هاري فيرهوفن: هل تستطيع القوات المسلحة السودانية إنقاذ نفسها من نفسها .؟

109
البروف هاري فيرهوفن، أستاذ محاضر في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، وباحث كبير في مركز سياسة الطاقة العالمية ومنظم شبكة جامعة أكسفورد “الصينية -الإفريقية”، ومؤلف كتاب “المياه والحضارة والطاقة في السودان”، و”الاقتصاد السياسي لبناء الدولة العسكرية الإسلامية “جامعة كامبريدج”.

 

ارتكبت القوات المسلحة السودانية، سلسلة من الأخطاء العسكرية والسياسية، التي زادت من إحتمال تفككها وإنهيار الدولة السودانية.

البروفيسور هاري فيرهوفن.

منذ إندلاع الحرب الأخيرة في السودان، ظل الوضع محبطاً بإستمرار للقوات المسلحة السودانية، وعلى مدى أشهر، منذ بداية الحرب تقاتل وحدات الجيش السوداني “المحاصرة” تحاول كسر “قبضة” قوات الدعم السريع التى “تسيطر” على اجزء كبير من العاصمة السودانية الخرطوم.

وقد إجتاحت “قوات الدعم السريع” معظم أنحاء “دارفور” ومساحات واسعة من “كردفان”، وعززت نفسها كقوة بارزة في “غرب السودان”.

ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2023، تقدمت “قوات الدعم السريع” أيضًا إلى وسط وشرق السودان، مع إنهيار دفاعات “قوات الجيش” في ود مدني، إحدى أكبر المدن في السودان. وهو ما يمثل إذلالاً تاريخياً “للقوات المسلحة السودانية”. وفي نظر صناع القرار في “عواصم دول القرن الأفريقي”، فإن إحتمال أن يصبح قائد قوات الدعم السريع، الجنرال محمد حمدان دقلو “حميدتي” الرجل القوي الجديد في السودان، قد إنتقل من “الإفتراض” إلى “إحتمال” واضح.

ويعود هذا النجاح إلى حد كبير إلى تفوق “قوات الدعم السريع” على التوقعات، من خلال الإدارة البارعة للخدمات اللوجستية عبر مسافات هائلة، والقادة المحليين المهرة، الذين يتفوقون تكتيكياً على خصومهم من “قيادة الجيش”. لكن ما لا يقل أهمية هو ضعف أداء القوات المسلحة السودانية، “عسكريا وسياسيا”.

وينبغي النظر إلى القوات المسلحة السودانية على أنها مؤسسة “معقدة” تضم مزيجاً من الجنرالات الدكتاتوريين المنشغلين بتعزيز “مصالحهم الشخصية” أو أجنداتهم الايدولوجية.

إن القوات المسلحة السودانية أقدم من السودان المستقل، وقد حافظت دائماً على استقلالها عن الدولة والمجتمع.

ولقد كانت في السابق مؤسسة ذات ذكريات تاريخية، وروح مؤسسية ومصالح دائمة تتجاوز خصوصيات القادة الأفراد أو مجموعات المصالح.

إن إصرار القوات المسلحة السودانية على “الحكم” ورغبتها في حماية مصالحها، هو الذي أدى على وجه التحديد إلى تحفيز المنافسة المستمرة مع الأجهزة الأمنية الأخرى في السودان، مثل أجهزة المخابرات والميليشيات شبه العسكرية.

وساعدة الرغبة في إعادة ترسيخ القوات المسلحة السودانية كمنظمة بارزة بين المنظمات الأمنية في أعقاب “انهيار” النظام السابق في تفسير سبب اندلاع الحرب مع قوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023.

