أكثر من “405” يومًا من الإفلات من العقاب والهروب من الحقيقة.
مهدي رابح .. يكتب
حرب السودان البلهاء..
“أكثر من 405 يومًا من الإفلات من العقاب والهروب من الحقيقة”.
تتزامن الساعات القادمة مع اللمسات التحضيرية الأخيرة لافتتاح المؤتمر التأسيسي لـ”تقدم” الذي سيجمع ما يزيد عن الستمئة مشارك/ة من مختلف اطياف التباين داخل الصف المدني الديموقراطي السوداني. والساعي بما يملك من عزيمة ومنذ ما يزيد عن الـ 405 يوما إلى وقف الحرب البلهاء الدائرة اليوم في بلادهم بين طرفي قتال يتنافسان في الاجرام ويتفننان في تدمير حيوات الناس ومستقبلهم.
وهو -أي المؤتمر التأسيسي لـ”تقدم”- تتويجٌ لجهد عظيم ومثابر لرجال ونساء لم تثنهم المصاعب المتعاقبة عن المضي قدما في هذا المشروع النبيل, متساميين على كل ما تعرضوا له من شيطنة وتخوين وتجريح, في بيئة سياسية اقل ما يمكن ان توصف به انها مسمومة, تتواري فيها الحقائق الموضوعية خلف دخان توحّش القتال والمأساة الإنسانية غير المسبوقة علي الأرض, مقرونا بما اصاب عديد الفاعلين المدنيين ذوي الأصوات العالية في الفضاء العام من تيهان عظيم جرّاء مزيج التترّس في الذات والكسل المعرفي وانتهاج الخطاب التبسيطي وتلقّف كل ما يمكن ان تنضح به الة التضليل المعلوماتي الضخمة وشبكات النميمة العنكبوتية العتيقة من اكاذيب واشباه حقائق.
إذاً لم كل هذا التأخير رغم تسارع انهيار الوضع في السودان واقترابه كل يوم من نقطة اللا عودة؟ هذا السؤال المركزي هو ما سأحاول جاهدا الإجابة عليها باختصار شديد من وجهة نظري في متن هذا المقال.
للإجابة على جانب من السؤال, وفي تقديري المتواضع, ان ام الأسباب يكمن في تهرب اغلب الفاعلين المدنيين من الحقيقة القائلة بأن حرب 15 ابريل ما هي الا نتاج لفشل المشروع السياسي والتنموي للدولة السودانية منذ ال 19 من ديسمبر 1955م , تاريخ اعلان برلمان السودان المنتخب استقلال السودان.
وهو فشل ناتج في الاصل من اختلالات بنيوية عميقة للدولة زادها عمقا ممارسات نظام الحكم الاسلاموي الكليبتوقراطي لما يزيد عن الثلاثين عاما. تمثل فيها ازمة القطاع الأمني والعسكري التعبير الأكثر وضوحا لهذه الاختلالات واحدي العناصر الرئيسة التي ساهمت في هذه المحصلة النهائية من الموت والفقر والقهر والدمار والتشريد. وهو دور وضح بأبهي صوره في انقلاب 25 أكتوبر 2021م الذي نفذ مدفوعا بأطماع الجنرالات وادي الي تفريغ الدولة من اطارها الدستوري والمؤسسي ومهد لتحول الصراع السياسي بين قيادات الجيش وقيادات إحدى فصائل القوات المسلحة والمتمخضة من رحمها والمتمثلة في قوات الدعم السريع الي مواجهة عسكرية محتدمة كانت أبرز سماتها ولا تزال ليس فقط عدم الاكتراث بحياة المدنيين وممتلكاتهم بل استهدافهم بصورة ممنهجة من قبل الطرفين وارتكاب جرائم قد ترقي لجرائم الحرب والجرائم الموجهة ضد الانسانية.
في ظل غياب رؤية لمشروع بناء وطني حقيقي استمر نظام الحكم في السودان ومنذ 1956م مركزيا قابضا تتحكم في أجهزة الدولة فيه وعلى راسها القطاع الأمني والعسكري “نخبة مسيطرة” تسعى للاحتفاظ بمركزها في السلطة. عزز من هذا النمط تشوه البنية الاقتصادية في سياق دولة ريعية تضيق فيها قاعدة المصالح المادية وترتبط عضويا بجهاز الدولة. ما ادى الي تعميق التباينات بين الشرائح المجتمعية وتجذر الظلم الاجتماعي والتنموي واستمرار النظام السياسي غير المؤسسي على نمطه الزبائني ما حوله تدريجيا إلى نظام سوق سياسي تنسجم ديناميته مع قدرة النخبة الحاكمة/المتحكمة على نهب واستغلال الموارد واستخدام ثنائية القمع وشراء الولاءات للبقاء في السلطة.
وظل القطاع الأمني الأداة السياسية الاولي لنخب الدولة المركزية لحسم صراعاتها علي السلطة والثروة ما ادى به للتمدد السياسي حتى تحول مع حلول عام 2019م الي حزب سياسي مسلح يسعي لتحقيق أطماع قياداته ويشتري ولاء بعضا من وكلائه في الصف المدني. وادى به للتمدد الاقتصادي الي الاستحواذ علي ما يقارب الـ80% من الموازنة العامة و82% من النشاط الاقتصادي اما مباشرة او عبر واجهات تجارية متعددة تقف خلفها شبكات مصالح من العناصر الاسلاموية مرتبطة بطبقة عسكرية اوليغاركية نافذة.
في حين اتى توفير سلعة الامن للمواطن في مؤخرة اوليات هذا القطاع دائما, أتت حماية النخبة المسيطرة والعمل على استمرارها في السلطة في مقدمتها. وهو ما ادى بالحكومات المتعاقبة, ونسبة لمحدودية قدرات الجيش وعجزه التاريخي الوظيفي في بسط سيادة الدولة المركزية على كل مساحات السودان الشاسع ومواجهة الحراك المسلح المناهض للتهميش إلى تبني سياسات لتسليح شرائح مجتمعية من السودانيين لخدمتها ولسد ذلك العجز ما أنتج تناسلا لمليشيات انتهجت التنكيل وارتكبت فظاعات في حق مئات الاف المدنيين. جرائم مروعة شارك فيها الجيش/المؤسسة العسكرية الرسمية المليشيات المسلحة, القبلية في اغلبها, اما مباشرة علي الأرض بالتسليح وتوفير الغطاء الجوي والدعم الحربي او غير مباشر عبر توفير الغطاء السياسي والدبلوماسي والقانوني.
أما القوي المناهضة للدولة المركزية والحاملة للسلاح والتي درجت على تقديم اجندات الظلامات التاريخية او ما عرف مصطلحا ب “قوي الكفاح المسلح” فقد تحول عديد منها بفعل عوامل لا يتسع المجال هنا لذكرها, الي مليشيات قبلية مسلحة ايضا, أي قوى غير مستقرة وغير قادرة علي السيطرة علي مجال جغرافي محدد, تقوم علي أساس اثني وتهيمن عليها مجموعة صغيرة – عائلة أو عشيرة في الاغلب – تلجأ للحصول علي مواردها الضرورية اما الي سلب الغنائم او استخلاص الموارد الطبيعية “الذهب كمثال” أو الارتزاق عبر المشاركة في القتال خارج الحدود. وتعمل بصورة تلقائية على تحويل قوتها القتالية الي ثقل تفاوضي مع “النخبة المسيطرة” في المركز للحصول على نسبة من السلطة والثروة لقياداتها في المقام الأول, ضمن ما درجت الدولة السودانية على توقيعه من اتفاقيات السلام. وهي اتفاقات, رغم جودة نصوص اغلبها, إلا أنها تمثل في جوهرها “صفقات” لاقتسام السلطة بين النخب تم في جلها ودون استثناء التغافل عن قضايا أصحاب المصلحة على الأرض وعن محاسبة الجناة على الجرائم التي ارتكبوها وتقديمهم للعدالة. وهو ما يفسر أيضا الاصطفاف التكتيكي لبعض هذه القوي مع الجيش أو الدعم السريع أو كليهما, كما وضح منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م وما تلاه, ضد أي مشروع يسعي للتحول المدني الديموقراطي والتغيير العميق للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الشائهة التي تسببت في حملهم السلاح في المقام الأول.
