود إلى “كورما”، و “كورما” بلد المذيع النابه أحمد أبكر ضوالبيت، حيث عبرنا سلسة جبال “كاورا” وصولا إلى “كبكاببة”.

وكانت الرحلة طويلة وملهمة، سأحكى عنها ذات يوم.

شايف كيف؟

قضيت ستة أشهر فى تشاد، ومن ثم قررت الذهاب إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان، حيث تحركت عبر ولايات وسط دارفور، جنوب دارفور، شرق دارفور، وصولا إلى “الرقيبات” الحدودية، التى تبعد حوالى 250 كليومترا، جنوب “الضعين”، حاضرة شرق دارفور، وعبرت “بحر العرب” إلى جنوب السودان، وتلك رحلة أخرى، أجمل من سابقتها، وأحب ان أعود برا، كما ذهبت، وهذه المرة سأدخل السودان عبر “الجنينة”، عاصمة ولاية غرب دارفور.

شايف كيف؟

فى الذهاب خروجا من أمدرمان، لم يصادفنى عسكرى واحد من الجيش، وبالطبع، من الشرطة أو جهاز الأمن، وكانت “دار الريح”، ديار الكبابيش، تستقبل الخريف، والخيران والأودية مترعة، وينتشر الدعم السريع فى كل ربوع الكبابيش، جبرة الشيخ، رهيد النوبة، زغاوة، سودرى، أب زعيمة، حمرة الشيخ، أم سنطة، والأسواق عامرة وحركة السيارات لا تنقطع، والسيارات المنهوبة (غنائم) من الخرطوم متجهة إلى الغرب، والسيارات القادمة من الغرب تحمل عشرات من الشباب فى طريقهم إلى الخرطوم، فزعا أو طمعا، وينتشر السلاح بشكل لافت وسط شباب الكبابيش، وصار السلاح مثل العصا، لا تجد أحدا لا يحمل بندقية، وأشمشم الأخبار، وأستعلم، وأدون الملاحظات، وأستفسر، وينطبق الأمر على ديار الزيادية، في القرى والبلدات التى مررنا بها، أم بطيطيخ، أم هجيليج، سارى، الكومة، والجميع مسلحون، وليس ثمة من سلطات فعلية إلا سلطة الدعم السريع والإدارات الأهلية.

شايف كيف؟

قضيت ستة أشهر فى أنجمينا، تشاد دولة عجيبة، أشبه بالسودان، حتى أن زميلة صحفية سودانية، التقيتها هناك، قالت لى إنها تشعر أن تشاد هى “غرب دارفور”.

وفى طريق عودتى لا شيئ تغير، الحدود يحرسها الدعم السريع، وكان ثمة جيش، بالطبع هرب إلى تشاد، وسلم نفسه إلى السلطات التشادية، ورحلت ما يقارب التسعمائة ضابط وجندى إلى بورتسودان، قضيت ليلة فى الجنينة، والصباح تحركت عبر سيارة “شريحة” إلى نيالا، وهي مدينة أهلى وعشيرتى ومسقط رأسى، وقضيت ليلتين ويوم، ووجدت ان ما يقارب العشرين أسرة من أهلنا ذهبت إلى ليبيا، وسط المدينة مشلول تماما، وتنعدم الكهرباء وشبكات الاتصال، ولكن الأسواق الفرعية تعمل، والحركة نشطة، ثم اتجهت صوب الضعين.

شايف كيف؟

البضائع تأتى من كل مكان، من ليبيا، مصر، الكاميرون ونيجيريا عبر تشاد، من كينيا ويوغندا عبر جنوب السودان، ولا شيئ منعدم، بل كل متوفر فى الجغرافيا الفسيحة التى لا تقع تحت سيطرة الجيش.

فى جوبا، كما فى أنجمينا، ستلاحظ أن السودانيين جاليات ضخمة، وكما تجدهم فى مدن مثل (أدرى، أبشى، أم حجر، منقو … الخ) فى طريقك إلى أنجمينا، ايضا ستجدهم بكثرة فى (أويل، واو، رومبيك، يرول …الخ)، وغيرها فى طريقك إلى جوبا، حتى لتسأل نفسك، من بقى فى السودان؟

فى أحاديث مع السودانيين فى ليبيا، يقولون لك إن أعدادهم صارت مهولة، ومثلهم فى يوغندا، اثيوبيا، وغيرها.

حسنا..

