نجم الدين دريسة: تحالف تأسيس .. مدخل لبناء المشروع المدني في السودان

تحالف تأسيس .. مدخل لبناء المشروع المدني في السودان
بقلم الأستاذ نجم الدين دريسة:
إذا أمعنّا التفكير في مقولة القائد الملهم العظيم توماس سنكارا: “الاستقلال لا يُمنَح بل يُنتَزع”، لاتّضح لنا جليًا أننا كشعوب سودانية لم ننَل استقلالنا. وبالنظر إلى تاريخ السودان القريب بعد الاحتلال البريطاني وخُدّامه من المتنطّعين الذين مارسوا التماهي في أقبح صوره مع الاحتلال، وكل أشكال المساومات وأدوات الارتهان التي صنعها، يتبيّن لكل من ألقى السمع وهو شهيد أن كل المؤسسات التي نشأت وتخلّقت كانت من صنائع الاحتلال، وإن تدثّرت بأثواب الوطنية الزائفة. فالجيش الذي يُسمّى بالقوات المسلحة، تخلّق في العام 1925م باسم “قوة دفاع السودان”، والأحزاب التي كانت تدّعي مناهضة الاستعمار هي في الأصل صنائع استعمارية، وكل الجبهات التي كانت تناهض الاستعمار كانت تتقمّص أدوارًا مرسومة لها بعناية فائقة، وظلّت على ذات العقلية تُحكم السيطرة وتمارس البطش عبر جيش “ونجت باشا” لقرن من الزمان. وبالتالي، يصبح حتى الاستقلال نفسه صورة جديدة للاحتلال، فقد تسلّقت مجموعات عبر المحتل من خلال الخدمات المعروفة التي أسدتها إليه، فكافأها بما يُعرف بـ”السودنة”، وتمت صناعة دولة مركزية قابضة خانقة وباطشة ظلّت تخدع الشعوب السودانية عبر بروباغندا صُنعت خصيصًا لقهر شعوب الهامش والأرياف، بالتواطؤ مع سلطاتها التقليدية، والتي انخدعت بدورها وتماهت مع دولة الشر، وسرعان ما أدركت خَطأها ووعَت لظلم الكيانات الهلامية التي أنتجها الاستعمار، فتموضعت مع شعوبها ومجتمعاتها المحلية، وأدركت تمامًا حجم التآمر الذي مُورس ضد شعوبها من قبل الدولة التي ظلت تستخدم سلطتها عبر خلق وكلاء ضد شعوب الهامش، وهو امتداد لاستعمار هذه المجتمعات التي لم تتحرر بعد.
لم يقتصر الأمر عند ذلك الحد، بل ظلّت الدولة المركزية القابضة تستغل موارد هذه المجتمعات بشكل طفيلي جدًا، خاصة أن معظم هذه الشعوب والمجتمعات تقع في الأحزمة الرعوية والزراعية، الأمر الذي حدا بالدولة إلى سرقة جهودهم الاقتصادية وتحويل فوائض قيمة منتجاتهم الزراعية بشقّيها الحيواني والنباتي إلى موارد تدعم خزينة الدولة الأوليغارشية، التي كتبت اسمها بأحرف الخيانة، وسرقت قرنًا من عمر الشعوب السودانية ظلمًا وقتلًا وإفقارًا وتجهيلًا. والمؤسف جدًا أنه، وبالرغم من تنامي الوعي لدى المجتمعات المظلومة، لا تزال العقلية المركزية سادرة في غيّها، حيث ظللنا منذ اندلاع هذه الحرب التي أجّجتها جماعة الهوس الديني وتماهت معها قوى الردّة وأصحاب الامتيازات التاريخية، نرصد ونشاهد خطاب الكراهية المتصاعد والدعاية السوداء الكذوبة عبر أدواتهم الإعلامية الهلامية التي صُنعت خصيصًا لمثل هذه الأغراض الدنيئة. ولكن لم تَعُد خافية على عقلية الهامش، التي استوعبت كل مؤامرات الدولة المركزية واستهبالها، ولن تنطلي على المجتمعات المهمّشة هذه الافتراءات، وتشويه وتزييف التاريخ، ومحاولات غسل الأدمغة عبر هذه المناهج المهترئة. وبالتالي، فإن مسألة تفكيك هذه المركزية باتت أمرًا ضروريًا، وكذلك تفكيك كل التحالفات التاريخية التي ظلّت تمارس الهيمنة، والعمل على تأسيس وبناء دولة سودانية على أسس جديدة، عادلة، ومستدامة.
التأسيس عملية بالغة التعقيد، لا يقوم فقط على معالجة جذور الأزمة السياسية والاجتماعية والثقافية في السودان، ولا حتى على استدعاء مفاهيم الدولة الحديثة القائمة على المواطنة كأساس للحقوق والواجبات الدستورية، والعلمانية، والنظام الفيدرالي أو الكونفدرالي، وتحقيق العدالة الانتقالية… بل نحتاج إلى العدالة الترميمية التي تُؤسس لعقد اجتماعي قائم على المصالحات الاجتماعية وتحقيق التعايش السلمي، ومعالجة العنصرية التي استشرت في كل الأنحاء، وإعلاء قيم الوطنية، ومعالجة كل التصدعات التي أحدثتها الحرب في البناء القومي… مشروع (تحالف تأسيس) يجب أن يرسم خارطة طريق يمكن أن تقود إلى تحقيق سلام عادل وشامل وتحوّل ديمقراطي كامل. والفرص مواتية تمامًا لأن يُصنع من ركام هذه الحروب وطنٌ يقوم على الاعتراف بالتنوع والاختلاف. وبالطبع، فإن العملية ليست سهلة، بل معقدة وشائكة، تماثل المشي على حقل ألغام، لأن تحالف التأسيس سيتعاطى مع تاريخ طويل من التهميش والإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي وتفاوت التنمية. ومؤكد أن الطريق نحو تحقيق التأسيس لا يقوم على الشعارات، بل بالعمل على خلق عقل جمعي بعيدًا عن الانتماءات الضيقة. فالتحديات كثيرة، ولكن تظل الفرص هي الأوفر.