وهنا يجب التذكير مرارا وتكرارا ونحن نتطلع الي وقف الحرب ثم الي غد أفضل يمثل فيه القطاع الأمني الكفء أحد اعمدته الأساسية:
“بان عدد المدنيين الذين سقطوا بصورة مباشرة وغير مباشرة جراء النزاعات المسلحة التي لعب فيها القطاع الامني والعسكري في السودان -بمختلف فاعليه- دورا مركزيا, باعتباره أداة حسم للصراع السياسي والاقتصادي في المقام الأول ومنذ عام 1956م, يقدر بأكثر من 2,000,000 نسمة بينما عدد الذين قُدموا للمحاكمات من المسؤولين عن الانتهاكات ان كانوا من القيادات المدنية او العسكرية او افراد أجهزة هذا القطاع او المليشيات المسلحة يقارب الصفر, وهو ما يدل علي ان أخطر العناصر التي شكلت هذا القطاع وشكلت بالتالي الواقع الأمني والإنساني والاقتصادي المنهار في سودان اليوم, هو النمط المؤسسي للإفلات من العقاب وغياب سيادة حكم القانون واحترام حقوق الانسان.”
ويمكن اختصار الجانب الأهم من الإجابة على السؤال في عدم اعتراف عديد المدنيين الفاعلين في صف مناهضة الحرب بالطبيعة الاجرامية لطرفيها ما ادي بهم الي تبني أدوات سياسية تعتمد أساسا علي التفاؤل في قدرة العمل التفاوضي لوحده علي صنع المعجزات والوصول الي اتفاق سياسي يفتح الطريق امام حل مستدام, وهو ما دفع بأغلبهم – أي الفاعلين السياسيين الحاملين لمشروع ديموقراطي – الي تبني خطاب متساهل الي حد كبير ومتغافل نسبيا عن حجم ما ارتكب من جرائم منذ وصول قيادات القوات المسلحة والدعم السريع الحاليين الي قمة السلطة على اكتاف تضحيات المدنيين خلال نضالهم السلمي الطويل الدامي.
الجزء المكمل للإجابة على السؤال يكمن في العيوب الكامنة في البيئة السياسية السودانية, وهي امتداد للاختلال البنيوي سابق الذكر, والناتجة عن ترسخ نظام حكم مركزي قابض بفعل عقود طويلة من الديكتاتوريات العنيفة وافتقاد للرؤية والإرادة السياسية خلال في الفترات الديموقراطية بالغة القصر, انتج في منتهاه ضعفا بالغا للثقافة السياسية وبعدا عن القيم والممارسات الديموقراطية بصورة عامة ما ادي الي اضعاف الصف المدني وتشظيه البالغ.
فاذا استثنينا المدنيين الحاملين لمشروعات أيديولوجية اوتوقراطية بطبيعتها او اولائك الذين ظلوا يلعبون وبمقابل مادي او معنوي او كليهما في الغالب, دور العملاء او الواجهات السياسية لاحد الكيانين السياسيين المسلحين, أي القوات المسلحة والدعم السريع, فان عددا كبيرا جدا من المدنيين الاخرين, المؤثرين في الفضاء العام, وقعوا ضحايا خطاب الكراهية والتخوين الذي صممته وغذته في الأصل ماكينة الدعاية الاسلاموية الضخمة ذات الخبرة الطويلة, والموجه في المقام الأول الي قوي الحرية والتغيير, كيانات ورموزا, كأحد اكبر التحالفات المدنية السياسية في تاريخ السودان وأكثرها فاعلية , والتي رغم العيوب الذاتية المعترف بها, استطاعت وخلال فترة انتقالية لا تتعدي ال 26 شهرا أخراج السودان من عزلته واوصلته الي اعتاب اعفاء ما يقارب الأربعين مليار دولار من ديونه المتراكمة كسابقة في التاريخ واستطاعت تجاوز كل المؤامرات التي حاكها التحالف الاسلاموي العسكري بما فيه قيادات قوات الدعم السريع, والتقدم في ملفات عديدة كان ابرزها تفكيك بنية النظام السابق ومحاولات ابتدار عمليات الإصلاح الأمني, ما ادي بهذه القوي الي قيادة انقلاب أكتوبر 2021م المستهدفة به اجندة ثورة ديسمبر 2018م وحامليها من قوي الحرية والتغيير.
