حملة مناهضة للتجنيد العنصري للجيش .. من يجند ومن يعدم؟

14
جبال النوبة

“في مشهد مأساوي يختزل بؤس الحرب وعنصرية السلطة، فجرت خطوة الجيش السوداني الأخيرة بفتح باب التقديم للكلية الحربية في مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، موجة غضب عارمة بين أهالي جبال النوبة، الذين رأوا في الخطوة محاولة سافرة لتجنيد أبنائهم كوقود لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل حرب تمضي في سحقهم كمدنيين وفي استهدافهم على أسس عرقية وجغرافية .. ففي وقت تتصاعد فيه وتيرة القصف على قرى النوبة وتمنع فيه قوافل النازحين من الوصول إلى بر الأمان، وتقصف فيه المدارس، ويمنع فيه الأطفال من التعليم والغذاء ولم يجد الجيش السوداني سوى أبناء الهامش ليطلب منهم الالتحاق بمؤسسة عسكرية طالما أُغلقت أبوابها في وجوههم لعقود، واليوم تفتح فقط لتزج بهم إلى أتون محرقة لا ترحم”

 

تقرير – بلو نيوز الاخبارية

 

قنبلة التجنيد تنفجر في وجه السلطة

إعلان الكلية الحربية في كادوقلي لم يكن حدثاً عادياً، فقد اعتبره كثيرون إعلاناً غير مباشر لبدء مرحلة جديدة من استخدام أبناء الهامش كدروع بشرية، بعد أن فشلت النخبة الحاكمة في تعبئة قواعدها التي طالما دفعتها نحو خطاب الحرب، لكنها تراجعت عند أول اختبار ميداني.

وحيث جاءت ردود الفعل سريعة وغاضبة وأطلقت حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل شعارات مثل:

“لسنا وقود حربكم”

“لا لتجنيد أبناء جبال النوبة في جيش يقتلهم”

“جبال النوبة ليست مخزن جنود للجلابة”

“لا نُبيّض وجه القاتل”

الناشط والكاتب من الإقليم إسماعيل هجانة وصف الخطوة بأنها محاولة “يائسة لإضفاء الشرعية على مؤسسة عنصرية ظلت على الدوام مغلقة أمام أبناء المناطق المهمشة”، وأضاف: “هذه ليست دعوة للخدمة العسكرية، بل إعلان بتوفير مزيد من الضحايا لمحرقة بدأت ولن تتوقف إلا بخراب شامل.”

تناقض فج يكشفه الواقع

في الوقت الذي يعدم فيه جنود من النوبة بتهمة التواصل مع أهاليهم، يحتفى بآخرين من أبناء المركز أسقطوا وحدات عسكرية بالكامل في مدني وخرجوا منها مرفوعي الرأس، بل ومكرّمين .. فهل الجيش مؤسسة قومية أم أداة تصفية؟ هل تقاس الوطنية باللون والجهة واللسان؟

إن تجنيد أبناء جبال النوبة اليوم لا يمكن قراءته إلا في سياق توظيف عنصري واضح، وإعادة تكرار لنموذج “الجلابي” الذي يصنع المعارك ويقف على الحياد، بينما يقاتل النوباوي والدارفوري بعضهم البعض تحت لافتة “الوطن”.

في خضم حملة التجنيد، وقبل أيام فقط، قصف طيران الجيش مدرسة في قرية “الهدرا” بجبال النوبة، في الثامنة والنصف صباحا وقت الطابور الصباحي، مما أدى إلى مقتل 11 تلميذًا واثنين من المعلمين، ومع أن الاتهامات وجهت مباشرة لسلاح الجو السوداني، إلا أن الجهات الرسمية التزمت الصمت، كما جرت العادة.

الجيش الذي يقتل الأطفال في فصولهم الدراسية، يتحدث اليوم عن “بناء جيش وطني”، ويريد من ذات الأسر أن تمنحه أبناءها ليقاتلوا تحت رايته ..  أي نفاق هذا؟ وأي خيانة لدماء الأبرياء؟

قادة الهامش .. في صفوف الجلاد

لكن المفارقة الأكبر، أن يُشارك قادة من أبناء الهامش في هذا المسلسل الدموي، فالمشتركون في “القوات المشتركة” مثل جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي، لم يكتفوا بالصمت، بل وردت تقارير عن تورط قواتهم في منع النازحين من الخروج من مناطق النزاع في الفاشر، بل وتقييد بعضهم بالسلاسل لمنعهم من الفرار.

أسئلة كثيرة تطرح .. ما الذي يدفع قائدًا متمردًا سابقاُ لمحاصرة شعبه؟ ما الذي يغري من حمل السلاح يوماً في وجه المركز، أن يصبح أداة طيعة في يده؟ وهل هؤلاء هم من يمثلون الضحايا لاحقاً حين تعقد موائد التفاوض والانتقال؟

خلفية طويلة من التهميش والحرب

قضية جبال النوبة ليست جديدة، بل تعود جذورها إلى قرون من العزلة والقهر والإقصاء الممنهج، فمنذ عهد السلطنات القديمة والحكم التركي وصولا إلى الاستقلال وما بعده، عانت المنطقة من التهميش السياسي والتنموي والثقافي، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع الحرب ضمن الحركة الشعبية، سواء أثناء اتفاقية نيفاشا أو بعدها.

بل إن المنطقة، التي تضم أكثر من 50 مجموعة إثنية وتتحدث أكثر من 100 لغة، ظلت عالقة بين وعود السلام وواقع الحرب، حيث لم تحل قضاياها لا في اتفاق جوبا، ولا في ترتيبات الانتقال، ولا حتى بعد سقوط نظام الإنقاذ.

حرب نسي فيها المدنيون .. وأُقصي فيها الإعلام

رغم حجم الكارثة الإنسانية، تظل جبال النوبة خارج دائرة الضوء الإعلامي، والنزوح الواسع النطاق والمجاعة التي أعلنتها الأمم المتحدة، الانتهاكات الموثقة منذ عشرات السنين، كلها لا تجد مكانها في الاهتمام، في وقت يقتل فيه الناس وتُغتصب النساء، وتحرق القرى بالكامل.

والأسوأ أن المجتمع الدولي بدلاً من أن يطالب بفتح ممرات آمنة، وفرض حماية للمدنيين، يبدو منشغلاً بخرائط التحالفات العسكرية، ومفاوضات النخبة التي لا تشمل من يعيشون في الجبال والمخيمات.

وفي ظل هذا المشهد القاتم، فإن حملة أبناء الإقليم ضد التجنيد القسري ليست فقط معركة على وسائل التواصل الاجتماعي، بل هي صرخة احتجاج وجودي ضد آلة تستنزف أرواحهم بلا مقابل وتعيد إنتاج القهر ذاته الذي خرجوا عليه بالأمس.

 

“لسنا عبيدًا ولسنا مرتزقة ولن نقاتل لأجل قتلتنا”

هذه هي الرسالة التي يرسلها أبناء جبال النوبة للعالم، فهل من مجيب؟

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *