يوسف عزت يكتب: نعم هو ناظر “المحاميد”، ولكن .!!
نعم هو ناظر “المحاميد”، ولكن .!!
منذ أن تفتحت عيوننا على هذه الحياة وجدنا أنفسنا وسط مجموعة بدوية مسارات نشوقها واحدة
وكذلك أنسابها وثقافتها، ومسألة ان هؤلاء محاميد أو ماهرية أو أولاد راشد أو عريقات، هذه كانت مجرد كي بالنار على رقاب نوقنا، ولم تكن ذات قيمة أو عامل تفرقة في أي يوم من الأيام، إلا بعد أن اقتحمت السياسة البادية و”الحلة” ولعبت على مثل هذه التسميات ووسعت الهوة بين الناس.
معروف إن أهل البوادي التي تمتد من كردفان إلى مجاهل أفريقيا لم يأتوا إلى أفريقيا من أي مكان آخر، لم يأتوا مع “عبد الله ابن السرح” ليشملهم تاريخ دخول العرب السودان، فهم كانوا هنا قبله، وابن أبي السرح نفسه هو عايد مهجر، كذلك كل من أتوا معه، ولدي كتابة قديمة في هذا الشأن تعود بالعرب واليهود وكل نسل إبراهيم إلى أصولهم الأفريقية، وتضع عرب أفريقيا، أو سمهم (عرب الشتات) إن شئت، كأصل أصيل للجنس العبري كله، وعموماً هذا مفترق لا المناسبة مناسبته ولا المكان مكانه، ولا التوقيت يسمح بنشر المغالطات التاريخية، رغم ان هنالك الكثير من الكتابات التي تتجاهل تاريخ افريقيا وحضارة وادي النيل وتظهر جليا في هرطقات محمد جلال هاشم وبعض المتبنين لمنهج التحليل الثقافي بلا أمانة ثقافية، ولكن وكما قال “عاطف خيري”؛ (دا ما وكت الرسم واللون)!
الشيخ موسي هلال أخونا قبل أن يكون ناظراً للمحاميد أو رئيساً لمجلس الصحوة الثوري، أو غيره من المسميات التي ظهرت في حقبة الإنقاذ، إذ ظللنا نعيش معاً منذ طفولتنا في بيوت مفتوحة لا نعرف لها أبواب أو سقوف أو لافتات، لكن السنين العجاف التي مرت بها دارفور وسياسة دولة الأيادي القذرة جعلت من رجال ذوي مكانة وتاريخ مجرد أدوات تستخدمها الأجهزة الأمنية لتنفيذ سياسات ألحقت ضرراً بالغاً بمجتمعاتنا، ومزقتها وأدخلتها في لعبة ماكرة ضاع بسببها أجمل الشباب وأنضرهم من كافة القبائل. وبعيداً عن سياسة (فرق تسد) التي اتّبعتها الإنقاذ وفرقت بها كافة المجتمعات السودانية، بل حتى داخل الأسرة الواحدة، وخصوصاً في دارفور، ومع كل ذلك الشيخ/ “موسى هلال عبد الله” أخونا الكبير وأحد رموز مجتمعنا البدوي، وحين أنظر لماضينا في البوادي، لم أتوقع ان تفعل سياسات الدولة بتلك المجتمعات الطيبة ما فعلت، ولكن هذه نتيجة طبيعية ومباشرة لدخول السياسة من بوابة القبيلة، وما نتج عنها من تمزيق للقبيلة والأسرة، بل تهتك مجتمع برمته، ونتيجة لذلك كان لابد من الوصول لمرحلة المواجهات المسلحة، وقد حدث ذلك ويحدث بشكل مستمر.
شخصياً اختلف مع مواقف الشيخ/ “موسى هلال”، لأنه رجل إدارة أهلية، وبالتالي دوره الطبيعي هو الجمع بين الناس وليس ما يفرقهم. ومنذ ظهوره في مسرح الأحداث في العام 2003 وتبنيه علناً مواجهة الحركات المسلحة التي ظهرت ببرنامج سياسي تجاهل قضايا القبائل العربية المتشابهة مع بقية السكان في دارفور، بل سعي بعض قادة الحركات للإستفادة من التناقضات الطبيعية والصراعات القبلية التي تحدث بين الفينة والأخرى، مثلهم مثل الاستخبارات العسكرية للجيش، مما عرض مجتمعات دارفور للإستغلال ودفع ثمن حروب كثيرة ذات أجندة لا تخصهم، وما زال بعض قادة الحركات وايضاً استخبارات (الكيزان) يمارسون ذات اللعبة. وكان موقف الشيخ/ “موسى هلال” بالنسبة لي وقتها مفهوماً، وبذلنا جهد مع آخرين للخروج من ذلك الصراع المدمر، وسنفعل اليوم وغداً لإبعاد مجتمعاتنا من الاستخدام السييء في سوق السياسة المفتوح لشراء من يستطيع حشد القبائل للقتال. ولعب الشيخ “موسى هلال” لأدوار سياسية وانغماسه فيها مستغلاً الزعامة القبلية أدخل ولا يزال القبيلة في مأزق، وأبناء “المحاميد” لديهم من الوعي ما يجعلهم يحددون مواقفهم السياسية وفق قناعاتهم الشخصية، وليسوا بحاجة لإذن من القبيلة أو زعيمها أو أي وصاية من أحد، ولكن حين يكون لشيخ القبيلة وزعميها انتماء حزبي ويسعى لتجيير موقف القبيلة كلها لصالح التنظيم الذي ينتمي إليه هنا يكون الخطر، ولابد من مواجهة الاتجار بالقبائل، وكثيرون غيره يفعلون ذلك، ومنهم سلاطين رغم معاناة أهلهم !