أضعف من مقاومة عديد هؤلاء المدنيين لهذا الخطاب استغراقهم في مرارات شخصية واحباطات جراء التناقض بين طموحاتهم المدفوعة بتقديرهم الزائد لذواتهم وموقعهم من مركز الفعل السياسي او بسبب تحيزات صغيرة جعلت من تحديد الأولويات في جداولهم للفعل العام/الوطني عملية شبه مستحيلة, ما دفعهم لاستعداء رفاقهم المدنيين الفاعلين وأصحاب المبادرات الشجاعة لوقف الحرب بنمط اتسم بالشطط البالغ حد نسيانهم أسباب الواقع المذري الحالي الحقيقية بل دفع بعضهم الي اتخاذ موقف داعم لاحد جانبي الصراع اما بذريعة ضرورة القضاء علي دولة 1956م الشائهة الظالمة من جانب او بذريعة المؤسسية لكيان لم يكتفي بعدم لعب دوره الحقيقي منذ تأسيسه تقريبا بل ظل عنصرا مهددا لاستقرار الدولة ثم وجودها اليوم.
اكتمل العامل السابق مع ارتباط عديد من هؤلاء المدنيين بدوائر صنع القرار في المجتمع الدولي كمصادر للمعلومات الشحيحة جدا للمشهد السوداني بالغ التعقيد, ما رسخ لدي بعض هذه القوي او بعض دوائر النفوذ فيها قناعة بلعب قوي الحرية والتغيير و”تقدم” دور الظهير السياسي للدعم السريع كمثال, وجعل من تدخلها للضغط من اجل إيقاف هذه الحرب ودعم المناهضين لها بطيئا خجولا ومترددا, عزز من ذلك بروز أزمات دولية مستفحلة ما بين أوكرانيا وغزة وبحر الصين تهدد النظام الدولي في مجمله وتقوض من اليات حل نزاعاته سلميا وتجعل من حرب السودان المأساة الإنسانية الكبري المنسية والمهملة بامتياز.
ويبقي السؤال العالق الان في اذهاننا جميعا, ضحايا هذه الحرب البلهاء, هو وماذا بعد؟ وماهي الفرص الكامنة في هذا الحدث المهم المتمثل في المؤتمر التأسيسي لـ”تقدم”؟ وهل من طريق الي الامام؟.
والاجابة عليه تتطلب سلسلة من المقالات القادمة لكن يمكن اختصاره هنا في ان المؤتمر التأسيسي ل”تقدم” هو بالتأكيد خطوة مفصلية نحو الحل, لكنه يبقي الخطوة الاولي في مشوار الاف الخطوات القادمة والتي تبدأ بتكوين اكبر جبهة مدنية متماسكة في تاريخ السودان الحديث لديها القدرة علي محاصرة وممارسة الضغط علي الطرفين لإيقاف الحرب ومن ثم دفعهما الي عملية سياسية تفضي الي بدء عملية بناء يقودها المدنيون أصحاب المصلحة في اطار سودان موحد يمتلك ناصية سيادته الداخلية والخارجية ويتمكن فيه المواطنون والمواطنات, بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية او الاثنية والاجتماعية او الاقتصادية او غيرها العيش بكرامة والحصول علي حقوقهم الإنسانية, السياسية والاقتصادية كاملة وبالتساوي في وطن يسع الجميع.
وهو مشوار طويل من عمليات الإصلاح والتحول والبناء السياسي , التشريعي , المؤسسي, الاجتماعي والثقافي التي يجب ان يشارك فيها الجميع عبر حوار مجتمعي سليم وعلي مدي زمني قد يمتد عقودا قادمات.
ربما لن يمثل مؤتمر “تقدم” الحل النهائي والفوري لكنه بالتأكيد الفرصة الأخيرة قبل ان ندخل المرحلة الجديدة من تطور أحداث هذه الحرب والتي تشير عديد الدلائل الي اتجاهها نحو تقسيم البلاد والقضاء على ما تبقي من تماسك نسيجه المجتمعي وايصاله الي مرحلة ستصبح كل الحلول بعدها مستحيلة.
يتبع…