في قلب الفوضى .. البرهان يعيد رسم “سلطة من ورق”

عبدالفتاح البرهان - القائد العام للقوات المسلحة السودانية
“السودان لا يحتاج إلى مراسيم جديدة، بل إلى وقفة صادقة مع الذات، وسلطة حقيقية تعكس إرادة الناس لا أوهام الجنرالات”.
الخرطوم – بلو نيوز الاخبارية
بينما تئن البلاد تحت وطأة أكبر كارثة إنسانية في تاريخها الحديث، وتتحول المدن إلى ساحات حرب مفتوحة، يواصل الجنرال عبد الفتاح البرهان هندسة مشهد سلطوي مثير للجدل، وكأنه يعيد ترتيب عرش في قاعة خاوية، فبتعيين رئيس وزراء جديد وتوسيع عضوية مجلس السيادة، يمضي الجنرال في بناء هيكل سياسي فوق ركام الدولة المنهارة، وسط تساؤلات ملحّة: هل هي محاولة لإنعاش شرعية متآكلة؟ أم مجرد واجهة مدنية لسلطة عسكرية باطشة؟
“كامل” في رئاسة غير مكتملة
في 19 مايو 2025، وقع البرهان مرسوماً دستورياً بتعيين الدكتور كامل الطيب إدريس رئيساً للوزراء، بعد اعتذار دفع الله الحاج علي الذي لم يمكث طويلاً في مهمة التسيير. كامل إدريس، الأكاديمي والدبلوماسي المعروف، يطل مجدداً في مشهد تغشاه الشكوك، لا سيما بعد سنوات من الجدل الذي لاحق سيرته الذاتية حين كان على رأس المنظمة العالمية للملكية الفكرية.
ورغم ما يتمتع به من خبرة دولية، فإن ماضيه المهني الملبد بتهم تضارب المعلومات والتزوير المزعوم، يثير الريبة في توقيت تعيينه ودلالته، فهل اختاره البرهان لثقل رمزي خارجي؟ أم لسهولة احتوائه في مشهد محكوم من خلف الستار؟
الواجهة المدنية .. مجرد ديكور؟
بالتزامن، ضم البرهان سيدتين إلى مجلس السيادة، وألغى إشراف الأعضاء على الوزارات، في خطوة توحي بإعادة توزيع الأدوار داخل ما تبقى من هيكل الدولة. لكنّ مراقبين يرون أن هذه التحركات لا تُنتج تحولًا حقيقيًا في ميزان السلطة، بل تُعيد إنتاج النظام نفسه بصورته الخادعة: مدني في الشكل، عسكري في الجوهر.
المحلل السياسي عثمان فضل الله يصف الأمر بـ”هندسة شكلية للسلطة”، ويقول لـ”راينو”، “البرهان لا يشارك السلطة، بل يُعيد إنتاجها بديكور مدني. يريد أن يظهر للعالم أن هناك حكومة، بينما يحتفظ بكل الخيوط في يده.”
معركة الرموز وسط نيران الحرب
القرارات السياسية التي يصدرها الجنرال تأتي في لحظة اشتعال، والفاشر تشتعل بنيران المعارك، والخرطوم تمزقها قذائف الأطراف المتناحرة، وشرق البلاد على كف عفريت. ومع هذا، فإن التعيينات تتعامل مع السودان كما لو أنه يعيش مرحلة انتقالية هادئة، لا حربًا وجودية.
من يعين وزراءً في ظل غياب الوزارات؟ من يكون مجلس سيادة بلا سيادة على الأرض؟
السودان اليوم بلا مركز إداري فعلي وبلا خدمات وبلا اقتصاد، بلا شرعية. الدولة السودانية، كما يعرفها العالم، تنهار قطعةً قطعة، بينما البرهان يراهن على شرعية شكلية تطفو فوق بحر من الدماء.حكومة من بورتسودان .. ودولة في الخيال
يذهب كثيرون إلى أن الجنرال يسعى لفرض مشهد فوقي يوحي بأن “الدولة مستمرة”، رغم أن مؤسساتها لم تعد تُدار إلا من مدينة ساحلية واحدة، بورتسودان، التي أصبحت عاصمة سياسية بحكم الواقع، وإن كانت منزوعة الفاعلية على مستوى القرار الميداني.
في حديثه لـ”راينو”، يقول عثمان عبد الرحمن سليمان، المتحدث باسم تحالف القوى المدنية المتحدة: “فاقد الشيء لا يعطيه. لا مستقبل لحكم مدني ديمقراطي في السودان مع هيمنة الجيش. هذه الحكومة التي يروّج لها البرهان لا قيمة دستورية أو سياسية لها، وهي محاولة لإلهاء الداخل وامتصاص الضغط الدولي، لا أكثر.”
ويضيف: “ما يجري في بورتسودان مجرد عرض سلطوي لا يملك أدوات الحكم الحقيقي، ولا يملك الأرض التي يفترض أن يُمارس فيها الحكم.”
هروب للأمام .. أم استعداد لما بعد الهزيمة؟
لا يمكن قراءة تحركات البرهان بمعزل عن ميزان القوة المتغير في الميدان. فالمكاسب العسكرية المتلاحقة لقوات الدعم السريع، واتساع نفوذها في دارفور وأجزاء من العاصمة، يفرض وقائع جديدة تهدد بقاء السلطة القائمة في بورتسودان. من هنا، يرى البعض أن تعيين رئيس وزراء وبناء هياكل شكلية هو نوع من “التأمين السياسي لما بعد الحرب”، أو تمهيد لتسوية مرتقبة تحفظ للبرهان موقعًا ما.
لكن المشكلة ليست في التعيينات فقط، بل في مضمون المشروع السياسي ذاته، فبدلاً من مراجعة أسباب الانهيار ومحاولة إنقاذ الدولة، يُعيد البرهان تدوير الوجوه القديمة، ويستدعي نماذج من عهد البشير، بل وشخصيات ترتبط مباشرة بالإسلاميين، ما يعمق الشكوك حول نواياه الحقيقية.
خاتمة: دولة تدار من الظل .. وشعب يدفع الثمن
في بلد يتقاتل فيه الجنرالات على الخراب، ويبحث فيه المدنيون عن طوق نجاة، تبدو تعيينات البرهان الأخيرة كأنها إعلان عن ولادة حكومة “لا أحد”، تدير دولة “لا وجود لها”، باسم شعب “لا يُستشار”.
تبدو قرارات الجنرال كمحاولة لترميم واجهة تساقطت ألواحها، وترتيب أثاث في بيت أحترق أساسه، لكنّ ما يغيب عن المشهد هو صوت الضحايا، صرخات النازحين، وأنين المدن المدمرة.
السودان لا يحتاج إلى مراسيم جديدة، بل إلى وقفة صادقة مع الذات، وسلطة حقيقية تعكس إرادة الناس لا أوهام الجنرالات.
نقلا عن وكالة راينو الاخبارية