الشيخ “موسى هلال” منتمي سياسياً، ومتعلم بشهادة ثانوية نالها من الخرطوم التي عاش فيها سنيناً عددا، حتى تم اختياره أول ناظر لقبيلة (المحاميد) بشمال دارفور، وذلك في العام 1987، وقبلها كان للمحاميد عمودية ضمن عموديات (الرزيقات) في شمال دارفور، ولا أزال أتذكر أيام تنصيبه ونحن في صبانا الباكر، وكان شاباً وسيماً وأنيقا قادماً من العاصمة إلى البادية وهو يقود عربة (لاندروفر) بيضاء، واختار ان يسكن بعد ذلك جوار مدرسة (أ) الابتدائية للبنات بمدينة كتم، وكان منزله عامر بالشباب، قبل ان ينتقل إلى بيت الشيخ هلال الكبير في مطلع التسعينات. وعلى العكس من قيادات الإدارات الأهليه التقليدية الأخرى، كان “موسى هلال” مختلفاً وله المام معقول حسب البيئة هناك بالسياسة والثقافة ، يتحدث عنها بمعرفة اكتسبها من الاطلاع والمثاقفة والمشافهة، ولكنه لم يكن متواضعاً في إجتماعات الأهل والعشيرة، يستعرض معرفته بمناسبة ودونها، وكأنه يبتز قيادة الإدارات الأخرى التي كان دائما ما ينظر لهم بأنهم لا يعرفون الكثير، وأذكر حادثة حدثت في منتصف التسعينات، حين تم تقسيم دارفور إلى ثلاثة ولايات، وتبع ذلك تنصيب عمد للرحل في ولاية جنوب دارفور وإعلانهم الاستقلال عن سلطة الإدارة الأهلية للرحل في شمال دارفور، تم حينها عقد اجتماع بدامرة شيخنا “عبد الباقي” طيب الله ثراه، وتحدث موسى في ذلك اللقاء طويلاً قائلاً بان (الإنقاذ) قد وزعت “شالات” لكل من هب ودب ليكون عمدة، واضعاً معايير لرجل الإدارة الأهلية لا تنطبق إلا عليه وحده بين جمع ذلك المجلس الكريم.
أنتمى الشيخ “موسى هلال” للجبهة القومية الإسلامية في العام 1988 بشكل معلن ، وكان ذلك أثناء الحرب بين العرب والفور التي انطلقت يوم الأربعاء 2 مارس 1988 في غرب جبل مرة إثر حادث كلف الكثير من الدماء. إذ انه بعد الفشل المتكرر للصلح بين العرب والفور سافر وفدي القبائل العربية والفور للخرطوم لإيجاد حل لمشكلة محلية لم تستطع حكومة الإقليم حلها، لضعف حاكم الإقليم وقتها “التجاني سيسي”، وعدم قدرته ليكون حاكماً محايداً في صراع كانت قبيلته طرفا فيه، وبعد وصول الوفدين للخرطوم استطاع نائب دائرة (كبكابية) عمنا المرحوم “نور الدين محمد أحمد”، وهو من أهلنا الفور وعضو الحزب الاتحادي، استطاع ترتيب لقاء لوفد الفور مع رأس الدولة وأيضاً مع قيادة الحزب الاتحادي التي تولت اكرام الوفد وتبني قضيته، بينما انتظر وفد القبائل العربية لمدة شهر لمقابلة “الصادق المهدي” أو وزير الداخلية وقتها “مبارك الفاضل” وفشلوا في ذلك فأستغل “حسن الترابي” المناسبة حين علم بوجود الوفد ورتب عشاء في منزله بالمنشية، بحضور كبار رموز الجبهة الإسلامية، وأكرمهم وتحدث عن مشاكل دارفور وحلولها واستغل السانحة لمهاجمة حزب الأمة وعجز حكومة “الصادق” والتي كان فعلياً يتآمر للإنقلاب ضدها. وحين جاء دور الشيخ “موسى هلال” للكلام أعلن أمام ذلك الجمع ، وفوراً ، التحاقه بالجبهة الإسلامية القومية منذ تلك اللحظة ، وفي اليوم التالي خرجت جريدة (الراية) بمانشيت عريض أعلنت فيه انضمام موسى هلال للجبهة الإسلامية، واحتفت جميع صحف الجبهة الإسلامية في ذلك الوقت بالخبر وروجت له ولشخصية موسى هلال، ونسجت حوله الأساطير وفتحت صفحاتها للكتابة عن المجموعات العربية بدارفور والتعبير عن قضاياهم، حينها فقط أرسل الصادق المهدي