طوال ذلك التجوال يزحمنى سؤال، عن أى “سودان” وعن أى “حكومة” يتحدث قادة الجيش وسياسيو المؤتمر الوطنى؟ ثمة أربعة دول من دول الجوار لا يوجد فيها فرد من الجيش أو الشرطة أو الأمن ليسألك “من أنت وإلى أين تذهب؟”، إلا نقطتين مع جنوب السودان، ولكن الشطر الأطول من حدودك مع جنوب السودان يسيطر عليها الدعم السريع، وكامل حدودك مع ليبيا، تشاد وأفريقيا الوسطى.

شايف كيف؟

ما هى الدولة، إذن؟

تستطيع أن تبلع حبوب “الغيبوبة” وتمشى إلى صفحتك فى الفيسبوك أو ما شئت من وسائط وتحدثنا عن (السودان)، أن تكتب، مثلا؛ (السودان يغلق حدوده مع تشاد)، شخص مثلي سينفجر ضاحكا، كما أفعل حين أجد شخصا يكتب “الجيش يقطع خطوط إمداد المليشيا الغربية)، أو ” السودان قادر على تلقين تشاد درسا”، وقد تأخذ جرعة زائدة من حبوب “الغيبوبة”، فتكتب؛ كما فعل أستاذنا عادل الباز مقالا طويلا ملؤه شفقة عن ” كيف تعيش مدن الغرب فى ظل سيطرة الأوباش عليها”، ناعيا غياب الصحفيين وهكذا.

شايف كيف؟

سيتحدث الكثيرون تحت تأثير حبوب الغيبوبة عن “سودان متخيل”، عن “شعب سودانى” فى حدود أهله وعشيرته، وربما مدينته، وهو يظن أنه بالفعل يمثل (السودان والشعب السودانى).

هذه “السودانات” لم تفرزها الحرب الدائرة الآن، بل هى “سودانات” قديمة منذ أن خلق الله السودان، ولم تجتمع كلها فى قلب وعقل رجل أو امرأة، ربما وهب الله القليلين قلوبا رأت وعرفت وأحبت هذه “السودانات”، ولكن الغالبية العظمى يتحدثون تحت تأثير الغيبوبة، لذلك ستستمر الحرب، حرب الرؤى، كما أسماها الدكتور فرانسيس دينق، وستستمر الحرب، إذن لأن ضابط الجيش فى كبرى كوستى، يضرب مهندسا شابا، ويجبره على العودة من حيث أتى لأنه (يشتبه فيه)، ولأن الصحفيين يكتبون (الطيران الحربى يدمر مخازن وارتكازات للمليشيا فى حمرة الشيخ، جبرة الشيخ، نيالا، الفاشر، الجنينة، …الخ)، دون أن يساورهم شك فى المعلومة، أو أن يتحرون عنها، ولأنها من “مصدر موثوق”، وفي الوقت الذى يكون طيران الجيش قد أزهق أرواح مدنيين ودمر منازلهم، دون أن يصيب هدفا عسكريا واحدا، وحين تكون مشغولا بأن (المليشيا ترتكب مجزرة جديدة فى الجزيرة)، أو أن أفرادا منها أرادوا أن يفتشوا الملابس الداخلية لنساء قريبات لعبد الوهاب الأفندي، الدكتور والأكاديمى والمغترب القطرى، فإنك لن تحصل على (الصورة الكلية).

لم تقم الحرب للتفتيش داخل (الملابس الداخلية) لقريباتك، ولن تعى الدرس أبدا، وأنت مهووس بما فقدته من سيارة، أثاث، صور وذكريات، جلسات للأنس، أو حتى دولارات كنت تدخرها لليوم الأسود، أو ذهب زوجتك، ولم تقم الحرب ليثبت شخص أنه “أرجل” من الآخر.

شايف كيف؟

ستستمر الحرب، إذن، لأننا لم نتعلم درس الحرب، لا ينبغى أن تخوض حربا وتخرج منها بلا وعى جديد، اذن ما فائدة الحرب؟.

ستستمر الحرب لأن هناك معرفة جوهرية ينبغى توطيدها لدى القادمين، وليست مجرد مباراة هلال مريخ، ينفض الاستاد بعدها.

ينبغى ألا يخوض ابنى وابنك، حفيدى وحفيدك حربا أخرى، لأن لكل واحد منهم ” سودان محدد فى رأسه” ينبغى أن يسود.

شايف كيف؟

ستستمر الحرب ببساطة لأننا ما زلنا نجهل بعضنا ونجهل بلادنا ونجهل محيطنا، وستستمر الحرب لأننا خياليون، جهلة، متشدقون، أغبياء، وسنخوض فى حرب إلى أن تنتهى، ثم نشعل حرب أخرى، وهكذا كنا نفعل ذلك منذ زمن بعيد.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *