إبراهيم شداد: هل هناك ولايات آمنة، فعلا .؟
هل هناك ولايات آمنة، فعلا .؟
- إبراهيم شداد ..
كنت أظننى تقدمت فى السن، بحيث تعجزنى بعض الشدائد. لكن خاب ظنى..فحين عبرنا الحدود إلى جنوب السودان كان ثمة خياران للوصول إلى مدينة “أويل”، أقرب نقطة حضرية من بحر العرب. إما أن تنتظر صف السيارات، تأخذ السيارة عددها من الركاب، فتتحرك..وربما تتأخر ساعة أو اثنتين فى انتظار مقعد وحيد…أو يردفك شاب على ظهر موتر، بعد أن يحزم حقيبتك، وراءك، وتنطلقان فى رحلة تستغرق بين ثلاث ساعات ونصف الساعة، أو أربع..ترددت، ثم ركبت الموتر.
أتنسم هواء جنوب السودان الذى أحب. الأشجار كثيفة، والمانجو مترعة. نتوقف فى محطات لا بأس بها، نشرب قهوة، ندخن سجائر، ننطلق.
مع مغيب الشمس كنا قد وصلنا “أويل”. أحب بحر الغزال، جدا..”أويل” و “واو”، تحديدا، لأسباب شخصية. والدى – عليه شآبيب الرحمة – خدم عاملا للسكة الحديد فى محطة “أويل” لمدة عامين. 79 – 1989م. بقيت “أويل” اسما خالدا فى ذاكرتى. شقيقنا الأكبر الكمندان سليمان، أطال الله عمره، تجند عسكريا فى الجيش فى مدينة “واو” منتصف الثمانينات..بقى فى “واو” وتزوج زوجته الأولى فيها. سلخ زهاء ال 15 عاما، قبل أن يعود مع كتيبته إلى نيالا. لذلك أحب بحر الغزال.
شايف كيف؟
نزلت فى فندق صغير. يملكه مستثمر حبشى. اكتشفت فيما بعد أن الفنادق فى كل جنوب السودان استثمار حبشى، يكاد يكون حكرا..ثمة الكثير من الأحباش ههنا. اثيوبيون وارتيريون. يقينى أن وجود الحبش فى أى مكان ميزة لا تدانيها ميزة..وجودهم يبعث على الحياة.
فى الصباح أخذنى صديقى “بول” إلى مكاتب حكومية. استخرجت الوثائق اللازمة، بما فيها إذن الحركة فى جنوب السودان، اشترى لى بطاقة ام.تى.ان للاتصالات..سلخنا النهار نتحاوم، بعد أن حجزت مقعدى فى إحدى السيارات إلى جوبا.
عصرا تحركنا..تتوقف السيارة فى نقطة التفتيش، خارج المدينة. العسكرى يسأل “فى سودانيبن فى العربية دى؟”..”نعم”..”معاكم ورق بتاع مايغريشن؟”..”نعم”.. أنزلوا أمشوا المكتب هناك.
شايف كيف؟
فى المكتب تربيزتان. العسكرى بزيه الرسمى، وآخران فى أزياء ملكية. أحدهما وراء المكتب والآخر يجلس على كرسى بلا تربيزة..كنا خمسة سودانيين. العسكرى قلب اوراقنا، وطلب مبلغ ألف جنيه للفرد..تدفع فيحولك للآخرين فى الأزياء المدنية. سألا إن كنا نملك هواتف كبيرة (تلفونات كبيرة). أنا وشاب آخر أجبنا ب “نعم”..أخرجنا هاتفينا..وشرع كل واحد منهما فى فحص محتويات الهاتف. بعد دقائق معدودة أعاد أحدهما للشاب هاتفه، فيما ظل الآخر يقلب فى استوديو هاتفى.
*إنت شغال شنو؟
-صحفى.
*عندك ما يثبت؟
أعطيته بطاقتى القومية. قلبها على وجهيها. “ليه عندك فيديوهات وصور بتاعت دعم سريع كتيرة فى تلفونك؟”…” وبرضو فى فيديوهات وصور جيش كتيرة، زى ما إنت شايف”…” يا زول إنت صحفى وللا عسكرى؟”.. ” مكتوب عندك فى البطاقة شنو؟”. تدخل الذى يجلس وراء التربيزة، ويبدو أنه أعلى منه رتبة. مد يده وأخذ هاتفى منه. بعد تقليب لدقائق، أيضا، شرع يحاضرنى.
شايف كيف؟
” طبعا إنت عارف إنو الجيش دا هو جيش السودان..إسمو قوات الشعب المسلحة..والدعم السريع عبارة عن مليشيا ساكت…عشان كدا..نصيحة ليك وإنت ماشى جوبا: أمسح حاجات الدعم السريع دا من تلفونك، عشان ما يجيب ليك مشكلة”..ختم حديثه وهو يناولنى هاتفى..شكرتهما، وخرجت..ركبت السيارة، وانطلقنا.
حسنا…
كان يمكنني أن أجادل الشابين. مباحث، استخبارات، جهاز أمن، الله أعلم..لكن ماذا كنت سأستفيد؟ فى تشاد، كما فى جنوب السودان، موضوع الحرب الدائرة هو موضوع الساعة..سيناقشك أى شخص فى البلدين كما لو أن الحرب هذه تدور حيث يجلس..ذلك شعور طيب..إحساس بالانتماء..لكنه مربك.
شايف كيف؟
هل جربت أن تقول لعسكرى – أيا كانت جهته العسكرية، وأيا كانت رتبته – “إنك مخطئ..إنك لا تفهم”؟؟ ذلك ما منعنى من مجادلة العسكريين الجنوبسودانيين وأنا أغادر “أويل”.
لكننى سأخبركم أمرا…
تمام؟
المرآة التى يطالع فيها العسكرى الجنوبسودانى الذى قدم لى نصيحة فى أويل، هى ذات المرآة التى ينظر إليها مالك عقار، مناوى، جبريل ابراهيم، محمد جلال هاشم، عبد الله على ابراهيم، التوم هجو، عشارى، ندى القلعة…لا داعى لذكر البقية…
سترى أنك تأتى على غزلك أنكاثا، انتصارا لنقطة معتمة فى “خويصة نفسك”، بعبارة حسن الترابى…
سأكون ممتنا وشاكرا، لو وجدتم وقتا لمتابعتى فى البوست القادم لأشرح “مرآة الوهم” التى نظر إليها العسكرى .. والآخرون.