لوفد القبائل العربية بطلب اللقاء، وبرر تأخره بمشغولياته في الدولة وإعتقاده إن الوفد جاء للتحية والمجاملة، وذلك رغم الدم السائل في دارفور وقتها (!). منذ ذلك التاريخ ظل الإسلاميون يحتفون بالشيخ موسى هلال لأنهم ينظرون لتجنيده للحركة الإسلامية مكسبا لهم وإختراق كبير في مناطق ظلت مغلقة لحزب الأمة. خلال الثلاثين عاماً من حكم (الانقاذ) عرف موسى هلال الكيزان عن قرب من خلال عمله معهم في كافة المستويات حتى وصوله مستشاراً لديون الحكم الاتحادي، وفهم طرائقهم ولعبتهم في استخدام الدين والقبيلة للسلطة، أو ما يسمونه اليوم بالوطنية والكرامة، وهكذا ظلت ممارساته الشخصية نسخة حقيقية لممارسات الكيزان: من ابتزاز وإغراء وترغيب وترهيب، واستخدام كل منقصة ومفسدة، بما في ذلك التضليل للوصول للهدف، وهو دائماً هدف مرتبط بمكسب شخصي، ولغاية الأسف فان كثيرون من الذين عاشوا في فترة (الانقاذ) أصبحت هذه الممارسة لهم طبيعية وعادية، بل صار “الاستهبال” وسرقة المال العام وبيع الذمم، هي الشئ الطبيعي، بل الذي هو ليس طبيعيا بالنسبة لهم ان يكون هنالك أناس من أبناء الوطن لديهم نزاهة وشعور بأن هذا الوطن يحتاج لمن يعمل على إنقاذه، والمجتمعات يجب أن لا تكون أدوات في سوق النخاسة السياسي وهذا ما على مجتمعاتنا ان تدركه. وهناك نماذج كثيرة أمامنا توضح الإفساد الممنهج الذي استخدمه الكيزان للناس، وجعل الفرد محض مسخ لا ينتمي لا لأخلاق أو قيمة، ولا حتى لماضيه ولا حاضره ولا يفكر إلا في مستقبله الشخصي، لذلك يجب النظر لمواقف “موسى هلال” وفق هذا المنظور المرتبط بإنتماءه السياسي السابق، بل هو أنموذجاً باهراً لذلك التردي، والمستمر حتى اليوم، وهي حالة حنين لإستعادة دولة استيقظ وانتبه في لحظة تجلي نادرة، انها تستخدمه فذهب واعتكف في البوادي، وأسس ما يعرف بمجلس الصحوة الثوري، و(الصحوة) تستدعي ان يفيق المرء مرة واحدة وإلى الأبد ليستفيد من تجاربه واخفاقاته، ولذلك على الشيخ موسى هلال ان ينتبه إن هذا السوق يجب ان ينتهي بإنتهاء الحرب، ويعود كل شخص لمكانه، ومن يريد ممارسة السياسه فليؤسس له حزباً ، أو يعود إلى حزبه القديم، فالمجتمعات المحلية لها مصالحها المرتبطة بتحسين حياتها وسلامها واستقرارها الدائم، ومن يقف أمام ذلك، أو يحاول استخدام القبائل والكيانات الاجتماعية المحلية لصالح طموحاته السلطوية الشخصية فلا مستقبل له ، وحتماً سيدفع الثمن. بالتأكيد الشيخ “موسى هلال” هو رئيس إدارة أهلية معتبرة تخص أهلنا (المحاميد) بشمال دارفور، وهم أهلنا وموضع تقديرنا وحبنا، لكن سياسياً فانهم مثلهم مثل كل السودانيين، لديهم انتماءاتهم وقناعاتهم كأفراد، وما قاله “موسى هلال” في (أبو سنط) الأيام الماضية لا يمثلهم، بإعتبار ان أبناء المحاميد يتواجدون في الدعم السريع وفي الجيش وفي الأحزاب وفي كل التنظيمات المختلفة، وحتى الذين كانوا يجلسون أمامه في ذلك الاجتماع كانوا يمثلون كافة العشائر والقبائل، واستغلال اجتماع لا علاقة له بالحرب وأطرافها لقول مثل هذا الكلام وتصويره ونشره يكشف بحث الكيزان عن منقذ حتى ولو بمثل هذه الحركات البهلوانية، لكن لن ينقذهم أحد ، بل جميعنا نتحد لإنقاذ بلادنا منهم ومن التمزق وإعادة تعميرها وبناءها على أسس متساوية وعادلة جديدة، ترمي بكل تجار مجتمعات الريف السوداني في سلة مزبلة التاريخ.