التجهيز للحرب:

قبل انقلابها الأخير في 25 أكتوبر 2021، أطاحت القوات المسلحة السودانية بثلاث “حكومات مدنية”، في عام “1958” بناءً على طلب من رئيس الوزراء، وفي عام “1969” على أمل بناء الاشتراكية مع الحزب الشيوعي السوداني، وفي عام “1989” بالتحالف مع الثوار الإسلاميين. اختلفت الظروف المحيطة بهذه الانقلابات، وكذلك مستوى الدعم داخل الجيش نفسه، ولكن في كل مرة يصبح ضابط في القوات المسلحة السودانية رئيساً للبلاد.

وبعد توطيد كل نظام لحكمه، تعود خيبات الأمل إلى الظهور من جديد، عندما تنعدم الثقة بين قائد القوات المسلحة السودانية في “القمة” ورفاقه الذين وضعوه في “السلطة”. ويقوم بتمكين الجهات الأخرى المقدمة لأمن الدولة بشكل متزايد، مما يؤدى إلى تعميق هوس ضباط القوات المسلحة السودانية بالمنافسة الأمنية.

وهذا بالضبط ما حدث في السنوات الأخيرة ل”نظام الإنقاذ” الذي حكم السودان بين عامي “1989 – 2019”.

وفي مقر القوات المسلحة السودانية في وسط الخرطوم، تعرضت الدولة والجيش “للضعف” بعد استقلال جنوب السودان في عام “2011”. وبعد ذلك، اعتمد بقاء البشير كرئيس للدولة بشكل متزايد على “جهاز الأمن والمخابرات الوطني” وزمرة القتال من ميليشيات “دارفورية” والتى تم تغيير اسمها مؤخرا إلى “قوات الدعم السريع”.

وحصن “البشير” بتعزيز جهاز الأمن والمخابرات الوطني وقوات الدعم السريع لموازنة القوات المسلحة السودانية، لمنع اي إنقلاب عليه، أو التحالف بين الجيش والمعارضة المدنية الناشئة.

إن مشاركة قوات الدعم السريع في حرب “اليمن” واستيلائها على جزء كبير من صادرات الذهب المربحة للسودان، بناءً على دعوة من الرئيس، ملأ خزانة قوات الدعم السريع، ومنح “حميدتي” شبكات دولية لا تقدر بثمن.

وأدى هذا إلى زعزعة استقرار نظام الإنقاذ بشكل متزايد، ولكن “البشير” تجاهل التحذيرات بشأن “دولة داخل الدولة”.

ورداً على ذلك، رسم ضباط القوات المسلحة السودانية مسارهم الخاص بشكل متزايد وانتقلوا إلى الصناعات التجارية، “تصنيع اللحوم، والاتصالات، وإنتاج السمسم” وغير ذلك الكثير بوتيرة متصاعدة.

وقد أدى ذلك إلى إثراء القادة شخصياً، ولكنه أيضاً زود الجيش كمؤسسة بتمويل إضافي وسط المنافسة الأمنية الشديدة.

وتخلت القوات المسلحة السودانية عن “البشير” كقائد أعلى لها خلال ثورة ديسمبر “2019”، واختارت “عبد الفتاح البرهان” قائداً أعلى لها.

كان من المهم بالنسبة لكثير من “ضباط” القوات المسلحة السودانية، ألا يكون قائدها الجديد “إسلامياً”، وهو ما كان يُنظر إليه على أنه سام سياسياً، بعد عقد من الأزمة الاقتصادية وفضائح الفساد، وجنرالاً لا يتمتع بشخصية كاريزمية، وعلاقات مميزة مع أي مؤسسات أو أحزاب سياسية أخرى.

وكان السيناريو “الكابوس” هو أن تساعد القوات المسلحة السودانية، مرة أخرى، في وضع التاج على رأس أحد أفرادها، فقط لكي يؤدي ذلك “الضابط” بعد ذلك إلى تآكل نفوذ الجيش وتمكين الأجهزة الأمنية الأخرى. وبدأ “البرهان” ضعيفا بما فيه الكفاية، مما اضطره إلى الاعتماد على زملائه من كبار الشخصيات في القوات المسلحة السودانية للحكم.

إن نجاح القوات المسلحة السودانية في منع ظهور “مستبد” قوي آخر من صفوفها، قوض قدرتها على المناورة سياسياً ما بعد الثورة، عندما أثبتت قيادة “البرهان” عدم فعاليتها.

وحاول “البرهان” لجعل الجيش “شريكًا” لا غنى عنه للسياسيين المدنيين، والثوار المحتجين في شوارع الخرطوم، وتحريضهم ضد “قوات الدعم السريع”. وكان من الممكن أن تؤدي مثل هذه النتيجة إلى تأكيد القوات المسلحة السودانية باعتبارها المؤسسة الأمنية الأساسية التي لا جدال فيها، ووضع السودان على مسار أكثر “ثباتًا” تجاه السياسة التي يهيمن عليها المدنيون.

وبدلاً من ذلك، راهن “البرهان” على “انقلاب” أكتوبر/تشرين الأول 2021، على أمل أن يضمن ذلك هيمنة القوات المسلحة السودانية على قوات الدعم السريع، أو أن يؤدي إلى تشكيل حكومة مخففة من الشركاء “المدنيين الموثوقين” الذين سيمكنونه من الحكم بفعالية أكبر، ولم “يحدث أي منهما”.

ويشكو العديد من مسؤولي القوات المسلحة السودانية سراً من أن حسابات “البرهان” غير الدقيقة، أثارت “إستعداء” الحلفاء المحتملين، وجعلت المدنيين عرضة ل”مبادرات حميدتي”، مما ترك الجيش والبلاد غير مستعدين بشكل كافٍ للمواجهة “الحتمية” مع قوات الدعم السريع.

ومنذ إندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، وإستمرار استراتيجيات “البرهان” العسكرية وتكتيكاته الدبلوماسية جلبت “نتائج كارثية على القوات المسلحة السودانية”.

ونظراً لأن الوضع في ساحة المعركة ضعيف للغاية، ولا يبدو أن هناك أي قوة خارجية تتجه إلى “جانبها”، فقد أعادت القوات المسلحة السودانية احتضان كتائب المنظمات “الإسلامية” المحيطة بالوزيرين السابقين “علي كرتي وأسامة عبد الله”.

ويتمتع الرجلان بالمال، ومجموعات الاسلاميين المتحمسين، وهو ما يوفر أحد الخيارات القليلة المتاحة للقوات المسلحة السودانية في سعيها لتغيير مجرى الأمور. ومع ذلك، فإن هذه الشراكة تأتي بتكلفة عالية.

وكثيرون في القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك “البرهان” نفسه، لا يثقون بشدة في الحركة الإسلامية في السودان، ولديهم مشاعر مختلطة حول سنوات الإنقاذ، على الرغم من أن “الإسلاميين” يقابلون هذه المشاعر بالمثل. إن تواصل القوات المسلحة السودانية مع “كرتي وعبد الله” وغيرهما من المتشددين الاسلاميين؛ لا يشكل لعنة للأحزاب المدنية في السودان فحسب، بل إنه يضر أيضاً بمحاولات “البرهان” تصوير القوات المسلحة السودانية على أنها تجسد الدولة السودانية، والقومية الوسطى مع المنطقة والغرب.

وفي المقابل، نجح “حميدتي” في القيام بجولة في شرق إفريقيا وأصدر “خارطة طريق” للسلام “التي تستبعد صراحة دوائر الإنقاذ السابقة من المشاركة” مع رئيس الوزراء السابق حمدوك ومدنيين آخرين.

وراهنت القوات المسلحة السودانية على أن “البرهان” سيبعدها عن تناقضات الماضي ويساعد في حل معضلاتها المؤسسية، ولكن لسوء الحظ بالنسبة للمؤسسة، يبدو أن هذا “الاختيار” كان له دور فعال في دفع السودان إلى حافة الهاوية ويهدد بأخذ القوات المسلحة السودانية معها.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *