إسماعيل هجانة: الإمارات وحق الشعوب السودانية في الحياة: ما بين خطاب السلاح وصوت الإنسان!

بقلم الكاتب والباحث إسماعيل هجانة
في السودان، هناك موت لا ضوء فيه، ولا عزاء يشفيه.
موت يتكرر منذ فجر الاستقلال، كأن البلاد وُلدت من رحم النار وظلت تدور في محرقتها، تُبدل الوجوه لا المنطق، وتعيد إنتاج البؤس بأسماء مختلفة.
وفي قلب هذه الدوامة، لا شيء يضاهي قسوة الحرب إلا صمت العالم عنها، أو تسابق البعض على الاستثمار في حطامها.
لكن بين ركام السياسة، برز موقف نادر… موقف يتحدث بلغة الإنسان قبل لغة الجغرافيا أو المصالح.
جاء من دولة الإمارات، ليس ليُزايد أو يُملي، بل ليضع النقاط على حروف الحقيقة، ويرفع الصوت ضد ما يحاول كثيرون دفنه:
أن من يتحدث عن “الوطنية” وهو يُقصف مدنه، ومن يتغنى بـ“السيادة” وهو يمنع الغذاء عن أهله، لا يطلب دولة… بل سلطة على المقبرة.
بين من يقتل باسمه… ومن يموت صامتًا
منذ أن اشتعلت الحرب في 15 أبريل 2023، لم تكن المعركة متكافئة.
لم تكن حتى بين طرفين.
بل كانت – وما تزال – حربًا مفتوحة بين مركز مُسلّح وجائع للسلطة، وهوامش تُذبح على صمت الخرائط.
في دارفور، في كردفان، في أطراف الجزيرة، يموت الناس بصمت. لا لأنهم اختاروا الحياد، بل لأنهم خارج منظومة التصنيف.
أجسادهم تُستخدم وقودًا في معركة لم يصوّتوا لها، ولم يُستأذنوا فيها.
ومع ذلك، حين حاول الممثل السوداني تبرئة الجيش عبر تلاعب واضح بتقرير الأمم المتحدة، جاءت رسالة الإمارات إلى مجلس الأمن كصفعة سياسية وإنسانية، لا ترد فقط على التزييف، بل تُعيد رسم المعادلة:
ليس كل ما يُقال في نيويورك يُعبر عن صوت الضحايا.
وأحيانًا، يكون أشد المجرمين صوتًا… هو من ارتدى ثوب الشكوى ليُغطي به عار المجازر.
الجيش المليشي الذي لا يُحارب إلا شعبه
في أعماق كل صراع، هناك سرديتان:
إحداهما تُقال عبر الميكروفونات، والأخرى تُكتب بالدم.
وما بينهما، يعيش الضحايا في الهوامش… بلا صوت ولا ذاكرة.
الجيش السوداني – الذي أجهض الثورة، وانقلب على الانتقال، وقصف الخرطوم والفاشر وكادوقلي – لا يزال يُحدثنا عن “الوطنية”.
يتحدث عن “الدستور” بينما يغلق المدارس،
وعن “الكرامة” بينما يُطلق النار على طوابير الخبز.
تقرير الأمم المتحدة لم يكن إلا شهادة موثقة على من يُغلق الطريق أمام المساعدات، ويمنع فرق الإغاثة، ويُشعل الأرض تحت أقدام النازحين.
فجاءت الإمارات، لا لتدخل في سجال سياسي، بل لتقول:
هذه ليست معركة تقرير… بل معركة ضمير.
الإمارات… حين يصبح الإنحياز للإنسان فضيلة سياسية
ليست الإمارات طرفًا جديدًا على المنطقة، لكنها في الملف السوداني مارست ما هو أندر من المواقف: الحياد النزيه والانحياز للضحايا.
لم تُموّل ميليشيا، ولم تُرسل مرتزقة، ولم تُبرر سلاحًا.
بل أرسلت جسورًا جوية، دعمت اللاجئين، وشجعت المسارات السياسية…
ثم قالتها بوضوح:
- كفى استغلالًا للمنصات الدولية،
- كفى تلاعبًا بالتقارير،
- كفى قتالًا على الخراب.
وإن كانت الدول تُقاس بمواقفها في لحظات اختبار الأخلاق، فإن موقف الإمارات اليوم لا يُحسب سياسياً بقدر ما يُسجل كقيمة أخلاقية في ضمير منطقة أنهكتها الخطابات الحارقة والاصطفافات العمياء.
الأرقام لا تُكذب… والكارثة أكبر من حجم الأمة
المأساة السودانية تجاوزت حدود السياسة، وبلغت عتبة الإبادة التدريجية.
هذه ليست مجرد حرب، بل تجريف منظم للمجتمع وتجفيف للحياة:
- 12 مليون نازح داخلي،
- 3 مليون لاجئ في الخارج،
- أكثر من 60٪ من الطلاب حُرموا من التعليم،
- 13 مليون طفل بلا مدرسة،
- أكثر من 26 مليون إنسان ينتظرون مساعدات عاجلة،
- 5 ملايين طفل يعانون من سوء تغذية،
- ومناطق أُعلنت رسميًا بأنها تعيش المجاعة.
وفوق كل ذلك، تنتشر ميليشيات عقائدية، تمارس تطهيرًا عرقيًا، وحملات انتقام عابر للمنطق والقانون.
من بقي من هؤلاء ليطلب “الشرعية”؟
ومن بقي ليصدق أن هذه الحرب هي من أجل “الوطن”؟
هل من صوت يسمع الحقيقة؟
في عالم تتسابق فيه المصالح، وتُشترى فيه الذمم، يندر أن نسمع صوتًا يقول:
أنا مع الإنسان… لا مع البندقية.
وهذا ما قالته الإمارات، بهدوء لم تهزمه الدعاية، وبحكمة لم تُخدع بشعارات الجيوش.
من يُطالب بوقف إطلاق النار، وبعودة الحياة، وبكرامة الإنسان، هو الذي يستحق أن يُصغى إليه، لا من يُريد أن يُعيد التاريخ إلى الوراء عبر فوهات المدافع.
إن الشعوب السودانية لم تطلب يومًا أكثر من الحياة،
لكنها اليوم… تدفع ثمن كل شيء، حتى حقها في البكاء.
وتُقدّر المساعدات الإنسانية التي قدّمتها الإمارات للسودان منذ عام 2018 بأكثر من 600 مليون دولار، ناهيك عن المساعدات الأخرى التي واصل تقديمها حكومة وشعب الإمارات، للسودانيين حكومةً وشعبًا، دون منٍّ أو أذى. ولكن أبواق الإخوان النائمة لا يعجبها العجب، ولا الصيام في رجب، كما يقول المثل السوداني. لأن ما لا يمكنهم احتماله فعليًا، هو أن يقف أحد إلى جانب الشعب… دون مقابل، ودون مشروع سلطوي مبيت.